لنكن صُرحاءُ مع أنفُسِنا، ولنتحلى بشيءٍ من الشجاعة، ولنتساءل بصدق: هل يكفي أن ندَّعِيَ محبةَ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، دونَ أن يكونَ لهذا الادعاءِ واقعٌ حقيقيٌ في حياتنا؟, بعبارة أخرى: كيف تكون محبتُنا له صادقةٌ، بينما حياتُنا في أغلب مظاهِرها مخالفةٌ لهديه الكريم، بعيدةٌ عن منهجه القويم؟, أيُّ محبةٍ هذه! لمحبوبٍ ألسِنتُنَا مَعَهُ، أمَّا حياتُنا فليست معه...
الحمدُ للهِ الملكِ العزيزِ الجبَّارِ، (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)[الرعد: 16]، سبحانهُ وبحمده عجِزتْ عن إدراكِهِ العيونُ والأبْصارُ، وتحيَّرتْ في عظمتِه العقولُ والأفكارُ، (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)[الأنعام: 103]، أحمدهُ -سبحانهُ- وأشكرهُ، وأتوبُ إليهِ -تعالى- وأستغفرهُ، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إبراهيم: 34].
وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ)[ص: 66], وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، المجتبى المختار، هوَ صفوة الباريِ وخاتمُ رُسلِهِ, وأمينُهُ المخصوصُ منهُ بفضلهِ.
لا درَّ درُّ الشعرِ إنْ لمْ أُملِهِ *** في مدحِ أحمدَ لؤلؤاً منثوراً
صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ وأنعمَ عليهِ، وعلى آله الأطهارِ، وصحابتهِ الأبرارِ، والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ، ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-؛ فتقوى اللهِ هي الزادُ الأعْظَمُ، والطريقُ الأكْرَمُ، والمنهجُ الأقْوَمُ، والسبيلُ الأسْلَمُ، والتزموا سنَّةَ نبيكم -صلى اللهُ عليه وسلَّم- تهتدوا، وأخلِصوا لله -تعالى- نياتِكم تُفلِحوا، وابتعدوا عن المنكرات تسْلموا، واستبِقوا الخيراتِ تغنموا وتربحوا، (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ)[آل عمران: 198].
أحبتي في الله: إذا كان الحديث عن العظماء أمرٌ تُحِبهُ النفوسُ، وتتَشَنَفُ له الآذان، فكيف بالحديث عن أعظمِهم, كيف بالحديث عمن اختَصَهُ اللهُ بخصائصَ لم تجتمِع في أحَدٍ من قبلِه ولا من بعده؟! فله الوسيلةُ والفضيلةُ والمقامُ المحمودُ، واللواءُ المعقودُ، وله الشفاعةُ العظمى وله الكوثر، وعرج به إلى السماء السابعة، وهو أولُ من تنشقُ عنهُ الأرضُ يوم القيامة، وأولُ من يُفتحُ له بابُ الجنةِ، وهو أولُ شافعٍ وأولُ مشفّعٍ، وهو سيّدُ ولدِ آدمَ أجمعين.
محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- الذي زكاه ربه تزكيةً ما عُرِفت لأحدٍ غيرهِ من المخلوقين؛ فلقد زكى اللهُ عقلهُ فقال: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)[النجم: 2]، وزكى لسانهُ فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)[النجم: 3]، وزكى شرعهُ فقال: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم: 4]، وزكى قلبهُ فقال: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)[النجم: 11]، وزكى بصرهُ فقال: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)[النجم: 17]، وزكّى معلِّمهُ فقال: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى)[النجم: 5، 6]، وزكى أخلاقهُ فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم: 4]، وزكى دعوتهُ فقال: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)[يوسف: 108], نعتهُ بالرسالة: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)[الفتح: 29]، وناداهُ بالنبوة: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ)[الأنفال: 64]، وشرفهُ بالعبودية فقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)[الإسراء: 1]، وشهِد لهُ بالقيام بها فقال: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ)[الجن: 19].
فنحن أمامَ رجلٍ عظيمٍ ما عُرفَ في التاريخ عظِيمٌ يُدانيه, أزكى الأنامِ، وبدرُ التمامِ، ومسكُ الختامِ، وخيرُ من صلّى وصامَ, بلغَ العُلا بكمالِه، كشفَ الدُجى بجمالِه، بهرَ الأُولى بمقالِــه، أســرَ العِـــداء بـفـعــالــهِ، حسُنتْ جميــعُ خِصــالهِ.
لما أضاءَ على البرية زانها *** وعلا بها فإذا هو الثقلان
فوجدتُ كلَّ الصيدِ في جوف الفِرا *** ووجدتُ كُلَّ النَّاسِ في إنسان
محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- الذي لا تُحصَى فضائِلهُ، ولا تُعدّ مزاياهُ، فما من صفة كمالٍ إلا واتّصفَ بها، ولا من منقبةِ فضلٍ إلا وتحلى بها، جمعَ اللهُ له أجلَّ المقاماتِ, وأسمى المراتبِ, وأكملَ المناقبِ، واجتمعَ فيه من الخصائصِ والفضائلِ والمزايا ما تفرق بين سائرِ الرسل، عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- الذي شرحَ اللهُ له صدره، ووضعَ عنهُ وزره، ورفعَ له ذِكره، وأتمَّ له أمره، وأعلى في العالمين قدره، وقرنَ اسمهُ باسمه، لا ينقطعان لحظةً من الزمن، كُلَّما سكتَ مؤذنٌ بدأ الآخر, أتم عليه نعمته، وأسبغ عليه لطفه وهدايته، وأكمل له دينه، وبرّ يمينه, ووعده بالمزيد حتى يرضى، وولاّه قبلةً يرضاها, صَفْوةُ عبادِ الله، وأكرمُ الخلقِ على الله، فحينما قال موسى الكليم -عليه السلام-: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه: 84]، قال الله له: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضحى: 5]، وحين سأله موسى: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي)[طه: 25]، قال الله لخليله ومصطفاه: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)[الشرح: 1].
فرض على المؤمنين محبته، فلا يؤمنُ مؤمنٌ حتى يكون محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- أحبَّ إليه من نفسه ووالدهِ وولده والناسِ أجمعين، تفضلَ عليه بالوحي والرسالة، واصطفاهُ من بين خلقه ليكونَ خاتمَ أنبياءهِ ورسلهِ، وكان فضلُ اللهِ عليهِ عظِيمًا, وكان يُعرفُ بريح الطيبِ إذا أقبل، أجملُ النّاس خَلْقاً، وأحسنُهم خُلُقاً، وأعزُهم نسبًا، وأعرقُهم حسَباً، دائمُ الابتسامة.
أهدبُ الأشفار، أكحلُ العينين، كأنهُ سبيكةُ فضةٍ، مليحُ الوجهِ، كالقمر ليلةَ البدرِ استنارةً وضِياءً، أشدُّ حياءً من العذراء، يقول أنسٌ -رضي الله عنه-: "ما مسستُ حريراً ولا ديباجاً ألينَ من كفِّ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-", خيرُ البريَّةِ وأزكاهَا، وأبرّهَا وأتقاهَا، وأشرَفهَا وأعلاهَا، وأطهرهَا وأنْقاهَا، وأنْصحهَا وأصْدقهَا وأوفاهَا, أعظمُ الناسُ تواضعًا، يُخالطُ الفقيرَ والمسكين، ويسلّمُ على الصبيان، ويعودُ المرضى، ويشهدُ الجنائز، وينطلقُ مع الجاريةِ الصغيرة، تأخذهُ بيده إلى حيث شاءت، يجلسُ ويأكلُ على الأرض، يعقِلُ الشاةَ فيحلِبُها، يخصِفُ نعلَهُ، ويخِيطُ ثوبهُ، ويخدِمُ أهلَهُ، يبِيتُ اللياليَ طاويًا بلا عَشاءٍ، يَعصِبُ الحجرَ والحجرينِ على بطنه من الجوع، يقبَلُ الهديةَ ولا يأخذُ الصدقةِ, بالمؤمنين رؤوف رحيم.
أوفرُ الناسِ عقلاً، وأسدُّهم رأيًا، وأصحُهم فِكرة، وأسخاهُم يدًا، يُعطي عطاء من لا يخشى الفقر, أرحبُّ الناس صدرًا، وأوسعهم حُلمًا، ولا يزيدهُ جهلُ الجاهلينَ عليهِ إلا عفواً وسماحة, ألينُ الناسِ عريكةً، وأسهلُهم طبعًا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختارَ أيسرهما ما لم يكن مُحرمًا, أشجعُ الناسِ قلبًا، وأقواهُم إرادةً، يخوضُ الغِمارَ وهو يقول: "أنا النبيُ لا كذب، أنا أبن عبد المطلب".
أعفُّ الناس لسانًا، وأوضحُهم بيانًا، أوتي جوامِعَ الكلمِ، واختُصِرَ له الكلامُ اختِصارا, أعدلُ الناسِ حكماً، وأنصفُهم في الخصُومة، يَقِيدُ من نفسِه، ويقضِي لخصمِه، ويُقسِمُ بالذي نفسُهُ بيده: "لو أن فاطمةَ بنتِ محمدٍ سرقتْ لقطعَ يدَها", أسمى الخليقة روحًا، وأعلاهُم نفسًا، وأزكاهُم أخلاقاً، أعرَفُ الناس بربه، وأشدُّهُم صَلابةً وقيامًا بحقه، وأقومَهُم بفروض العبادةِ ولوازمِ الطاعةِ، معَ تناسُقٍ عجيبٍ في أداء الواجبات، وقضاءِ الحقوقِ.
أزهدُ الناسِ في الدنيا، ولو شاءَ لكانَ أكثرُهُم فيها عَرضا، يَطَعمُ ما تيَسر، لا يُردُّ موجُودًا، ولا يتكلّفُ مفقوداً، ينام على الحصير حتى يؤثرَ في جنبه، أرفقُ الناسِ بالمحتاجين، وأعظمُهم رحمةً بالمساكين.
خيْرُ البرِيَّةِ أقْصاهَا وأدْناهَا *** وهوَ أبرُّ بـنِي الـدُّنْيــا وأوْفــاهَـــا
أتَى بـهِ اللَّهُ مَبــعُوثًـا وأُمَّتُــهُ *** علَى شفَا جُرُفٍ هَارٍ فأنْجَاهَا
يا من لهَ الكوْثرُ الفيَّاضُ مكرُمةً *** يا خاتمَ الرُّسُلِ يا أعْلاهمو جاهَا
ما نالَ فضْلَكَ ذو فضْلٍ سِواكَ ولا *** سَامَى فَخَاركَ ذو فَخْرٍ ولا ضَاهَى
وصدق حسان وأحسن أيما إحسان:
وأجملُ منك لمْ ترَ قَطّ عينٌ *** وأفضل منك لم تلد النساء
خُلِقت مبرّأً من كل عيبٍ *** كأنّك قد خُلِقتَ كما تَشاء
إنه محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وكفى، الأخشَى لربِّه والأتقَى، والأطهرُ سريرةً والأنقى، والأَحسنُ أخلاقاً والأرقى، والأكثرُ أتباعاً والأبقى, محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- حيث الكمال الخُلقيّ، وحيث السمو والرقي, أنموذجُ الإنسانية الكاملة، وملتقى الأخلاق الفاضلة, بلَّغَ الرسالةَ أحسنَ بلاغٍ، وأدى الأمانةَ أحسنَ أداءٍ، ونصحَ الأمَّةَ أصدقَ نُصحٍ، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده.
آذاهُ قومهُ فصبر، وعذبوا أصحابهُ بألوان العذابِ فثبت، أخرجوهُ من مكة، وطردوه من الطائف، ثم يُعُرضَ عليه إهلاكُهم فيتأنى بهم قائلاً: "لعل الله أن يخرجَ من أصلابهم من يعبد اللهَ لا يشركُ به شيئاً"، يَعرِضُ نفسَهُ في موسم الحجِ على القبائل قبيلةَ قبيلة، فيقابلُ بأسوءِ مقابلة، ويُردُّ عليه بأقبح الردود، ويُشجّ رأسهُ يومَ أحدٍ، وتُكسرُ رُباعيته، ويُقتلُ عمُّه وخواصُ أصحابه بين يديه، ويتكالبُ الأعداءُ ويحاولون قتلهُ مرّةً بعد مرّة، كلُّ ذلك وغيرهُ كثير، وهو صابرٌ في سبيل تبليغ دعوة ربه، ونشر دينه.
محمد بن عبد الله أعزُّ الناسِ نسبًا، وأعلاهم منزلةً، وأشرفُهم مكانةً, ولِدَ تحت النور، الكلُّ يتحدثُ عنه ويبشِرُ بقدومه، نأىَ في طفولته عن ملاعِبِ الصبيان، ومحافلِ المجون، فإذا دُعي لشيءٍ من ذلك قال: "إني لم أُخلق لهذا"، شبابهُ ورجولته, بل حياتهُ كُلُّهَا مِلءَ السمعِ والبصرِ، فإذا الطُهرُ والعفافُ، والصدقُ والأمانة، حتى لقبهُ قومهُ بالصادق الأمين، لكأن الله جلّت قدرته يقول للعالمين: هذا رسولي إليكم، وتلك تفاصيلُ حياتهِ، كُلُّهَا مكشوفةً أمامَكم، فافحصوها جيداً، ودققوا في تفاصيلها ملياً، فهل ترون من خلل أو زلل؟، هل كذَبَ مرةً أو خان؟، هل ظلمَ أيَّ إنسان؟، هل قطعَ رحِماً؟، هل استقبلَ صنماً؟.
فيا عُقلاءَ العالم: رَجُلٌ بكلِّ هذه العظمة والروعة, يظلُ أربعينَ عاماً لم يكذِب قطُّ على أحدٍ من العالمين، ثم تزعمون أنه يكذب, وعلى من على ربِّ العالمين؟! ألا إن الذين يمارونَ فيهِ لفي ظلالٍ مُبين, لقد رآه عُقلاء قومِهِ عن قُربٍ، فعرفوا صِدقهُ فآمنوا به واتبعوه، ثم ازدادوا به إيماناً ويقيناً لما رأوه فيما بعد، وقد تمكنَ من رقاب أعدائهِ، أولئك الذين آذوه أشدَّ الإيذاء، ثم يقول لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وتفُتحُ عليه الغنائم، وتأتيه الأموال أرتالاً، فإذا هو هو، لا يزدادُ إلا زُهداً وورعاً، وحتى يلقى ربهُ حينَ يلقاهُ، وقد أثَّرَ في جنبه الحصير، ودِرعُهُ مرهونةٌ عند يهوديٍ في كومةٍ من شعير, هكذا عاشَ حياتَهُ كُلَّهَا وإلى اللحظة الأخيرةِ كما بدأها، أواهٌ، أوابٌ، مُتبتِلٌ, لم يتخلَفْ عن نافِلةٍ، ولم تتغير فيه خُلَّةٌ, ثم يكون كاذباً, فلمَ يكذِبُ إذن؟! ألا إن الذين يمارونَ فيهِ لفي ظلالٍ مُبين.
أكرم الله أمته كرامة له، فكانت خيرَ أمّةٍ أخرجت للناس، وأحلَّ الله لها الغنائم، ووضعَ عنها الآصارَ والأغلالَ التي كانت على من قبلها، وتجاوزَ عنهم الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه، وحفِظهم من الهلاك والاستئصال، وجعلها أمَّةً مباركةً لا تجتمعُ على ضلالة، وأعطاهم الأجرَ العظيمَ على العمل القليل، ويأتونَ يومَ القيامةِ غُرًا مُحجلينَ من أثر الوضوء، ويسبقون سائر الأممَ إلى الجنة.
أظهرَ اللهُ على يديه من المعجزات ما يُبهرُ العقولَ، ففلقَ لهُ القمرَ فلقتينِ، وتكلمت الحيواناتُ بحضرته، وسبَّحَ الطعامُ بين يديه، وسلمَ الحجرُ والشجرُ عليه، وتكاثر الطعام والشراب بين كفيه، وأخبر بالمغيبات، فما زالت تتحقق في حياته وبعد وفاته، ومهما قيل, ومهما قلنا، فسنظلُ جميعاً كأن لم نقل شيئاً, وعلى تفنُنِ واصفيهِ بوصفهِ, يفنى الكلامُ وفيه مالم يُوصَفِ, وصدق الله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة: 128]، صلوات الله وسلامه عليه.
أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ, وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ, فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
أحمد الله على إحسانه وأفضاله؛ كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وأصلي وأسلم على نبيه المكمل بإرساله، المؤيد في أقواله وأفعاله، وعلى جميع صحبه وآله.
أما بعد : فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب.
أحبتي في الله: وما فقد الماضون مثل محمدٍ *** ولا مِثلهُ حتى القيامةِ يُفقدُ
أيها المسلمون الكرام: ومع حبِّ المسلمين الكبير لنبيّهم وتعظيمِهم له، وتوقيرهم لجنابه الكريم، فإنّ عقيدتهم فيه أنه بشرٌ رسول، عبدٌ لا يُعبَد، ورسولٌ لا يُكذَّب، بل يُطاعُ ويُحبُّ، ويوقَّرُ ويُتَّبَع, ولقد علَّمَنا ربُّنا موقِعَ نبيّنا منّا، فقال -عزَّ شأنه-: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)[الأحزاب: 6]، فهو أقربُ إلى قلوبنا من قلوبِنا، وأحبُّ إلى نُفُوسِنَا من نُفُوسِنَا.
ولن يَذوقَ المسلمُ حلاوةَ الإيمانِ حتى يكونَ حبُّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنده فَوقَ كُلّ حبيب، ففي الحديث الصحيح: "ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان"؛ أحدها: "أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما", بل يترقّى ذلك إلى حدّ نفيِ الإيمان؛ كما في الحديث الصحيح الآخر: "لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين", فالقلوبُ مجمِعةٌ على حُبِّه -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الأمر الأهمَّ هو كيف نعبِّرُ عن هذا الحُبِّ, التعبيرَ الصحيح؟, بعبارة أصح: كيف نحوِّلُ هذا الحبَّ إلى برنامجِ حياةٍ عملي, يحكُمُ واقِعنَا، ويُسيِّرُ تصَرُفاتنا؟.
أحبتي في الله: لنكن صُرحاءُ مع أنفُسِنا، ولنتحلى بشيءٍ من الشجاعة، ولنتساءل بصدق: هل يكفي أن ندَّعِيَ محبةَ الرسول -صلى الله عليه وسلم-، دونَ أن يكونَ لهذا الادعاءِ واقعٌ حقيقيٌ في حياتنا؟, بعبارة أخرى: كيف تكون محبتُنا له صادقةٌ، بينما حياتُنا في أغلب مظاهِرها مخالفةٌ لهديه الكريم، بعيدةٌ عن منهجه القويم؟, أيُّ محبةٍ هذه! لمحبوبٍ ألسِنتُنَا مَعَهُ، أمَّا حياتُنا فليست معه! أيُّ محبةٍ ندَّعِيَهَا, لمحبوبٍ نترنَّمُ بمناقِبهِ, ونشدو بسيرتِهِ، حتى إذا عُدنا إلى أنفسنا، ورجعنا إلى حياتنا، فإذا بنا في بيوتنا، وفي أسواقنا، وفي مكاتبنا، وفي متنزهاتنا، وفي ثقافتنا، وفي شكلنا ولباسنا وهيئاتنا، وفي سلوكنا وعلاقاتنا، وفي تجارتنا ومصالحنا, وفي كثيرٍ من شؤون حياتنا، لا نعيش معه -صلى الله عليه وسلم-، ولا نلتزمُ بمبادئه الرفيعة، وأخلاقهِ الكريمة، وآدابهِ السامية! وإذا رأينا هذه المبادئُ والآدابُ تُهانُ ويُسخرُ بها, فلا تأخُذنا الحميّةُ ولا نغضب لها، ولا ننتصرُ لسنة رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، ولا ندافعُ عنها, فأين الدليلُ العمليُ على صدق ما ندعيه من المحبة ؟!.
أمرُ آخرَ -يا عباد الله- فالصحابةُ -رضي الله عنهم- قد حفِظوا لنا سنَّتهُ كاملةً غيرَ منقوصة، وبلَّغوها لنا أحسنَ بلاغ, فكم منَّا من حرِصَ على تعلُّم هذه السُنةِ؛ كما يريدُ مِنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها, وعضوا عليها بالنواجذ"، "بلغوا عني ولو آية، فرُبَّ مُبلغٍ أوعى من سامعٍ"؟ كم منَّا من قرأ صحيح البخاري ومسلم، بل كم منَّا من قرأ مختصرهما، أو حتى مُختصرَ المختصر؟, وفي المقابل فكم من سُنةٍ من سنن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- نعلَمُهَا جيداً، ونفقهُهَا تماماً، ولكننا لا نُطبِقُها ولا نَعْمَلُ بِها، فَضلاً عن نشرِهَا وتعْلِيمِهَا؟!.
وإذا فتشت عن السبب، وجدت أن أكثرنا مشغولين بمحبوبين آخرين، يُعكَفُون عليهم كل ليلةٍ، ويُتسَمّرُون أمامهم في الشاشات ساعاتٍ وساعات، يُتابعونَهم بإعجابٍ كبير، ويقلدونهم تقليداً أعمى !.
فيا مُدَّعِ حُبَّ طهَ لا تخالِفَهُ *** الخُلفُ يحرُمُ في دُنيا المحبِينَ
لو كَانَ حُبُكَ صَادِقاً لأطَعتَهُ *** إنَّ الـمُحِبَّ لمن يُحِبُّ مُطِيعُ
(الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)[العنكبوت: 1، 2]، فلا بُدَّ أن يُبرهِن المسلمُ على صدق محبتهِ للمصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وذلك بأمرين مُهِمَين؛ الأول: الفهمُ الصحيحُ لمراد الله -تعالى- ومرادِ رسوله -عليه الصلاة والسلام-, قال -تعالى-: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 17، 18], وهذا ما يطلبه المسلم في صلاته: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة: 6].
الأمر الثاني: سُرعةُ الاستجابةِ وقوةُ الامتِثَالِ، فبمجردِ تلقي الأمرِ من الله ورسولهِ يبادرُ إلى تنفيذه فوراً: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[النور: 51], فكم من المسلمين من يسمعُ كلامَ اللهِ وكلامَ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، يعيه جيداً، ويفهمه تماماً, حتى إذا خرجَ من المسجد, فكأنه لم يسمع شيئًا!, هذا هو الاختبار الحاسم -يا عباد الله-, وهنا يفترقُ الناسُ إلى فريقين؛ فريقٌ صادقٌ في حبِّه لله ورسولهِ, وآخرُ مسكينٌ, يغُشُ نفسهُ ويكذِبُ عليها، جاء في الحديث الصحيح: "لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواهُ تبعاً لما جِئتُ به".
فتعلموا -يا مسلمون- كيف تحبونَ رسولَكم -صلى الله عليه وسلم- الحبَّ الصادِقَ الصحيح؟ واعلموا أن أصدقَ وسيلةٍ للتعبير عن حُبِّ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- هيَ تعلُّمِ سُنتِهِ وتطبِقِيها, وتقديمها على ما سِواها؛ (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 31], وكذلك نشرُها والدعوةُ إليها, والذبُّ عنها والصبرُ فيها, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر: 1 - 3].
ويا ابن آدم! عش ما شئت؛ فإنك ميت، وأحبب من شئت؛ فإنك مفارقه، واعمل ما شئت؛ فإنك مجزي به، البر لا يبلى, والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
وصلوا وسلموا على سيدنا محمد؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي