أيُعقلُ اليومَ أن يكونَ في أسواقِ المسلمينَ هذه الفوضى من الرَّشاوي؛ التي هي سببُ لعنةِ من في السَّماءِ، والكَّذبِ الذي يمحقُ البركةَ والنَّماءَ، والغِشِّ الذي تبرأَ من أهلِه الأنبياءِ، تَستُّرٌ، تَزويرٌ، ومُماطلةُ أصحابِ الحقِّ، أكلٌ لأموالِ النَّاسِ، خِداعٌ، نِفاقٌ...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أَغنانا بحلالِه عن حَرامِه، وكَفانا بفضلَه عَمَّنْ سِواه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له ولا نَعبدُ إلا إياه، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه ومُصطفاهُ، صَلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه ومن والاهُ، وسَلمَ تَسليماً كثير, أمَّا بَعدُ:
تراهُ يُصلي خاشعاً، ساجداً وراكعاً؛ كأنما يرى في صلاتِه اللهَ الكبيرَ المُتعالَ، ثُمَّ تراهُ يتلو القرآنَ مُتأثراً بالآياتِ, ويعلو وجهَه البهاءُ والجلالُ، وقبلَ المغربِ يُخرجُ من جيبِه تَمراتٍ؛ ليُفطرَ بعدَ صيامٍ يومٍ من الأيامِ الحارةِ الطِّوالِ، فتقولُ في نفسِك: "سبحانَ من وفَّقهُ وأعانَه على فعلِ الخيراتِ, وبلوغِ الكمالِ".
ثُمَّ تخرجُ إلى السُّوقِ فترى نفسَ الرَّجلِ في دُكانِه أو مكتبِه فإذا بهِ يكذبُ، ويغشُّ، ويرتشي، ويَخدعُ، ويظلمُ، ويأكلُ أموالَ النَّاسِ بالباطلِ، وإذا نصحَه ناصحٌ أو وعظَه واعظٌ، قالَ مُستكبراً: "هذا السُّوقُ لا يصلحُ فيه الأخلاقُ والحياءُ، ولا يحتاجُ إلا إلى مكرٍ ودهاءٍ، وينبغي أن تضعَ وأنتَ فيه بينَ عينيكَ الحكمةَ العظيمةَ: إن لم تكنْ ذئباً أكلتكَ الذِّئابُ، ودعْ العبادةَ والقرآنَ والدُّعاءِ؛ إذا خرجتَ من مسجِدكَ عِندَ البابِ"، فتفركُ عينَك بيدِك مُستغرباً، وتقولُ في نفسِك مُتعجِّباً: "أهو هو؟!" فيأتيكَ الجوابُ مُتأسفاً: "هو هو!".
أهكذا أسواقُ المُسلمينَ؟ أهؤلاءِ أتباعُ الصَّادقُ الأمينُ؟ أتعلمُ أن الذي تتبعهُ في الصَّلاةِ والصِّيامِ -عليه الصَّلاةُ والسلام-؛ قد اشتغلَ بالتَّجارةِ من عُمُرِ الثانيةَ عشرةَ في أولِ رِحلةٍ تجاريةٍ مع عمِه أبي طالبٍ إلى الشَّامِ حتى تجاوزَ الأربعينَ من عُمُرِه، وتنقَّلَ في رِحلاتٍ تجاريةٍ بين البُلدانِ، وخالطَ كِبارَ التُّجارِ في كثيرٍ من الأسواقِ، واكتسبَ الخِبرةَ العظيمةَ في مهاراتِ التِّجارةِ، وأصبحَ معروفاً في أسواقِ مكةَ، والأسواقِ القريبةِ منها؛ كسوقِ عُكاظ, والمِجَنَّةِ, وذي المَجَازِ، حتى أصبحَ لا يُعرفُ إلا بالصَّادقِ الأمينِ؟!.
هل تعلمُ أنَّه كانَ سمحاً إذا باعَ، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى، بل وكانَ خيرَ شريكٍ؟؛ فعَن السَّائِبِ بنِ أَبي السَّائِبِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّهُ قَالَ: "أَتيتُ النَّبِيَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ- يَوْمَ الْفَتْحِ، فَجعلُوا يُثنونَ عَليَّ ويَذكروني -أي: فبدأَ الناسُ يَذكرونَ محاسِنهَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ويذْكرونَه بالخيرِ؛ فَقَالَ رَسُول الله -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "أَنا أعلمكُم بِهِ"، فَقَالَ السَّائبُ: صَدقتَ بِأبي وَأمي كُنتَ شَرِيكي فِي الْجَاهِلِيَّة, فَكنتَ خيرَ شريكٍ؛ كُنتَ لَا تُداريني -أَيْ: لا تُخالفُني-, وَلَا تُماريني -أَيْ: لا تُجادلُني-".
إذاً فكما كانَ نبيَّاً عظيماً، كانَ تاجراً كريماً، وبعدَ ذلكَ أتاهُ الوحيُّ من ربِّ العالمينَ بالآياتِ والأحكامِ الحكيمةِ، في تقريرِ المعاملاتِ الماليَّةِ، وتعزيزِ الأخلاقِ التِّجاريَّةِ، وتقويةِ المراقبةِ الذَّاتيةِ، ثُمَّ يأتي من يأتي ويقول ببساطةٍ: "ما العلاقةُ بينَ الدِّينِ والتِّجارةِ؟".
هذه مثلُ شبهةِ الأولينَ، الذينَ عابوا على رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أنَّه يدخلُ السُّوقَ فيبيعَ ويشتري؛ (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ)[الفرقان: 7]؛ فجاءَ الجوابُ من اللهِ -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ)[الفرقان: 20].
فهل جاءَ الأنبياءُ إلا بصلاحِ الدُّنيا والآخرةِ؟! فها هو شعيبٌ -عليه السَّلامُ- يمشي في السُّوقِ ناصحاً قومَه: (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[الأعراف: 85]؛ فأمرَهم بالوفاءِ بالكيلِ والميزانِ وأن لا يَبخَسوا النَّاسَ أشياءَهم، وأخبرَ أن هذا هو سببُ فسادِ الأرضِ، فيُجيبونَه بهذه الشُّبهةِ: (قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)[هود: 87]؛ شبهةُ قديمةٌ: ما دَخلُ الدِّينِ بالأموالِ؟!.
ولما كانتْ التِّجارةُ لا تقومُ إلا بالتَّاجرِ الصَّادقِ الأمينِ المستقيمِ؟، اسمعوا كيفَ حثَّ الإسلامُ على هذا الأمرِ العظيمِ: فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ- قَالَ: "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ, مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ"، فهل هناكَ مُحفِّزٌ لأمانةِ وصدقِ التَّجارِ مثلُ هذا؟.
وها هو -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- يُتابعُ هذا الأمرَ بنفسِه، ويقومُ بحملةٍ تفتيشيةٍ في السُّوقِ، فَمَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟"، قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ!، قَالَ: "أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ؛ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي"، اسمعوا يا أهلَ السُّوقِ: الغشَّاشُ ليسَ منه, الغشاشُ ليسَ منه.
أقُولُ قَوْلي هَذَا، وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ؛ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ؛ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمينَ، أَغنانا بحلالِه عن حَرامِه، وكفانا بفضلِه عمَّن سواه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له, ولا نَعبدُ إلا إياه، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه ومُصطفاه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه ومن وَالاه، أما بعدُ:
أيُعقلُ اليومَ أن يكونَ في أسواقِ المسلمينَ هذه الفوضى من الرَّشاوي؛ التي هي سببُ لعنةِ من في السَّماءِ، والكَّذبِ الذي يمحقُ البركةَ والنَّماءَ، والغِشِّ الذي تبرأَ من أهلِه الأنبياءِ؟، تَستُّرٌ، تَزويرٌ، ومُماطلةُ أصحابِ الحقِّ، أكلٌ لأموالِ النَّاسِ، خِداعٌ، نِفاقٌ، أصبحَ مصطلحُ الحلالِ: هو الطَّريقةُ التي تستطيعُ بها تحصيلَ الأرباحِ وتكثيرَ الأموالِ، والمُصيبةُ أنَّه أصبحَ من شِبهِ المُتعارفِ عليه، أنَّكَ إذا أردتَ لقمةَ حلالٍ، فليسَ لكَ مكانٌ في سوقِ المالِ، وإذا كُنتَ من الذينَ عن أكلِ الحرامِ يتوَّرعونَ؛ (قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)[النمل: 56]، ونسوا أو تناسوا، قولَه -عزَّ وجلَّ-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطلاق: 2، 3].
فيا أيُّها التَّاجرُ: ردِّدْ دائماً: "اللَّهمَّ اكْفِني بحلالِكَ عَن حَرَامِكَ، وَاغْنِني بِفَضلِكَ عَمَّن سِوَاكَ"، واثبتْ على المهنةِ الشَّريفةِ، واطلبْ اللُّقمةَ الشَّريفةَ، واحذرْ من المُثبِّطينَ، واخشَ يومَ الدِّينَ، خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ- إِلَى الْمُصَلَّى، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ!"، فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسلمَ- وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ؛ فَقَالَ: "إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّاراً؛ إِلاَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ".
ويا أيُّها المواطن: ليسَ لكَ عذرٌ اليومَ أن لا تُبلِّغَ عن أيِّ فسادٍ تجاريٍّ؛ فالدولةُ تحاربُ الفسادَ بجميعِ أنواعِه، والواقعُ يشهدُ بذلك، فواجبُنا جميعاً أن نقفَ وقفةً واحدةً ضدَّ الفسادِ والفاسدينَ.
اللَّهُم َّاكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنَا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، اللَّهُمَّ اقْضِ الدَّيْنَ عَنِ الْمَدِينِينَ, وَاشْفِ مَرْضَانَا وَمَرْضَى الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالدِينَا وَلِمَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا, رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكُ عَفْوَكَ وَمَغْفِرَتَكَ، اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ, وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْتَ, وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، اللَّهُمَّ إِنَّنَا ضَالُّونَ فَاهْدِنَا، وَعَارُونَ فَاكْسِنَا، وَجَائِعُونَ فَأَطْعِمْنَا، اللَّهُمَّ أَصْلِحَ قُلُوبَنَا وَأَعْمَالَنَا، اللَّهُمَّ انْصُرْ دِينَكَ وَكِتَابَكَ وَعِبَادَكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ وُلَاةَ أَمْرِنَا وَوُلاةِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم؛ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً؛ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي