وإذا فَقَدَ المسلمُ صحتَه؛ عَجِزَ عن القيامِ بمَا أوجبَ اللهُ عليهِ من حقوقِ اللهِ, وحقوقِ عبادِه, والاسلامُ وَضَعَ توجيهاتٍ وإرشاداتٍ من شأنِها المحافظةُ على النَّفسِ البشريةِ؛ ليكونَ المجتمعُ بعيدًا عمَّا يضرُّه من الأمراضِ والأسقامِ التي تُضْعفُه...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ، مالكِ يومِ الدِّينِ، والعاقبةُ للمتقينَ ولا عدوانَ إلا على الظالمينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم عليهِ وآلِه وصحبِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيُّها المؤمنونَ: صحةُ البدنِ وعافيتُه نعمةٌ مِنَ اللهِ -تعَالى-، وهيَ تاجٌ على رؤوسِ الأصحاءِ، لا يشعرُ العبدُ بقيمتِهَا إلا إذا أبتُليَ بشيءٍ في جسدِه؛ فتتأثرُ حياتُه، وتنقلبُ رأسًا على عقبٍ، وعندَ ذلكَ يُحرمُ العبدُ مما كانَ يتلذَّذُ به في صحتِه، وسائِر أمورِ حياتِه كلِّها، من طعامِه، وملبسِه، وركوبِه، وسفرِه، وغيرِ ذلك كثيرٌ.
ومَنْ نَظرَ لمن ابتُليَ ببعضِ الأمراضِ والعاهَاتِ المزمنةِ يرى ذلكَ حقيقةً ظاهرةً أمامَه، ويرى مدى المعاناةِ التي يَتعرَّضُ لهَا أصحابُها، وهذا اختبارٌ وابتلاءٌ مِنَ اللهِ -جلَّ وعلا-، وهو العليمُ بما يُصلحه في حالِ صحتِه وحالِ سقمِه، قالَ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "نعمتانِ مغبونٌ فيهمَا كثيرٌ من النَّاسِ: الصحةُ والفراغُ"(رواه البخاري).
عبادَ اللهِ: حفظُ النَّفسِ البشريةِ، وسلامتُها ممَّا يضرُّهَا من الأمراضِ أمرٌ يُفرِّط فيهِ بعضُ النَّاس، فمنهم مَنْ لا يُبالي بحفظِ صحتِه، ويُعرِّضُ نفسَه للضررِ لعدمِ التزامِه بالأوامرِ الربَّانيةِ والتوجيهاتِ النبويَّةِ، وعدمِ استجابتِه للتعليماتِ التي تضعُها الجهاتُ المختصةُ من أجلِ المحافظةِ عليه وأفرادِ أسرتِه، وهذا أمرٌ لا يسوغُ شرعًا ولا عقلاَ؛ فصحةُ الإنسانِ والمحافظةُ عليهَا واجبٌ من أهمّ الواجباتِ، ولا أدلَّ على ذلكَ من قولِ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
فالمحافظةُ على الصحةِ لها أهميةٌ كبيرةٌ في حياةِ المسلمِ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ، وإذا فَقَدَ المسلمُ صحتَه؛ عَجِزَ عن القيامِ بمَا أوجبَ اللهُ عليهِ من حقوقِ اللهِ, وحقوقِ عبادِه.
والاسلامُ وَضَعَ توجيهاتٍ وإرشاداتٍ من شأنِها المحافظةُ على النَّفسِ البشريةِ؛ ليكونَ المجتمعُ بعيدًا عمَّا يضرُّه من الأمراضِ والأسقامِ التي تُضْعفُه، والمسلمُ مطالبٌ بأنْ يدفعُ عن نفسِه الأذى ما استطاعَ الى ذلكَ سبيلا.
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا)[النساء:30].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ, ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، ولا عدوانَ إلا على الظالميَن، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالمين، محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الكريم، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ -أيُّهَا المؤمنونَ- واعلمُوا أنِّ من الأسبابِ التي تقيْ العبدَ بإذنِ اللهِ منَ التعرّضِ للأذى والمرضِ، ما يلي:
أَنْ يحرصَ المرءُ على الجمعِ بينَ طهارةِ البدنِ وقوةِ الإيمانِ، وهوَ مطلبٌ شرعيٌ؛ لقولِه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "الطُّهورُ شطرُ الإيمانِ"(رواه مسلم)، وقولِه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "إذَا عَطِسَ وَضَعَ يَدَهُ أو ثوبَه على فيهِ، وخَفَضَ أو غَضَّ بهَا صوتَه"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وقد رأى النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- رجلاً شَعْثًا قد تفرَّقَ شعرُه فقالَ: "أَمَا كانَ يجدُ هذَا ما يسكِّنُ به شعرَه، ورأى رجلاً آخرَ وعليهِ ثيابٌ وَسِخَةٌ، فقالَ: أمَا كانَ هذا يجدُ ماءً يغسلُ به ثوبَه"(رواه أبو داود، وصححه الألباني).
ومنها: المحافظةُ على الطعامِ والشرابِ، وصيانتُهما، قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "غَطّوا الإناءَ، وأَوْكُوا السقاءَ، وأغْلِقُوا البابَ، وأطْفِئُوا السراجَ"(رواه مسلم).
ومنها: مَنْعُ دخولِ المريضِ على الأصحاءِ إذَا كانَ مرضُه مُعْدِيًّا؛ لكونِه أمرًا محرمًا شرعاً، قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "لا يُورِدَنَّ مُمْرضٌ على مُصِحٌ"(متفق عليه)، وكذلكَ تَجَنّبُ دخولِ الأصحاءِ على أصحابِ الأمراضِ المعْدِيةِ؛ لقولِه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ"(رواه البخاري).
ومنها: أخْذُ العلاجاتِ المناسبةِ التي تقيْ -بإذنِ اللهِ- منَ الإصابةِ ببعضِ الأمراضِ؛ كلقاحِ الإنْفلونْزَا الموسميةِ الذي تُقَدِّمُه الدولةُ حاليًا للمواطنينَ والمقيمينَ، فهذِه اللقاحاتُ بفضلِ اللهِ -تعَالى- تعملُ على حفظِ صحةِ الإنسانِ, وعدمِ إصابتِه بأمراضٍ مُضرةٍ لهُ ولغيرهِ، وفي هذه اللقاحاتِ تحقيقُ المقاصدِ الشرعيةِ التي لا تخفى، وعلى مَنْ يُشكِّكُ في هذهِ اللقاحاتِ أنْ يتَّقيَ اللهَ، ويَعْلمَ أَنَّ الجهاتِ المختصةَ أحرصُ ما تكونُ على تقديمِ ما ينفعُ العبادَ والبلادَ, وإبعادِهم عن كلِّ ما يُسبِّبُ الضررَ والأذَى.
فاحرصوا -باركَ اللهُ- فيكُم على حفظِ نعمةِ اللهِ عليكُم، والعملِ بتوجيهاتِ مَنْ ولاهُ اللهُ أَمْرَكمْ؛ طاعةً لربِّكم, وحرصًا على سلامتِكم وأهلِيكم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والنبيِّ المجتبى؛ فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ -جلَّ وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي