والتفريقُ بين المُخطِئِ صاحب الحسناتِ الكثيرة, السابقِ إلى الخيرات, الذي يكاد تلاشى خطؤه في بحر حسناته؛ وبين العاصي المُسرِف على نفسه. والتفريقُ بين مَنْ وقع منه الخطأ مِراراً؛ وبين مَنْ وقع فيه لأول مرة. والتفريقُ بين المُجاهِر؛ والخطأ المُستتر به...
الحمد لله وكفى, والصلاة والسلام على عبده الذي اصطفى.
أمَّا بعد: مُعالجة الأخطاءِ وتصحيحُها من النَّصيحة في الدين, وهي واجبةٌ على جميع المسلمين, والخطأ من طبيعة البشر, فلا أحد يخلو منه, فـ"كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاءٌ"؛ فصِيغةُ المُبالغة تدل على كثرة وقوعِه في الخطأ, فينبغي على المُعالِج أنْ يَعرف طبيعةَ النفس البشرية, وتأثُّرها بعوارض الجهل والغفلة والنقص والهوى والنِّسيان.
والمُربِّي الحكيم هو الذي يختار الأساليبَ والطُّرقَ المناسبة لمعالجة الأخطاء, مُستمدّاً إياها من الكتاب والسُّنة, وسيرةِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-, ومن ذلك: المعالجةُ بالإقناع العقلي والحوار, والمعالجةُ بأسلوب التوجيه والإرشاد, وغير ذلك من الضوابط والمعايير والقواعد المهمة التي تجب مراعاتها والانتباه لها في تصحيحِ الأخطاء ومعالجتِها.
ومما يُسَهِّل عَلاجَ الأخطاء: إرادةُ الناصِحِ وجهَ اللهِ -تعالى-, وليس التعالي, ولا التَّشفِّي, ولا السَّعي لِنَيل استحسان المخلوقين؛ حيث عظَّم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمْرَ النِّية, فقال: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"(رواه البخاري).
ومن الأهمية بمكان أن تكون مُعالجةُ الأخطاء مُعتمِدةً على نصوص الكتاب والسنة, مُقترِنةً بالبيِّنة, وليست صادرةً عن جهلٍ أو هوىً؛ فعن مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: "صَلَّى جَابِرٌ فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ؟! فَقَالَ: إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ، وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-"(رواه البخاري).
وكُلَّما كان الخطأ أعظم؛ كان الاعتناء بتصحيحه أشد, فالعناية بتصحيح الأخطاء المُتعلِّقة بالمُعتقد ينبغي أن تكون أعظم من تلك الأخطاء المُتعلِّقة بالآداب مثلاً؛ لذا اهتمَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- غايةَ الاهتمام بِتَتَبُّعِ وتصحيحِ الأخطاء المُتعلِّقة بالشِّرك بجميع أنواعه؛ لأنه أخطر ما يكون, فعندما انكسفت الشمسُ يوم مات إبراهيمُ, قَالَ النَّاسُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ فَصَلُّوا, وَادْعُوا اللَّهَ"(رواه البخاري).
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ! فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "جَعَلْتَنِي للَّهِ عَدْلاً! بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ"(رواه أحمد).
ومن ضوابط معالجة الأخطاء: اعتبار مَكانةِ الشخصِ الذي يقوم بتصحيح الخطأ, فبعض الناس يُقْبَلُ منه ما لا يُتقبَّل من غيرهم؛ لأن لهم مكانةً أو سُلطةً على المُخطِئ؛ ومثال ذلك: الأب مع ابنه, والمُعلِّم مع تلميذه, والإدراك لهذه الفُروق يؤدِّي بالناصح إلى وضع الأمور في نصابها, وتقديرها حقَّ قدرها, فلا يؤدي إنكاره أو تصحيحه إلى مُنْكَرٍ أكبر, أو خطأٍ أعظم, ومكانةُ المُنكِر وهيبتُه في نَفْسِ المُخطِئ مهمة في تقدير درجة الإنكار, وضبطِ معيار الشدة واللين.
وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يستفيد مِمَّا أعطاه الله من المَكانة والمَهابة بين الخَلْق في إنكاره وتعليمه, وربما أتى بشيءٍ لو فَعَلَه غيرُه ما وقع الموقع المناسب, ومثال ذلك: ما جاء عن يَعِيشَ بْنِ طِخْفَةَ الْغِفَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ضِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَنْ تَضَيَّفَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ, فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي اللَّيْلِ يَتَعَاهَدُ ضَيْفَهُ, فَرَآنِي مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِي فَرَكَضَنِي بِرِجْلِهِ, وَقَالَ: "لاَ تَضْطَجِعْ هَذِهِ الضِّجْعَةَ؛ فَإِنَّهَا ضِجْعَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-"(رواه أحمد). وفي رواية: "إِنَّمَا هَذِهِ ضِجْعَةُ أَهْلِ النَّارِ"(رواه ابن ماجه). فلا يصلح لأيِّ شخص -يريد أنْ يُنكِر على آخَر نومَه على بطنه- أنْ يركضه برجله وهو نائم فيوقظه, ثم يتوقَّع أنْ يَتقبَّل منه ويَشكره.
عباد الله: ينبغي اقتِلاعُ جذورِ الخطأ من النفوس بأسلوب مُناسب؛ ويدل عليه: حديث الفَتى الشَّاب الذي أتى إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وقال له: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا. فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ. وقَالُوا: مَهْ مَهْ -للاستفهام أي: ما تقول, أو للكف والزجر- فَقَالَ: "ادْنُهْ", فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا, قَالَ: "اجْلِسْ", قَالَ: "أَتُحِبُّهُ لأُِمِّكَ؟" قَالَ: لاَ وَاللَّهِ, جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُِمَّهَاتِهِمْ" قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ؟" ثم قال له: "أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟"... ثم - وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ, وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ, وَطَهِّرْ قَلْبَهُ, وَحَصِّنْ فَرْجَهُ"؛ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ.(رواه أحمد).
فبهذا الأسلوب الرَّفيع, والمُحاورة الهادئة استطاع النبيُّ المُربِّي -صلى الله عليه وسلم- أنْ يَقْتَلِعَ بذور الشرِّ من نَفْسِ هذا الشاب دون أن يُهِنه, ويطعنَ في عقله وعقديته.
ومن الأهمية بمكان؛ الرِّفْقُ وحُسْنُ التعامل في معالجة الأخطاء؛ فلا بد من مراعاة نفسِيات المُخطئين والرِّفق بهم؛ لأنَّ النتائج المرجوة من حُسن التعامل عظيمة جدّاً؛ فإنَّ النفس البشرية تميل إلى الرِّفق ولِين الجانب, وقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أرفَقَ الناس بالناس, فقد قال: "إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ, وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ"(رواه مسلم). وقال أيضاً: "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ, وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ, وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ"(رواه مسلم). ويدل عليه أيضاً: حديث الأعرابي الذي بال في المسجد, وكيف رَفَقَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- به, وعلَّمَه من غير تعنيف.
الحمد لله...
أيها المسلمون: ينبغي الحذر من معالجة خطأٍ يؤدِّي إلى خطأ أكبر؛ فمن قواعد الشريعة "تَحَمُّل أدنى المفسدتين لدرء أعلاها"؛ فقد يمتنع المُربِّي عن مُعالجة خطأ؛ لئلا يؤدِّي إلى وقوع خطأ أعظم. ومثال ذلك: سكوت النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- عن المنافقين, وعدم قتلهم مع ثبوت كُفرهم؛ لئلا يقول الناس: "إنَّ محمداً يقتل أصحابَه", ولا سيما مع خفاء أمرهم. ولا بد أيضاً من إعطاء الوقت الكافي لتصحيح الخطأ؛ خصوصاً لِمَنْ دَرَجَ عليه واعتادَه زمناً طويلاً من عمره, هذا مع المتابعة والاستمرار في التنبيه والتصحيح.
ومن القواعد المهمة في معالجة الأخطاء: تقرير الخطأ؛ لأنَّ العلاج قبل أن يَعرف المُخطئ خطأه لا ينفع, فيجب أنَّ يُعَرَّف بخطئه ليجتنبه. ومن أمثلة ذلك حديث المرأة المخزومية التي سرقَتْ فشفع لها أُسامةُ -رضي الله عنه- عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟"(رواه البخاري ومسلم).
ومن الأمثلة أيضاً: حديث المسيء في صلاته؛ إذْ قال له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"(رواه البخاري ومسلم). ثم علَّمَه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-, بعد أنْ عَرَفَ الرجلُ خطأه في الصلاة.
ومن ضوابط مُعالجة الأخطاء: مراعاة الفروق؛ فينبغي التفريقُ بين المُخطِئِ عن جهلٍ والمُخطِئِ عن علم, ومثاله: حديث معاوية بن الحَكَم السُّلَمِي, ولم يكن يدري عن تحريم الكلام في الصلاة. فالجاهل يحتاج إلى تعليمٍ, وصاحب الشُّبْهَة يحتاج إلى بيانٍ وتوضيح, والنَّاسي يحتاج إلى تذكير, والمُصِرُّ يحتاج إلى وعظٍ, فلا يسوغ أن يُسَوَّى بين العالِم بالحُكم والجاهل به في المُعالجة.
وكذا التفريقُ بين الخطأ في حق الشرع؛ والخطأ في حق الشخص. والتفريقُ بين الخطأ الكبير؛ والخطأ الصغير, وقد فرَّقت الشريعة بين الكبائر والصغائر. والتفريقُ بين المُخطِئِ صاحب الحسناتِ الكثيرة, السابقِ إلى الخيرات, الذي يكاد تلاشى خطؤه في بحر حسناته؛ وبين العاصي المُسرِف على نفسه. والتفريقُ بين مَنْ وقع منه الخطأ مِراراً؛ وبين مَنْ وقع فيه لأول مرة. والتفريقُ بين المُجاهِر؛ والخطأ المُستتر به.
وصلموا وسلموا....
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي