فمَنْ أهمَلَ تَعْلِيمَ وَلَدِهِ مَا يَنْفَعهُ، وَتَركَهُ سُدًى فقدْ أَسَاءَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِسَاءَةِ، وَأكْثرُ الْأَوْلَادِ إِنَّمَا جَاءَ فَسَادُهمْ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ، وإهمالِهمْ لَهُمْ، وَتركِ تعليمِهمْ فَرَائضَ الدّينِ وسُنَنِهِ، فأضاعُوهُم صِغَارًا، فَلمْ ينتفِعُوا بِأَنْفسِهِمِ...
الحمدُ للهِ
لكَ الحمدُ بالمزيدِ على المُنَى *** كفيلاً لنا أشهَى مِنَ المَنِّ والسّلوَى
ونشكرُك اللهم شُكرَ مُوفَّقٍ *** نُبَرُّ به مِن دونِ جَحْدٍ ولا شَكوَى
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللُه وحْدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فلنتقِ اللهَ، فهيَ العُدَّةُ وعليها العِدَة.
إنَّ الأولادَ زهرةُ الحياةِ الدنيا، وفي صلاحِهم قُرَّةُ عينٍ للوالدَينِ، ونحتاجُ أنْ نَتذاكَرَ لأجلِهِمْ بين الفَينةِ والأُخرَى أمرًا عظيمًا هوَ سببٌ بالغٌ في صلاحِهم، ألَا وهو أمرُ صَلاتِهم، لا سيَّما والدارسةُ عن بُعْدٍ تَستدْعِي ذلكَ، معَ السَّهَرِ المُصاحِبِ لها. والواجبُ تقديمُ أمرِ الآخرةِ على أمرِ الدُنيا في كلِّ شيءٍ.
وفي حديثٍ صحيحٍ صريحٍ قالَ نبيُّ هذهِ الأمَّةِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- للآباءِ والأمهاتِ: "مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ"(سنن أبي داود 495 وصححه الترمذي، وحسنه النووي والألباني).
وفي هذا التوجيهِ النبويِّ الكريمِ من حُسنِ التدرُّجِ واللُطفِ بالصغيرِ الشيءُ الكثيرُ؛ فهوَ خلالَ فترةِ ثلاثِ سنواتٍ قد نُودِيَ إلى الصلاةِ أكثرَ من خمسةِ آلافِ مرةٍ؛ فهل يَحتاجُ بعد خمسةِ آلافِ صلاةٍ أن يُضْرَبَ؟!
وَلَمَّا تَأَخَّرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -وهوَ غلامٌ- عَنِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ يَوْمًا، فَقَالَ مؤدِّبُهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: مَا شَغَلَكَ؟ فَقَالَ: كَانَتْ مُرَجِّلَتِي تُسَكِّنُ شَعْرِي. فَقَالَ لَهُ: أَقَدَّمْتَ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ؟! وَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ، يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَبُوهُ حَتَّى حَلَقَ رَأْسَهُ (البداية والنهاية 12/678).
واللهُ -عزَّ وجلَّ- يقولُ في مُحكمِ التنزيلِ: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه:132]؛ فأينَ الآباءُ والأمهاتُ عنْ هذا الاصطبارِ على الصلواتِ؟
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَمَا أَمْسَى، فَقَالَ: "أَصَلَّى الْغُلَامُ؟"(سنن أبي داود 1358، وصححه الألباني).
وكانَ السلفُ الصالحُ يُلاحِظونَ أبناءَهمْ في الصلاةِ ويسألونَهمْ عنها. قالَ الإمامُ التابعيُّ مجاهدٌ: سمعتُ رجلاً مِنْ أصحابِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- ممنْ شهِدَ بَدْرًا؛ قالَ لابنهِ: "أدركْتَ الصلاةَ معَنا؟ أدركْتَ التكبيرةَ الأولَى؟ قالَ: لا، قالَ: لَمَا فاتَكَ منها خيرٌ من مائةِ ناقةٍ كلُّها سُودُ العَين"(مصنف عبد الرزاق: 2021).
يقولُ ابنُ القيمِ -رحمهُ اللهُ-: "فمَنْ أهمَلَ تَعْلِيمَ وَلَدِهِ مَا يَنْفَعهُ، وَتَركَهُ سُدًى فقدْ أَسَاءَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِسَاءَةِ، وَأكْثرُ الْأَوْلَادِ إِنَّمَا جَاءَ فَسَادُهمْ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ، وإهمالِهمْ لَهُمْ، وَتركِ تعليمِهمْ فَرَائضَ الدّينِ وسُنَنِهِ، فأضاعُوهُم صِغَارًا، فَلمْ ينتفِعُوا بِأَنْفسِهِمِ، وَلمْ يَنْفَعوا آبَاءَهُمِ كِبارًا"(تحفة المودود: ص229).
الحمدُ للهِ على نعمةِ صلاحِ الأولادِ، والصلاةُ والسلامُ على مَن أرسَلَه اللهُ رحمةً للعِبادِ.
أما بعدُ: فيا أيُّها الأبُ ويا أيّتها الأمُّ: ما الأسبابُ المعينةُ على حِرصِ الأبناءِ على إقامةِ الصلاةِ في المسجدِ:
1- أن تكونَ لهم أيُّها الأبُ قدوةً صالحةً في المحافظةِ على الصلاةِ، والحرصِ عليها، فإنَّ الصغيرَ يَنشأُ على ما كانَ عوَّدَهُ أبُوهُ.
2- الصبرُ والمصابرةُ: فالأمرُ فيهِ مشقَّةٌ ونَصَبٌ، فأبشِرْ وأمِّلْ، ولا تَقُلْ: تعِبتُ. ولا تُلْقِ الحِمْلَ على أمِّهِمْ؛ فأنتَ أهْيَبُ.
3- بُثَّ في أسماعِهمْ آياتِ وأحاديثَ حكمِ تاركِ الصلاةِ وعقوبتهِ في الدنيا والآخرةِ، وذكِّرهمْ الأجرَ العظيمَ لمَنْ حافَظَ عليها، ولا تقُلْ: إنهمْ صِغارٌ لا يَعُونَ، فـ(قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)[التحريم:6].
4- اجعلْ لهمْ الحوافزَ والجوائزَ حتى يُحافِظُوا على الصلاةِ. كانَ أحدُ الآباءِ يَجعُل لأبنائهِ الصغارِ ريالاً كلَّ يومٍ عنْ صلاةِ الفجرِ، وكانتِ الثمرةُ المُبكِّرةُ أنْ كانَ أحدُ هؤلاءِ الصغارِ منْ كبارِ أئمَّةِ المساجِدِ المعروفينَ.
قَالَ ابنُ مسعودٍ -رضي الله عنه-: "حَافِظُوا عَلَى أَبْنَائِكُمْ فِي الصَّلاةِ، وَعَوِّدُوهُمُ الْخَيْرَ؛ فَإِنَّ الْخَيْرَ عَادَةٌ"(المعجم الكبير للطبراني: 9054).
5- ادْعُ لهمْ في كلِّ وقتٍ، وردِّدْ كثيرًا دعاءَ الأنبياءِ والصالحينَ (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)[إبراهيم: 40].
تحصَّنَّا باللهِ الذي لا إلهَ إلا هوَ، حسبُنا اللهُ وكفَى، سمِعَ اللهُ لمَنْ دَعا، ليسَ وراءَ اللهِ مَرْمَى، حسبُنا اللهُ لا إلهَ إلا هوَ عليهِ توكلْنا وهوَ ربُّ العرشِ العظيمِ(زاد المعاد: 4/169-170).
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا أغَنْى النَّاسِ بكَ، وأفْقَرَ النَّاسِ إليْكَ. اللَّهُمَّ أغْنِنَا عَمَّنْ أغْنَيْتَهُ عَنَّا، اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْرَ صَبّاً صَبّاً، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدّاً كَدّاً.
اللَّهُمَّ أعْطِنَا من الخَيْرِ فوْقَ ما نَرْجُوْ، واصْرِفْ عَنَّا منَ السُّوْءِ فَوْقَ ما نَحْذَرُ. اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا خَيْرَ ما عِنْدَكَ بِشَرِّ ما عِنْدَنَا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أعْمَارِنَا أواخِرَهَا، وخَيْرَ أعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وخَيْرَ أيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاك.
اللهم ادفعْ عنا الغلاءَ والبلاءَ والوباءَ والرِّبا والزِّنا والزلازلَ والمحنَ وسوءَ الفتنِ ما ظهرَ منها وما بَطنَ عن بلدِنا وعنْ سائرِ بلادِ المسلمينَ. اللهم رُدَّ عنا كيدَ الكائدينَ، وعدوانَ المُعتدينَ واقطعْ دابرَ الفسادِ والمفسِدينَ.
اللهم آمِنّا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّدْ بالحقِ إمامَنا ووليَ عهدِه، وأعزّهمْ بطاعتِك، وأعزَّ بهم دينَك، وارزقهمْ البطانةَ الصالحةَ التي تدلُّهم على الخيرِ وتعينُهم عليهِ.
اللهم احفظْ أبطالَ الحدودِ والصحةِ، وسدِّد أبطالَ وطلابَ التعليمِ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي