إنهم يصلون لا تقليدًا ولا رياء ولا مجرد فرض يُؤدَّى ولا شعورًا بأن الله بحاجة لصلواتهم، وإنما يصلّون لفقرهم وحاجتهم لربّهم، وشعورهم بأنَّ الصلاة هي صلتهم بالله فبها ينطرحون بين يديه، وبها يقتربون منه ويُفْضُون بحاجاتهم ويُقدّمون مطالبهم وسؤالاتهم...
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه الله هاديًا وسراجًا منيرًا صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن كان بهديه مستنيرًا وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله يا أمة الإسلام واعبدوه واشكروا له، إليه ترجعون.
في كل عصرٍ وجيلٍ تراهم، وجوههم مشرقة، ونفوسهم مطمئنة، وأرواحهم محلّقة، وقلوبهم بالمساجد معلّقة.. تراهم ما بين ظالمٍ لنفسه ومقتصدٍ وسابقٍ بالخيرات.. يجمعهم الشوق إلى لقاء الله في بيت الله..
حينما ينادي منادي الله للصلاة، تراهم يسارعون لها، (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون:61].. لا يرون في الصلاة همًّا يُلْقَى.. ولا عبئًا يُرْمَى.. بل روضة تُقْصَد ونعيمًا لا يَنفد وقرَّة عين لا تنقضي.
إنهم المؤمنون (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)[المعارج:23]، و(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[المؤمنون:9]؛ إمامهم وقدوتهم سيد الورى، وخير من وطئ الثرى وهو يرسم في لحظات حياته الأخيرة مشهدًا من حبّ الصلاة والتعلُّق بها قولاً وفعلاً، فأما القول ففي نداءه الأخير: "الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم"، وأما الفعل فحينما كان يُغمَى عليه وإذا أفاق سأل: "أصلى الناس؟"، يفعل ذلك مرات حتى عجز عن القيام، وحينما وجد خفة قام يُهادَى بين رجلين ورجلاه تخطّ في الأرض حتى أُقِيمَ في الصفّ.
إنهم المؤمنون المخبتون ليسوا ممن يأتون الصلاة وهم كسالى وليسوا ممن تلهيهم تجارة أو بيع عن ذِكْر الله وإقام الصلاة.. وليسوا ممن يتكلّفون الأعذار للتخلُّف عن رَكْب المصلين في المساجد.. بل إنهم إذا سمعوا نداء الله أجابوا النداء مردِّدين ما قاله نبيهم "أرحنا بالصلاة".
وأنت ترى قوافل المصلين تترى، وترى مشاهد المترددين على المساجد ترسم مشهدًا يَسرّ الناظرين ويشفي صدور قوم مؤمنين.. وأنت تسمع عن سعيد بن عبد العزيز أنه كان إذا فاتته صلاة الجماعة بكى، وتسمع عن عامر بن عبد الله وقد سمع المؤذن وهو يجود بنفسه ومنزله قريب من المسجد، قال: "خذوا بيدي"، فقيل له: إنك عليل؟ فقال: "أسمع داعي الله فلا أجيبه"، فأخذوا بيده فدخل في صلاة المغرب فركع مع الإمام ركعة ثم مات.
وتسمع عن مثل هذه المواقف في كل عصر وجيل، ثم تتساءل: ما الذي يدفع هؤلاء ولأمثالهم إلى هذا الحنين لبيوت الله؟ ما الذي يجعلهم يتركون بيوتهم ويغادرون فرشهم ويغلقون محلاتهم لكي يقفوا بين يدي الله في بيوته.. ما ذاك السر العجيب الذي يجعلهم يقبلون على الصلاة بكل شوق ويتلهفون شوقًا إلى الصلاة بعدها ويجدون راحتهم وسعادتهم في تمريغ الجباه على التراب ومناجاة رب الأرباب؟
أما إن أعظم دافع لهم لهذا التسابق العجيب هو إيمانهم بالله وتسليمهم لأمره.. إنهم يصلون لأن الله أمرهم فقال: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)[البقرة:43]، فليسوا بحاجة إلى تعليلات ومبررات أخرى.. هذا هو مقتضى الإسلام والذي يعني الاستسلام لله والتسليم لحكمه.. وإن المسلم ينفّذ أوامر الله بكل رضا وتسليم؛ فلا يتضايق ولا يتحرج ولا يتمنى خلاف هذا الأمر بل يسلم تسليمًا ويقول: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[البقرة:285]، (آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[آل عمران:53]، وبدون هذا التسليم والانقياد لا يؤمنون.
إنهم يصلون لأنهم يدركون أن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ إذ يقول الله -سبحانه وتعالى- في المشركين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)[التوبة:11]؛ إنهم يصلون لأن الصلاة هي العاصمة للمسلم في دمه وماله وعرضه؛ فعن أبي سعيد -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لما قسم الغنائم، قال رجل: يا رسول الله! اتق الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ويلك! ألست أحق أهل الأرض أن أتقي الله؟!"، فقال خالد بن الوليد -رضي الله عنه-: ألا أضرب عنقه يا رسول الله؟! فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا، لعله أن يكون يصلي".
إنهم يصلون لا تقليدًا ولا رياء ولا مجرد فرض يُؤدَّى ولا شعورًا بأن الله بحاجة لصلواتهم، وإنما يصلون لفقرهم وحاجتهم لربهم، وشعورهم بأن الصلاة هي صلتهم بالله فبها ينطرحون بين يديه، وبها يقتربون منه ويُفْضُون بحاجاتهم ويُقدّمون مطالبهم وسؤالاتهم إلى من بيده ملكوت كل شيء و"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".
إنهم يصلون؛ لأنهم تعتريهم مشكلات ومعضلات وشدة ولأواء؛ فيجدون ما وجده نبيهم في الصلاة ملاذًا وملجأً فقد "كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة",
إنهم يصلون؛ لأنهم تعتريهم الهموم والغموم، وتضيق صدورهم من مكدّرات الحياة فيجدون في الصلاة ما وجده نبيهم من راحة وطمأنينة وسعادة؛ فقد كان ينادي بلالاً "أرحنا بالصلاة"، ويقول: "وجُعِلَتْ قرَّة عيني في الصلاة".
إنهم يعملون ويبيعون ويشترون لكنهم إذا نادى المنادي للصلاة انقلبت موازين اهتماماتهم وانصرفت قلوبهم للشوق إلى مصدر رزقهم ومنبع سعادتهم متأسّين بقدوتهم -صلى الله عليه وسلم- والذي تقول عنه عائشة -رضي الله عنه-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه".
وكان الواحد من السلف في محله وقد رفع مطرقته فيسمع النداء فلا يردها؛ لأنه في شوق إلى مكان راحته ومستقر سعادته.. إنهم (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور:37].
إنهم يؤمنون أن الرزق الذي ينشدونه سبيله الصلاة؛ (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه:132]، وإبراهيم -عليه السلام- حينما وضع ذريته في وادٍ غير ذي زرع قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ)[إبراهيم:37]؛ فهو يعلم أنهم يوم أن يقيموا الصلاة سيأتي الرزق والأمن وصفاء الحياة.
إنهم يصلون؛ لأنهم يخشون نارًا وقودها الناس والحجارة.. يخشون ذلك السؤال المرير: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ)[المدثر:42-43]، يخشون يومًا (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ)[القلم:42-43]؛ ترهقهم ذلة لأنهم كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود وهم سالمون فلا يستجيبون.
إنهم يصلون؛ لأنهم يؤمنون أنه لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفِساح، وأنَّ مَن خان "حيّ على الصلاة: يخون "حيّ على الكفاح".
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
أما بعد: فإن رجال المساجد يصلون لأنهم يدركون أن الصلاة فصل ما بين الإسلام والكفر، والفارقة بين الإيمان والنفاق.. يصلون لأنهم يلتمسون صفحة بيضاء بلا ذنوب ولا خطايا والصلوات مكفرات لما بينهن.. يصلون لأنهم أحبّوا لقاء الله فأحب لقاءهم فوفقهم وهداهم.
ومن بعد هذا -يا مسلمون- فليتحدث التأريخ عن جيل الصلاة وعن إمامهم سيد الورى وأنه كان في سكرات الموت يسأل عن الصلاة.. فليتحدث عن عمر الفاروق وقد طعن وأغمي عليه فتكون وسيلة الإنعاش تذكيره بالصلاة، فلما قيل له: "الصلاة يا أمير المؤمنين" أفاق وقال: "هاه لا حَظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة"؛ فصلى وإن جرحه يثعب دمًا.
فليتحدث التأريخ عن رجل معاصر فاتته صلاة الفجر جماعة؛ فظل يبحث عن مساجد لعله يدركها، فلما لم يجد ظل يومه حزينًا لا يكلم أحدًا، وجلس في المسجد يومه كله مصليًا وذاكرًا.
فليتحدث التأريخ عن شباب لا تبدو عليهم مظاهر الالتزام، لكنهم مع الصلاة أول المبادرين وآخر المغادرين تراهم خلف الإمام في خشوع والتزام.. في وقت تجد وللأسف من محسوبين على الاستقامة والالتزام بل وممن يتسنّم وظيفة مؤذن أو إمام وتراهم في ركب المخلفين أو ينافس الكسالى في مساجد المحطات؛ حيث صلاة شوهاء لا طعم فيها ولا رائحة.. لا خشوع ولا خضوع.. لا اطمئنان ولا تدبر.. لا أذكار ولا تنفل.. إنما هي حركات تُعَبِّر عن هَمٍّ يُلْقَى وثِقَلٍ يُرْمَى يخرج من بعدها المصلي كما دخل لا تنهاه صلاته عن فحشاء ولا منكر.
فيا حسرة على المتبعين للشهوات والمضيعين للصلوات (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مريم:59]، يا حسرة على من (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)[الروم:7].
آهٍ ثم آهٍ من نفوس تحركها مصالحها ولذاتها العاجلة، ولا تتحرك لنداء الرحمن يناديها للصلاة وللفلاح وللرحمة والرضوان.. آهٍ ثم آهٍ من غفلتنا ورقدتنا عن كنوز الحسنات وبحار الأجور التي ضيَّعها مَن ضيَّع صلاته..
فإلى كل من جعل الصلاة آخر اهتماماته: إنَّ صلتك بربك بمقدار اهتمامك بصلاتك؛ فانظر موقع الصلاة من قلبك، واعمل ما شئت، ولكن تذكَّر أن جسمك على النار لا يقوى، وأن العاقبة للتقوى.
اللهم صلِّ وسَلِّم....
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي