فمصطلحات أي أمة هي تعبير عن ذاتها وهويتها، وعن عقيدتها وقيمها وسلوكها، وليس من السلامة الحضارية أن تستقبل الأمة مصطلحات غيرها دون تمحيص وانتقاء، ورفض لما يتعارض مع خصوصياتها الثقافية....
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: إن غزو أي بلد أو ثقافةٍ ما لا ينحصر في نوع واحد من الغزو، بل له صور وأشكال متعددة، منها الحسي ومنها المعنوي. كما أن من تلك الصور ما يتعلق بالأخلاق والسلوك، ومنها ما يتعلق بالعقول والعقيدة وهو أخطرها.
ولا يخفى عليكم-معشر الفضلاء- أننا في عصر قرّبت وسائله الحديثة تصدير الثقافات، وتسهيل وصولها إلى الناس على اختلاف توجهاتهم، وعبر تلك الطرق مضى غزاة العقول المنحرفة لينفثوا سمومهم بيننا نحن المسلمين.
ألا وإن من صور ذلك الغزو الخطير: غزو المصطلحات التي تنطوي على ثقافات ومفاهيم تخالف مفاهيمنا الإيمانية وثقافتنا الإسلامية.
فمصطلحات أي أمة هي تعبير عن ذاتها وهويتها، وعن عقيدتها وقيمها وسلوكها، وليس من السلامة الحضارية أن تستقبل الأمة مصطلحات غيرها دون تمحيص وانتقاء، ورفض لما يتعارض مع خصوصياتها الثقافية.
ولقد بات من الضروري على كل أمة تريد الحفاظ على هويتها أن تضبط قضية المصطلحات، فتكون لها مصطلحات واضحة تميزها عن غيرها، ولا تستعمل المصطلحات الوافدة التي لا تعرف حقيقة معناها، ولا غاية مغزاها.
فمن "هنا كان لا بد من التنبيه إلى ضرورة المحافظة على المصطلحات في الأمة، والاحتفاظ بمدلولاتها، والعمل على وضوح هذه المدلولات في ذهن الجيل؛ لأن هذه المصطلحات هي نقاط الارتكاز الحضارية والمعالم الفكرية التي تحدد هوية الأمة بما لها من رصيد نفسي ودلالات فكرية، وتطبيقات تاريخية مأمونة، وعدم تحديدها ووضوحها يؤديان إلى لون من التغيير في الشخصية المسلمة، والتقطيع لصورة تواصلها بماضيها العريق".
أيها المسلمون: وفي ظل العولمة التي تريد تصدير سمومها الفكرية تحت عباءة التقارب العالمي الذي صار كالقرية الواحدة؛ أضحى تحرير المصطلحات ضرورة إسلامية؛ من أجل أن يتضح الباطل على صورته الحقيقية، فلا يبقى مستتراً لينطلي على ضعفاء الأفهام، ليروا أن الخطأ صواب وأن الصواب خطأ. (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ )[الأنفال:42].
ومن المهم تحرير المصطلحات وتعريف مفاهيمها؛ وتعريب المصطلحات الأجنبية تعريبًا دقيقًا، وإذا استطاع الإنسان العالم استبدالها بمصطلحات عربية صرفة فهذا هو المطلوب؛ فإن لغتنا العربية هي أوسع اللغات، ولن تعجز عن استيعاب كل قضايا الحياة بمصطلحات منها ولن تنتظرها من غيرها.
يقول الشاعر بلسان اللغة العربية:
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغايةً *** وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍ *** وتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
ثم بعد التعريب ينبغي أسلمتها، واختيار المصطلح الموافق لعقيدتنا الإسلامية وقيمها وأخلاقها النقية.
عباد الله: هناك مصطلحات وافدة على ثقافتنا الإسلامية تحتاج إلى توصيف وبيان؛ لكشف ما فيها من مخالفات شرعية؛ ليتجنب المسلم استعمالها على إطلاقها، ولكي يعرف الناس خداع المصطلحات التي ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب؛ فمن تلك المصطلحات المنتشرة:
مصطلح حقوق الإنسان ومصطلح تحرير المرأة؛ وهذان المصطلحان شائعان على ألسنة كثيرة، ولكن هذين المصطلحين ينطويان على أشياء تخالف شريعتنا الإسلامية الغراء؛ فمصطلح حقوق الإنسان يحتوي على أن للإنسان حق حرية الاعتقاد فيكفر بما شاء ويؤمن بما شاء، وله الحق في ممارسة ما يريد من الأمور الشخصية ولو كانت تخالف دين الله --تعالى--؛ فأين هذا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من بدل دينه فاقتلوه"(رواه البخاري)، وأين هذا مما جاء به الإسلام من الحدود والعقوبات؛ كحد شرب المسكرات، وغير ذلك.
وأما مصطلح تحرير المرأة؛ فهو مصطلح يحمل في طياته مخالفات صريحة لشريعة الإسلام؛ فتحته بنود لتحرير المرأة من قوامة الرجل، وتحريرها من حجابها وحيائها، وتحريها من بيتها، وتحريرها من الفضيلة والحشمة، والله -تعالى- يقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الأحزاب:59].
أيها المسلمون: لقد دأب الغرب على تصدير كثير من المصطلحات وفي حشاها أبعاد تغريبية يراد من ورائها طمس الهوية الإسلامية، وتخدير الحس الديني لدى المسلمين، وترويج سلوكياتهم المنحرفة في باطن تلك المصطلحات المكسوة بألفاظ الخير والجمال، حتى يحببوا للناس المنكر، ومن المؤسف حقًا أن صارت تلك المصطلحات رائجة، وربما يتلوها خطيب أو محاضر، أو كاتب يدعو إلى قيم الإسلام الحنيف؛ فمن تلك المصطلحات:
المشروبات الروحية؛ ويقصدون بها الخمرة ونحوها من المسكرات، واستعمال هذا المصطلح يهون من شأن أم الخبائث في نفوس الناس؛ لأن الذم ارتبط في الذهنية الإسلامية في عموم الناس بمصطلح الخمر الذي جاء ذمه في القرآن والسنة، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[المائدة:90].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر"(رواه ابن حبان).
وهذا التغيير المصطلحي مصداق لما أخبر عنه نبينا-صلى الله عليه وسلم- في قوله: "ليشربن ناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها"(رواه أبو داود).
ومن تلك المصطلحات ما يطلق على كبيرة الربا من مصطلحات: الفوائد والأرباح البنكية، وخدمات مصرف، وعوائد استثمارية، وغير ذلك، والغرض دعوة الناس إلى الربا؛ إذ لو قالوا لهم: فوائد ربوية لما قبل بذلك بعضهم؛ لأن ذهن المسلم ينصرف إلى ذم الشرع إلى هذه المعاملة المالية، قال -تعالى-: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)[البقرة:276].
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا ومؤكله"(رواه مسلم).
نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا سلامة الفهم، ومعرفة الحق من الباطل، والصواب من الخطأ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المسلمون: إن الحرب التي تواجهها الأمة من قبل أعدائها ليست حربًا واحدة، بل حروبًا متنوعة، منها الظاهر الذي يدركه الجميع، ومنها الخفي الذي لا يدركه إلا قلة من الناس، ومن هذه الحروب الخفية: حرب المصطلحات.
هذه الحرب التي يتطاير شررها في مصطلحات تستهدف الأمة في حضارتها وهويتها، ويراد من ورائها قلب الحقائق، وتبرير الظلم، وتدجين الأمة على إلف التبعية والذل؛ فمن تلك المصطلحات في الصراع الإسلامي الصهيوني في (المناطق المتنازع عليها) (المتعاونون الفلسطينيون) (الجدار العازل) (العمليات الانتحارية)، ( حائط المبكى) ( المستوطنات).
فصدروا لنا مصطلح: (المناطق المتنازع عليها) بدلاً عن الأرضي المحتلة، واستعملوا مصطلح: (المتعاونين الفلسطينيين) بدلاً عن العملاء والجواسيس، وجاءوا بمصطلح: (الجدار العازل) بدلاً عن الحاجز العنصري، وأتوا بمصطلح: (العمليات الانتحارية) بدلاً عن العمليات الاستشهادية أو الفدائية ضد العدو الصهيوني، وروجوا مصطلح: (حائط المبكى) بدلاً من حائط البراق، ونشروا مصطلح: (المستوطنات) بدلاً من المستعمرات أو المغتصبات.
وللأسف أن بعض الوسائل الإعلامية تستعملها اليوم، ويتلقفها الناس عنهم! مع أن المطلوب من المسلم التبين قبل القبول والحكم، قال الله -تعالى-: (فَتَبَيَّنُوا) [النساء:95].
فيا أيها المسلمون: ينبغي لنا أن نعي جيداً أن هناك معركة أخرى وغزواً آخر لا ينتبه لهما إلا قلة من الناس وهما معركة المصطلحات وغزوها، فيجب حينئذ التيقظ، واستعمال مصطلحاتنا العربية والإسلامية التي تمثل خصوصيتنا، والحذر من الاستعمال الفوضوي للمصطلحات الوافدة؛ فإن بعضها يستهدف الدين والهوية والسلوك المستقيم.
نسأل الله -تعالى- أن ينير عقولنا، ويبصرنا بأمر ديننا.
وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين: (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي