ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره، فمن وقع في ناقض منها وهو يمزح ويضحك؛ فقد كفر وخرج من الملة, إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان, وكلها من أعظم ما يكون خطراً، وأكثر ما يكون وقوعاً...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الناس: إن دين الله قويم لا يزيغ عنه إلا هالك, ولقد شرع لنا الشرائع وكمل الدين, فمن عمل عملا يشاقق الله ورسوله فيه, عالما عامدا غير مكره, ولا متأول؛ فإنه يخرج من الدين لمخالفته شرع الله, قال -تعالى-: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء: 115].
وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- في باب حكم المرتد: أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله, ويكون بها خارجاً من الإسلام، ومن أخطرها وأكثرها وقوعا عشرة نواقض؛ ذكرها الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب -قدس الله روحه ونور ضريحه- وغيره من العلماء, وسنمر سريعا في هذه الخطبة على نواقض الإسلام العشرة, التي ذكرها الشيخ, مع شيء من البيان؛ ليحذرها المسلم.
الأول: من النواقض العشرة: الشرك في عبادة الله، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)[النساء: 48], وقال -تعالى-: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)[المائدة: 72]؛ ومن ذلك: دعاء الأموات والاستغاثة بهم, والنذر والذبح لهم, أو صرف أي عبادة لغير الله؛ لا يجوز صرفها إلا لله.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم, ويسألهم الشفاعة, ويتوكل عليهم؛ فقد كفر إجماعا؛ كالذين يجعلون الصالحين والأولياء وسائط بينهم وبين الله؛ كأصحاب القبور كالبدوي والحسين وحمد النيل والعيدروس وغيرهم.
الثالث: من لم يكفِّر المشركين أو شك في كفرهم, أو صحح مذهبهم كفر؛ كمن يقول: "إن اليهود والنصارى مسلمون", أو "إن دينهم صحيح", أو "إنهم يدخلون الجنة".
الرابع: من اعتقد أن هدي غير النبي -عليه السلام والصلاة- أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه؛ كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حكمه؛ فهو كافر.
ويدخل في هذا من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام, أو أنها مساوية لها، أو أنه يجوز التحاكم إليها، ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل, أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرون المتأخرة, أو أنه كان سبباً في تخلف المسلمين، أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه, دون أن يتدخل في شؤون الحياة الأخرى.
ويدخل في هذا من يفضل حكم سلوم البادية والقبائل وأعرافهم على حكم شرع الله, أو لا يرضى بحكم الله ويرضى بحكم السلوم والعادات التي تضاد شرع الله -تعالى-.
ويدخل في هذا أيضا من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق، أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر، ويدخل في ذلك أيضاً كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله؛ في المعاملات, أو الحدود أو غيرهما، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة؛ لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرمه الله إجماعاً، وكل من استباح ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ كالزنا والخمر والربا, والحكم بغير شريعة الله؛ فهو كافر بإجماع المسلمين, قال ابن القيم -رحمه الله-:
وَاللهِ مَا خَوْفِي الذُّنُوبَ فَإِنَّهَا *** لَعَلَى سَبِيلِ العَفْوِ والغُفْرَانِ
لَكِنَّمَا أَخْشَى انْسِلاخَ القَلْبِ عَنْ *** تَحْكِيمِ هَذَا الوَحْيِ والقُرْآنِ
ورِضًا بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَخَرْصِهَا *** لاَ كَانَ ذَاكَ بِمِنَّةِ المَنَّانِ
الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-, ولو عمل به فقد كفر؛ لقوله -تعالى-: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)[محمد: 9].
اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن, ما ظهر منها وما بطن, أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؛ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أَمَّا بَعْدُ:
أيها الناس: لا يزال الحديث موصولا عن نواقض الإسلام, وقد ذكرنا خمسة منها, والسادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول -صلى الله عليه وسلم-, أو ثوابه أو عقابه؛ كفر، والدليل قوله -تعالى-: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التوبة: 65، 66]؛ كمن يستهزئ بالله أو رسوله أو الإسلام, أو الحجاب أو اللحية أو تقصير الثوب.
السابع: السحر ومنه الصرف والعطف؛ فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله -تعالى-: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ)[البقرة: 102]؛ والذهاب للسحرة وطلب الشفاء منهم, يعد رضا وإقرارا لفعلهم؛ فيدخل في ذلك.
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[المائدة: 51]؛ كمن يقاتل في صفوف الكفار ضد المسلمين, أو يمدهم بالسلاح والعتاد.
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يجوز الخروج عن شريعة محمد؛ فهو كافر؛ لقوله -تعالى-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران: 85], وهذه يقع فيها كثير من المتصوفة؛ الذين يزعمون أن مشايخهم تسقط عنهم التكاليف, فلا تلزمهم الصلاة ولا الصوم ولا الحج.
العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله -تعالى-: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)[السجدة: 22]؛ كمن لا يتعلم التوحيد, ولا صفة الصلاة, ولا الوضوء, ولا أركان الدين.
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره، فمن وقع في ناقض منها وهو يمزح ويضحك؛ فقد كفر وخرج من الملة, إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان, وكلها من أعظم ما يكون خطراً، وأكثر ما يكون وقوعاً.
فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه؛ فكثير من الخلق يقع في نواقض الدين وهو لا يشعر؛ إما لجهله, أو استخفافه بذلك, ومن وقع في ناقض من نواقض الإسلام ومات على ذلك قبل أن يحدث توبة؛ فالجنة عليه حرام والعياذ بالله؛ (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)[المائدة: 72].
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم؛ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي