في ديننا آدابٌ وأحكامٌ شرعيةٌ، في التعامُل مع الحيوانات؛ فالإسلام حَرِصَ على الرفق بها، وذلك قبلَ نشوء المؤسَّسات التي تهتمُّ بالحيوان، ومن الرحمة بالحيوان والطير، أنَّه لا يجوز تعذيبها ولا تجويعها، أو تكليفها ما لا تُطِيقُ...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسله ربه هاديا ومبشرا ونذيرا، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].
أما بعدُ: فإنَّ التفكر في مخلوقات الله من أجلِّ العبادات القلبية، وأسباب زيادة الإيمان، وقد جعَل اللهُ لنا في هذا الكون من الآيات والعِبَر الدالَّة على ألوهيته، فجميع المخلوقات سُبُلٌ متصلةٌ إلى معرفته، وحُجَجٌ بالغةٌ على ربوبيته، والكون جميعه ألسن ناطقة بواحدنيته.
وممَّا دعا اللهُ عبادَه إليه، النظر في السماوات والأرض، نظرَ فكرٍ واعتبارٍ وتأمُّلٍ، قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)[يُونُسَ: 101].
عبادَ اللهِ: ومن تلك الآيات الباهرة والمخلوقات البديعة، التي هي محلٌّ للتفكُّر والنظر، الطير؛ ذلك المخلوق العجيب، الذي قد جعَل الله له من الخصائص والسِّمات، ما يمتاز به عن غيره، ويدلُّ دلالةً واضحةً على كمال قدرته -سبحانه- وبديع صنعه، والطيرُ أُمَّةٌ من الأمم، قال جَلَّ ثناؤه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)[الْأَنْعَامِ: 38]، فالطير جماعاتٌ وأجناسٌ؛ مُماثِلةٌ لبني آدم في الخلق والرزق، والحياة والموت والحشر، ومتى طَغَى بعضُها على بعض، أو ظلَم بعضُها بعضًا حوسبت يوم القيامة، واقتُصَّ من ظالمها لمظلومها، وإن لم يكن من قصاص التكليف؛ إذ لا تكليف عليها، بل هو قصاص مقابَلة، ففي (صحيح مسلم) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَتُؤَدُّنَّ الحقوقَ إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء"، وبعد أن يحكم الله بين الدوابِّ بحكمه العدل، يجعلها ترابًا.
عبادَ اللهِ: وممَّا نبَّهَنا اللهُ إلى النظر إليه، تسخير الطير بين السماء والأرض، وهي تبسط جناحيها وتقبضهما في الهواء، قال عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[النَّحْلِ: 79]، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)[الْمُلْكِ: 19].
والطير تسبِّح ربَّها، كما تسبِّح المخلوقاتُ كلُّها، قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)[الْإِسْرَاءِ: 44]، وقال تعالى في بيان حال الطير، وهي تسبِّح صافَّةً أجنحتَها في الهواء: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)[النُّورِ: 41]، فأين الغافلون عن ذِكْر الله؟ وهذه المخلوقات كلُّها ناطِقُها وجامدها خاشعةٌ ذليلةٌ، تسبِّح اللهَ وتتَّجِه إليه لا إلى سواه، في تناسُقٍ بديعٍ، ونظامٍ عجيبٍ، والطير تسجُد لخالقها، كما أنَّ كل شيء لعظمته طوعًا وكرهًا، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)[الْحَجِّ: 18]، والمراد بالدوابِّ في الآية الحيوانات كلها، والطير منها.
والطير -عباد الله- من الكائنات التي سخَّرَها اللهُ لنبيِّه داود -عليه السلام- تطيعه وتسبِّح اللهَ تَبَعًا له، قال تعالى: (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ)[ص: 19]، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ)[سَبَأٍ: 10]، ومعنى (أَوِّبِي مَعَهُ)[سَبَأٍ: 10]؛ أي: رجِّعِي معه مسبحةً معه، قال جل في علاه: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 79]، كما أن الطير كانت من الجنود المسخَّرة لنبيِّ الله سليمان -عليه السلام-، قال تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)[النَّمْلِ: 17]، وامتنّ اللهُ عليه بفَهْم أصوات الطير، يَفقَهُ ما تقول وما تتكلَّم به، فقال شكرًا لله وتحدُّثًا بنعمته: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ)[النَّمْلِ: 16].
معاشرَ المسلمينَ: وهذه الطيور تعلِّم الناس دروسًا وعبرًا، تفيدهم وينتفعون بها في حياتهم، ففي قصة قابيل الذي قتَل أخاه هابيل، دروسٌ كثيرةٌ؛ منها: إلهام الله ذلك الغراب، أن ينزل ويُثِير الأرضَ ليدفن فيها غرابًا ميتًا، ويعلِّم قابيلَ كيف يستُرُ بدنَ أخيه، قال تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ)[الْمَائِدَةِ: 31]، وفي قصةِ تفقُّدِ سليمانَ -عليه السلام- الطيرَ عِبَرٌ وعظاتٌ متعددةٌ؛ منها: قول الهدهد مُخاطِبًا سليمان: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ)[النَّمْلِ: 22]، فيه بيانٌ بأن سليمان على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمَّة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاه الله في علمه؛ بأن علَّم الهدهد ما لم يعلمه، وأطلَعَه على ما لم يُطلِعْه عليه، وأنَّ في أدنى خلق الله وأضعَفِه ما أحاط علمًا بما لم يحط به؛ لتهون عليه نفسُه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفًا له في ترك الإعجاب، الذي يُفسِد العملَ، ويُنسِي شكرَ النعمة.
ومن هدايات الآية: أن يدرك المرء أنَّه قد يكون عند من هو أصغر منه سِنًّا، وأقل علما، ما ليس عنده، فلا يحتقره، بل عليه أن يستفيد من كل أحد، ولا يأنف أن يسمع من غيره وينتفع منه، ومهما أُوتِيَ المرءُ من علمٍ، ومهما بلَغ علمُ الخلق فهو محدودٌ، لا يُعَدّ شيئًا أمامَ عِلمِ اللهِ الواسعِ الشاملِ، الذي أحاط بكلِّ شيءٍ، فقد ورَد في قصة موسى والخَضِر -عليهما السلام-، كما في (صحيح البخاري)، قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي البَحْرِ نَقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ مِنْ هَذَا البَحْرِ"، فعِلْمُ الخضرِ وعلمُ موسى وعلمُ المخلوقات كلها ينتظمه قولُ الله -عز وجل-: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)[الْإِسْرَاءِ: 85].
وفي قوله -تعالى-: (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)[النَّمْلِ: 22]، دلالة على شدة تيقُّن الهدهد من صحة الأخبار والمعلومات، وليس نقل شائعات، أو إذاعة أقاويل، أو تداوُل ما يسمع، دون تثبُّت، وفي قوله -تعالى-: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ)[النَّمْلِ: 24-25]، دلالة على أن الهدهد مفطور على التوحيد، مجبول على العبودية لله، فقد كَبُرَ عليه سجودُ مَلِكةِ سبأٍ وقومِها للشمس، وشِركُهم لله المعبود الذي لا يستحقُّ العبادةَ سواه، وهكذا كلُّ نفسٍ سويةٍ وفطرةٍ سليمةٍ، تُدرِك الحقَّ وتَتبَعُه، وتُبغِض الباطلَ ولا تُقِرُّ به.
عبادَ اللهِ: ومن الآيات التي أرسلها الله على قوم فرعون، عقابًا لهم على تكذيبهم وعنادهم، الجراد، يأكل زروعهم ونباتهم، قال تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ)[الْأَعْرَافِ: 133]، وفي قصة طير الأبابيل، التي أرسلها الله على أبرهة وأصحابه؛ أصحابِ الفيل، حينَ أرادوا هدمَ الكعبة، عبرةٌ وموعظةٌ، قال تعالى: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)[الْفِيلِ: 3-5].
أيها المسلمون: والطيرُ مثالٌ عظيمٌ للتوكُّل على الله، فقد صحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا"(رواه أحمد والترمذي).
ولا يعني هذا أن يقعد الإنسان عن العمل والاكتساب، منتظرًا الرزق، بل عليه أن يبذل السبب، فهذه الطيور لا تبقى في أوكارها تنتظر رزق الله، بل تخرج في الصباح، وتتسبَّب وتتكسب، ثم بعد ذلك ترجع في آخر النهار، ممتلئةَ البطون، ومن توكَّل على الله حقَّ توكُّله ارتبط قلبُه بالله، وعلم أن الاكتساب والغنى والتحصيل، لا يكون بما أُوتِيَ من ذكاء وطاقة ومهارة، وحرفة وصنعة وما أشبه ذلك، وإنَّما يعتقد جازمًا أن الله هو مسبِّب الأسباب، وأنَّ أَزِمَّةَ الأمورِ في يده، فيتوكل عليه، ويبذل الأسباب بطلب الرزق من وجه حلال، والله الغني الرزَّاق، المتكفِّل برزق العباد، وهو إلى مشيئته، فمن شاء وسَّع عليه في رزقه وأكثر، ومن شاء ضيَّق عليه رزقه وقتَّر، وكل ذلك وَفْقَ حكمتِه فيما قضى وقدَّر.
وممَّا يستفاد من هذا الحديث أن الطيور تعرف خالقها -عز وجل-، وتطير تطلُب الرزق، بما جبَلَها اللهُ عليه من الفطرة التي تهتدي بها إلى مصالحها، كما أنَّ في كونها تغدو إلى محلات بعيدة، وتهتدي بالرجوع إلى أماكنها لا تُخطئها دلالةٌ على حكمة الباري الذي أعطى كلَّ شيء خلقَه ثم هدى.
إخوةَ الإسلامِ: وجوه الاتعاظ والاعتبار بالطير متعددة، ففي (صحيح مسلم) عنه، -صلى الله عليه وسلم- قال: "يدخل الجنةَ أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير"، وهذا الوصف لأفئدة هؤلاء القوم يحتمل ثلاثة أمور؛ إمَّا أن قلوبهم مثل أفئدة الطير في الرقة واللِّين والرحمة والصفاء، أو أن قلوبهم مثل أفئدة الطير في الخوف والهيبة، والطير أكثر الحيوانات خوفًا وحذرًا، فهم قوم رقَّت قلوبُهم فاشتد خوفهم من الآخرة، أو أن المراد أن هؤلاء القوم وهم في توكلهم على الله مثل الطير، التي هي أعظم المخلوقات توكلا على الله، تجدها تخرج في الصحراء، لا تدري هل تلقى حبًّا أو لا، فتلقى حبًّا، ويملأ الله بطنَها طعامًا بدون حيلة، فالطير من الدواب التي لا تطيق جمعَ رزقها وتحصيله، ولا تدَّخِر شيئًا لغد، بل يقيِّض اللهُ لها رزقَها على ضَعْفها، ويُيَسِّره عليها، كما قال عز وجل: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْعَنْكَبُوتِ: 60]، وقال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)[هُودٍ: 6].
أيها المسلمون: ومن أمثلة عبودية الطير لربها ما ورد في (الصحيحين)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمعتُم صياحَ الدِّيَكَةِ، فاسألوا اللهَ من فضله؛ فإنَّها رأت ملكا"... الحديثَ.
وصحَّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "لا تسبُّوا الديكَ؛ فإنَّه يوقظ للصلاة"(رواه أبو داود)، وفي لفظ عند أحمد: "فإنَّه يدعو إلى الصلاة"، فسبحان مَنْ ألهَمَه ذلك، وأبدَع خلقَه وأتقَنَه، وفي الحديث دليل على أن كُلَّ مَنِ استُفيد منه خيرٌ لا ينبغي أن يُسَبَّ ولا يُسْتَهَان به، بل حقه الشكر والإكرام، وأن يُتلقَّى بالتقدير والإحسان.
أقول هذا القول، وأستغفِر اللهَ لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِرُوه وتوبوا إليه، إنَّ ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلَق الكونَ بقدرته، وأجرى الأمورَ بحكمته، وقهَر الخلقَ بعِزَّتِه، وجعَل في الخلائق دلالاتِ ألوهيته، وشواهدَ وحدانيته، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الهداة المتقين، ومن سار على دربهم وسلَك سبيلهم إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فممَّا يدلُّ على فضل الطير، ورفعة مكانتها أنَّها جُعلت آيةً من الآيات لبعض الأنبياء -عليهم السلام-، فقد كانت إحدى دلائل عظمة الله في إحياء الموتى، التي أجراها الله على يد إبراهيم -عليه السلام-، كما جاء في قوله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا)[الْبَقَرَةِ: 260]، وكانت الطير من دلائل نبوة عيسى -عليه السلام-، وحجته على قومه؛ إذ قال تعالى عنه: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ)[آلِ عِمْرَانَ: 49]، فكان يصوِّر من الطين على شكل الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيرًا تدب فيه الروح، بإذن الله سبحانه.
عبادَ اللهِ: ولحمُ الطيرِ من جملة الطيبات، التي أحلَّها اللهُ لعباده في الحياة الدنيا، ولم يَنْهَ إلَّا عن كل ذي مخلب منها، كما صحَّ بذلك الحديثُ، والانتفاع بالطير لا يتوقف على الحياة الدنيا وحسبُ، فمِنْ طعامِ أهلِ الجنةِ، الذي يتمتعون بأكله لحمُ الطير، كما قال تعالى: (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)[الْوَاقِعَةِ: 21].
أيها المسلمون: في ديننا آدابٌ وأحكامٌ شرعيةٌ، في التعامُل مع الحيوانات؛ فالإسلام حَرِصَ على الرفق بها، وذلك قبلَ نشوء المؤسَّسات التي تهتمُّ بالحيوان، ومن الرحمة بالحيوان والطير، أنَّه لا يجوز تعذيبها ولا تجويعها، أو تكليفها ما لا تطيق، أو لعنها، أو اتخاذها هدفًا يُصَوَّب إليه ويُتَعَلَّم فيه الرميُ، كما في (صحيح مسلم)، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعَن مَنِ اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا؛ إذ في ذلك تعذيب للحيوان، وإتلاف لنفسه، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "مَنْ رَحِمَ ولو ذبيحةَ عصفورٍ رحمه الله يومَ القيامةِ"(رواه البخاري في الأدب المفرد).
قال بعض العلماء: "خصَّ العصفورَ بالذِّكْر؛ لكونه أصغرَ مأكول يُذبَح، وإذا استلزمت رحمته رحمة الله، مع حقارته وهوانه على الناس، فرحمة ما فوقه لاسيما الآدمي أَوْلَى، وممَّا صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنَّه: "نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصُّرَدِ"(رواه أبو داود)، والصُّرَدُ طائر كبير الرأس والمنقار، فبينما أباحت أو أمرت الشريعة بقتل ما يؤذي من الدواب والضار منها، فإنَّها جاءت بالنهي عن قتل حيوانات وحشرات وطيور لا مصلحةَ في قتلها ولا منفعةَ، ولا أذًى من وجودها، وهذه رحمةٌ من الشارع، في منع الأذى وكفِّ التعدِّي، ولما أخَذ بعضُ الصحابة فَرْخَيْ حُمَّرَةٍ، وهي طائر من الطيور، ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- فزَعَها لذلك قال: "من فجَع هذه بولدها، رُدُّوا ولدَها إليها"(رواه أبو داود).
فهذه رحمته -صلى الله عليه وسلم- بالطير، وفيه استدعاءٌ قويٌّ لكل امرئ أن يرحم العباد ويحسن إليهم ويرفق بهم، ويعطف عليهم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا عباد الله على محمد بن عبد الله، امتثالًا لأمر الله؛ إذ قال جل في علاه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد، وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، وبارك عليه وأهل بيته، كما باركت على إبراهيم إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودَمِّر أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، واجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم انصر عبادك المؤمنين، واحفظهم من كل شر وسوء وبلاء ومكروه وفتنة، وارفع عنهم ما نزل بهم من المهالك والكربات، والأدواء والآفات، وأسبغ عليهم نعمة الأمن والأمان، والسلامة والإسلام، اللهم واحفظ بلاد الحرمين، من شر الأشرار، وكيد الفجار، وكيد الكائدين، ومكر الماكرين، ومن كل متربص وحاسد وحاقد، وعتو وعدو للإسلام والمسلمين، واجعلها آمنة مطمئنة، رخاء وسعة، وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهم ادفع عَنَّا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين، اللهم كن لإخواننا المستضعَفين والمجاهدين في سبيلك، والمرابطين على الثغور، وحماة الحدود، اللهم كن لهم معينا ونصيرا، ومؤيدا وظهيرا، اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّورِ، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا ربَّ العالمينَ.
الله وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم واجعلنا هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم وفقنا للاعتبار والاتعاظ بآياتك، ولا تجعلنا من الذين يمرون بها مُعرِضين، وعنها غافلين، لا يعتبرون بها، ولا يتفكرون، اللهم إنَّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجَاءةِ نقمتك، وجميع سخطك، اللهم إنا نعوذ بك من البَرَص والجنون والجذام، ومن سيِّئ الأسقام، اللهم جنبنا منكرات الأخلاق والأهواء، والأعمال والأدواء، والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي