دروس وعبر من مناظرة الحيدة

عبدالله محمد الطوالة
عناصر الخطبة
  1. الاستمساك بالقرآن العظيم .
  2. أزلية الصراع بين الحق والباطل .
  3. لا مسوّغ للتفرّق .
  4. عزة الحق .
  5. أهمية النصح والاحتساب .
  6. الكلام الساقط دليل الخذلان .
  7. العاقبة للمتقين .
  8. خطورة الفتن .
  9. الحاجة للعلماء الربانيين .

اقتباس

موعدنا اليوم -بإذن الله- مع دروس وعبر من مناظرة الحيدة، والتي سبق وأن سردناها على مسامعكم في سبع حلقات متتالية.

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ خالق كلِّ شيء وهاديهِ، ورازق كلِّ حيٍ وكافيهِ، وجامعِ الناسِ ليومٍ لا ريبَ فيهِ. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، كلُّ فوزٍ فلديه، كلُّ خيرٍ بيديه، نشكُرُ اللهَ عليه، فهو منهُ وإليه.

وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، حامِلُ لواءِ الحقِّ ومُعلِيه، ومُعلِّم الهُدى وداعِيه، ومؤسس مجدِ الأُمَّةِ وبانيه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وتابعيه، وسلم تسليمًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.

أمَّا بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ -تعالى-، فاتقوا اللهَ ربكم، واعتبروا بما فات من أوقاتكم، واغتنموا ما بقي من أعماركم، واتعظوا بمن مضوا من أقرانكم؛ فإنكم على دربهم سائرون، وإلى مآلهم صائرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [الانشقاق:6].

وبعد: عباد الله، فموعدنا اليوم -بإذن الله- مع دروس وعبر من مناظرة الحيدة، والتي سبق وأن سردناها على مسامعكم في سبع حلقات متتالية.

وبداية نقول: إن أمتنا المكلومة تمر بفترة عصيبة تلاطمت فيها الآراء والأفكار والثقافات، وتغيرت فيها كثير من الثوابت والمفاهيم والقناعات، إنه زمن شبهاتٍ وشهوات، أرجف بها الأعداء وأذنابهم بخيلهم ورجِلهم؛ ليسقطوا كثيراً من ضعفاء الإيمان صرعى لفتنهم.

فتن من العيار الثقيل، طوفان كقطع الليل المظلم، حتى أمسى الجميع وهو بأمسّ الحاجة إلى ما يشد أزره، ويثبت الإيمان في قلبه، ليصمد أمام ذلك الطوفان الجارف، ولا مخرج ولا ثبات ولا صمود إلا بأن يتجه المرء بكليته إلى كتاب ربه، يتعلمه ويتدبره ويعمل به.

وليس هذا بالأمر الاختياري، بل هو ضرورة حتمية على كل مسلم ومسلمة، قال -تعالى-: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ) [النمل:91-92]، (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ) [العنكبوت:45]، (كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ٱلاْلْبَـٰبِ) [ص:29].

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "تكفَّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة".

وفي المقابل، فقد أنذر الله وحذر من الإعراض عنه وتركه، فقال -سبحانه-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) [طه:124-126].

إنه كتاب الله وكفى، فيه نبأ من قبلنا، وخبر من بعدنا، وحكم ما بيننا، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّارٍ قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدَق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.

كتابٌ كاملٌ شاملٌ قد حوى كل ما تحتاجهُ الأمَّة، كما قال -تعالى-: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام:38]، أمرنا الله بتدبره وفهمه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]، وأمرنا أن نتبعه: (وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام:155].

فإذا اتبعناه عن فهم وتدبر، فسنجد فيه الهداية والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة: (يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ) [يونس:57].

فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بكتاب ربكم، وتدبروا آياته تصيبوا من بركاته، وتنتفعوا بعظاته، وتفوزوا بهداياته، اتلوه حق تلاوته، واعملوا به تكونوا من أهله، فأهل القرآن هم أهل الله وخاصته، وخيركم من تعلم القرآن وعلمه.

ومن الدروس المهمة التي نستقيها من تلك المناظرة الكبرى، أن الصراع بين الحق والباطل كان وما زال وسيستمر إلى أن تقوم الساعة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام:123].

الحق يمثله الصالحون المصلحون، وهم الأنبياء وأتباعهم من العلماء الربانيين، والدعاة والمجاهدين المصلحين؛ جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ". والمفسدون هم أعداء الرسل والرسالات بأي لبوس تلبسوا، وبأي شكل ظهروا.

ولأن الناس قد اختلفوا كثيراً في تحديد الصلاح من الفساد، ومن هو المصلح من المفسد، فالإصلاح يدعيه كل أحد، والفساد والإفساد يتبرأ منه كل الناس، وكل المفسدين في الأرض لا يرون أنفسهم إلا أنهم مصلحون، بل الملاحدة يرون أن الدين هو المفسد للناس! وقديما قال كبيرهم في الفساد والإفساد: (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ) [غافر:26].

فإذا كان الاختلاف في تحديد الصلاح من الفساد، والمصلح من المفسد، قد بلغ هذا الحد؛ فإن الميزان الحق في معرفة ذلك هو في شريعة الله -تعالى-، قال -تعالى-: (وَاللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ) [البقرة:220]، وفي آية أخرى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالمُفْسِدِينَ) [آل عمران:63].

فكل مؤمن بالله -تعالى-، مصدق بموعوده، متمسك بهدي كتابه وسنة نبيه، داع إلى دينه، محارب لكل ما يعارضه، فهو صالح مصلح وإن رُمي بغير ذلك. وكل معارض لشريعة الله -تعالى-، مخالف لكتاب الله، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فهو فاسد مفسد، ولو زعم خلاف ذلك.

ومن الدروس المهمة من تلك المناظرة، أن الله -تعالى- حين أراد هداية الأمة ونجاتها، بعث إليها نبياً واحداً، وأنزل عليه كتاباً واحداً، وجعل لها ديناً واحداً، وقبلة واحدة؛ وأمرها بالاعتصام وعدم التفرق: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران:103]، ومن ثم أصبحت أمة متماسكة موحدة: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:92]، شريعتها واحدة، ونبيها واحد، ودينها واحد، وربها واحد؛ فلا مسوغ للتفرق في الدين.

ومن استقرأ القرآن الكريم وجد أن آياته تكرس في وجدان المسلم الانتماء إلى الأمة الواحدة، والاجتماع على الدين الواحد، وتحذر من الفرقة والاختلاف، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران:103]. وحبل الله هو دينه وكتابه.

وفي الآية الأخرى يُذكِّر الله الأمَّة بوصية ربانية عظيمة؛ ألا ما أسعد الأمَّة لو هي وعتها وطبقتها! قال -تعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [آل عمران:104].

ولعظم هذه الوصية الربانية تكررت في القرآن أكثر من مرة: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الأنعام:153].

تأملوا -يا عباد الله- نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى، ثم محمداً، صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً، هؤلاء هم أولو العزم من الرسل، أوصاهم الله جميعاً: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ).

وفي المقابل، يُنكر الله -عزَّ وجلَّ- على أهل الكتاب اختلافهم في كتبهم: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة:85]، ونهانا الله -تعالى- أن نكون مثلهم، فنتفرق في كتابنا كما تفرقوا: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105].

ومن الدروس، عزة الحق واستعلاؤه على الباطل، فللحق عزة حقيقية متى ما استقرت في قلوب أصحابة قوّتهم ورفعت من شأنهم، فاستعلوا بها على أسباب الذلة والانحناء للباطل.

عزة الحق منزلة شريفة تنشأ عن معرفة المرء بقدر نفسه وما معه من الحق، فلا يخنع للباطل ولا يرضى به، قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8]، وقال -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:139].

ومن الدروس المهمة من تلك المناظرة الكبرى، أن الله -تعالى- قد جَعَلَ بَقَاءَ دِينِهِ، وَانْتِشَارَ شَرِيعَتِهِ، بِاحْتِسَابِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وتقديم النصح والتوجيه على الوجه الشرعي، وَالدْعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَالصْبِر عَلَى ما قد يلحق الداعي من الأَذَى في سبيل تبليغ دعوته؛ فعن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم" متفق عليه. وفي الحديث المشهور في صحيح مسلم، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الدين النصيحة"، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم".

ومن الدروس المهمة أن الكلام الساقط والمنطِق الفاسِد، عنوانُ الحرمان، ودليل الخذلان، قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) [إبراهيم:24-26]. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمةِ ما يتبيَّن فيها يزِلّ بها في النارِ أبعدَ ما بين المشرق والمغرب" متفق عليه.

وشرّ الناس هو المائِل عن الحق بمقاله، المميل بلحن لسانِه، وشرّ الكلام ما خالَفَ كتابَ الله وسنّةَ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، وإنّا لمؤاخَذون بما نتكلَّم به؟! فقال: "ثكِلتكَ أمّك يا معاذ! وهل يكُبّ الناسَ في النار على وجوهِهم إلاّ حصائدُ ألسنتهم؟!" أخرجه الترمذي. وعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخرِ فليقل خيرًا أو ليصمُت" متفق عليه.

بارك الله لي...

الخطبة الثانية:

الحمد لله كما ينبغي لجلاله، وكماله، وعظيم سلطانه.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من أهل الحق وأنصاره.

ومن أهم الدروس التي نستلهمها من مناظرة الحيدة، أن الجولة الأخيرة للحق وأهله، وأن العاقبة للمتقين، وأن الهزيمة والخذلان للباطل وأعوانه من المفسدين.

نعم، قد ينتفش الباطل كثيراً، وقد يطفو على السطح ويتمدد، حتى يظن الغالبية أن لا مكان للحق، وأن الباطل مُتسيد لا محالة، فـ (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ) [آل عمران:196].

لا يغرّنَك ما هم فيه من العتاد والإمداد، لا يغرنَّك ما هم فيه من التعالي والاستبداد، لا يغرنَّك ما يملكونه من قوة وعدّة واستعداد، فكل ذلك مَتَـاعٌ قَلِيلٌ، وحين يأتي الحق كقذيفة ربَّانية، تُزلزل كيان الباطل من أساسه، وتجتثه من أركانَه، يقول -تعالى-: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) [الأنبياء:18]، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) [الرعد:17].

فالحق ساحق، والباطل زاهق، ودولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، والحق أبلج، والباطل لجلج: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء:81]، (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف:118].

ونلاحظ التلازم بين الأمرين، جاء الحق وزهق الباطل، فلا يزهق الباطل إلا بمجيء الحق، ولا يزول الشرك إلا بمجيء التوحيد، ولا تذهب البدعة إلا بانتشار السنة، ولا يخرس المفسدون إلا إذا تكلم المصلحون، ولا تختفي المعاصي إلا بظهور الطاعات؛ فإذا جاء التوحيد بطل الشرك، وإذا جاءت السنة بطلت البدعة، وإذا جاء المعروف زال المنكر.

(يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـٰلَهُمْ * أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَـٰفِرِينَ أَمْثَـٰلُهَا * ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَـٰفِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ) [محمد:7-11].

ومن الدروس المهمة -أيضاً- أن ندرك جيداً خطورَة الفتن، وكيف يلتبس الحق فيها بالباطل، وكيف تتغير القناعات، حتى تُنزل الشبُهات منزِلة المسلَّمات؛ فعن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: "تكون فتنةٌ تعوّج فيها عقول الرجال، حتى ما تكاد تَرى رجلاً عاقلاً"، وروى ابن عبد البرِّ عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه سئل: أي الفتن أشد؟ قال: "أن يُعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تركب".

وها هي الفتن تعصف بالأمة، ولو لم يكن إلا عصفها لكفى، كيف وفي الأمة منافقون ومخذّلون، يكثر خروجهم أيام الفتن، فينفثون سمومهم، ويزينون باطلهم. ولقد عصم الله هذه الأمة من أن تجتمع على ضلالة، وجعل النجاة فيها لمن استمسك بالكتاب والسنة ولزم الجماعة.

ولقد حبا اللهُ هذه الأمة نجومًا تُزيّن سماءها تهدي السالكين، وتهوي على الشياطين، أعني بهم العلماء الربانيين، أنقى صفحات هذه الأمة وأسناها، بهم يهتدي الناس، وإليهم يرجعون، وعنهم يصدرون، فهم صمام الأمان قبل وقوع الفتن، وطوق النجاة عند حلولها؛ فإذا ذهبوا ذهب العلم وأقبل الجهل، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل، ويُرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج"، قيل: وما الهرج؟ قال: "القتل".

فالزموا -يا عباد الله- غرز العلماء، والتفوا حولهم، ذُبُّوا عن أعراضهم، واحفظوا عيبتهم، وإن رأيتم منهم ما تكرهون فاستبينوا أمرهم، وانصحوا لهم، فإنهم بشرٌ لهم وعليهم، ومن نال منهم فإنما ينال من حملة الدين، ويثلم في بنيانه.

وإننا اليوم، كما في أيام تلك المناظرة، أحوجُ ما نكون إلى أهل العلم الربانيين، وإلى أن نوحد صفنا تحت رايتهم، وأن لا ندع لمغرضٍ علينا ولا عليهم سبيلاً، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) [الروم:60].

ويا بن آدم، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به. البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت.

اللهم صل وسلم...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي