وكلُّ بلاءٍ لا تفِرُّ منهُ إلى الدعاءِ فهو عقوبةٌ من اللهِ عليكَ, فقابِلْ كلَّ بلاءٍ بدعاءٍ؛ سواءٌ أكانتْ شماتةَ حاسدٍ، أو وشايةَ كارهٍ، أو أذىْ مُبغِضٍ، أو تغيُّرَ حبيبٍ، أو نُفْرةَ قريبٍ، أو مرضًا مُفاجئًا، أو نقصَ عيْشٍ، أو فقْد غالٍ، أو خوفًا من مستقبلٍ...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: دخلَ على أمهِ مهمومًا، وقد وَضعَتْ له غَداءَه، فلمْ يَأكلْ كما كانَ يأكلُ، ففطِنتْ له، والأمهاتُ يشعُرنَ بهمومِ أولادِهنَّ من وجوهِهمْ.
- ما بكَ يا ولدِي؟ - لا شيءَ يا أميْ!.
- أخبرنِي أنا أمُّكَ. - يا أمِّي! عليَّ دَينٌ، عجِزْتُ عن سَدادِه.
- كمْ هوَ؟ - ألفَا ريالٍ. والألفانِ قبلَ سبعينَ سنةً تُعادِلُ مائتيْ ألفٍ.
فقالتِ الأمُ الرؤومُ الواثقةُ باللهِ وكرمِه: كُلْ، ولا تهتمَّ؛ فسييسرُها الكريمُ المنانُ, ففرشَتْ مُصلاها؛ لتدعوَ لولدِها مردِّدَةً ببساطةِ وعفويةِ العوامِ واثقةً قائلةً: "يا ربِّ! ألفينْ ريالٍ لولدِي محمد، واللهِ لا أنزِّل يدَي حتى تَرزُقَه".
وإذ بهِ يرَى رجالاً مقبِلينَ، يُريدونَ شراءَ أعوادِ أثلٍ لعريشِ أعنابِهم، فقال: عنديْ ما تطلبونَ، ففاوَضَهم على السعرِ، فقالوا: نُعطيكَ ألفَي ريالٍ؛ فهرولَ من الفرحِ لأمهِ الرافعةِ يديْها تدعوَ، فصرخَ من بعيدٍ ينادِيها: يا أمي! يكفيْ، أنزلِي يديكِ، وصلَ المبلغُ، وصلَ المبلغَ؛ (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)[النمل: 62]؛ إنه الدعاءُ، لا يحتاجُ إلى كثيرِ كلماتٍ؛ فقد تُزاحِمُها الدموعُ وتَضيعُ بين الآهاتٍ.
إنهُ اللهُ -الأعزُّ الأكرمُ- يحبُ أن يَسمعَ إلحاحَ عبدِهِ، ويحب أنينَ الداعينَ وبكاءَهم؛ (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ)[الأنفال: 9], ونتيجةُ الدعاءِ (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)[الأنفال: 9], (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)[الأنبياء: 76], ونتيجةُ الدعاءِ؛ (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)[الأنبياء: 76], (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)[الأنبياء: 83، 84], (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى) [الأنبياء: 89، 90]؛ وَهَنَ عَظْمُه، واشتَعَلَ رأسُهُ شَيبًا، وامرأتُه عاقرٌ، ومعَ هذا لم ييأَسْ أو يَضعُفْ، أو يَنهزِمْ، بل كان رجاؤه باللهِ قويًا؛ لذا قالَ: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)[مريم: 4]؛ أي: عوَّدتَني الإجابةَ، ولنْ تُخِّيبَني في مسألتيْ, والنتيجةُ (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)[الأنبياء: 89، 90].
انتهِزْ أوقاتَ الكسْرةِ في قلبكَ، والدمعةَ في عينيْكَ؛ بكثرةِ الدعاءِ، واعلمْ: أنكَ قدْ بلغتَ الأمانَ معَه؛ لأنه يُحبُّ شَكواكَ إليهِ، وبَثَّ أحزانِك إليهِ, ومما يَستدِرُّ الدمعَ شوقاً إلى الدعاءِ قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ, يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ؛ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ"(سنن الترمذي).
وكلُّ بلاءٍ لا تفِرُّ منهُ إلى الدعاءِ فهو عقوبةٌ من اللهِ عليكَ, فقابِلْ كلَّ بلاءٍ بدعاءٍ؛ سواءٌ أكانتْ شماتةَ حاسدٍ، أو وشايةَ كارهٍ، أو أذىْ مُبغِضٍ، أو تغيُّرَ حبيبٍ، أو نُفْرةَ قريبٍ، أو مرضًا مُفاجئًا، أو نقصَ عيْشٍ، أو فقْد غالٍ، أو خوفًا من مستقبلٍ؛ لا دواءَ ولا عزاء كالدعاءِ, وفي قصةِ سِحْرِ النبيِ -صلى الله عليه وسلم- قالتْ عائشةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "فَدَعا وَدَعَا"(رواه البخاري).
ولكنْ لا يكُنِ الدعاءُ عندكَ للحصولِ على حاجتِكَ، أو لدفعِ ما أهمَّكَ فقطْ؛ بل الدعاءُ سعادةٌ ولذةُ مُناجاةٍ تُنسيكَ كُلَّ ألَمٍ.
لكنْ لماذا فقدْنا لذّةَ الدعاءِ؟, الجواب: لأنّنا ما اعتادَتْ نفوسُنا الدعاءَ في وقتِ الرخاءِ، واستعجلْنا موعدَ إجابةِ الدعاءِ.
ألا فالآنَ الآنَ أمامَنا نصفُ دقيقةٍ تُرجى فيها الإجابةُ، ألا فلنَدْعُ بينَ الخطبتينِ، ولا نفوِّتْها، ومن خيرِ الدعاءِ قولُ: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201], هيَّا هيَّا لندْعُ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه كان غفارا.
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ, والصلاةُ والسلامُ على خيرِ خلقِ اللهِ أجمعينَ، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعينَ.
أما بعدُ: فإليكَ أربعَ فرصٍ ومواطنَ للدعاءِ نغفَلَ عنها:
أولاً: ما رأى العابدونَ من أثرِ التلذُّذِ بالمُناجاةِ، والشعورِ بحلاوةِ الدعاءِ، مثلَ الانزواءِ في مكانٍ لا يراكَ فيه أحدٌ؛ فتثنيَ على اللهِ في عليائهِ، ثم تصليَ على خيرِ أنبيائهِ -صلى الله عليه وسلم-, ثم تدعوَ بإلحاحٍ وافتقارٍ ويقينٍ ودموعٍ، ثم تنتظرَ بحُسْنِ ظنٍّ عجائبَ قُدرةِ اللهِ مُستقبلَ أيامِكَ.
ثانياً: إنْ فتَحَ اللُه عليك الدعاءَ في ثُلُثِ الليلِ الأخيرِ؛ فاعلمْ أنَّه ما أيقظكَ وهو يريدُ أن يردَّك, وكثيرونَ مُستيقظونَ الساعةَ الواحدةَ ليلاً، لكنَّ المسألةَ توفيقٌ إلهيٌ.
ثالثاً: كلُّ واحدٍ منّا كُتِبَ عليهِ حظّهُ من الغفلةِ، بقدرِ تفريطِه في الأذكارِ والدعاءِ, والمُوفّقُ هوَ من يُعوِّضُ ما أصابهُ من همومٍ ومشاكلَ بالمُحافظةِ على الأذكارِ، وملازمةِ الدعاءِ, وكلما أكثرتَ منْ قولِ: "لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ"؛ كانتِ السعادةُ بالفرَجِ، وبلوغِ ما تتمنّى أكثرُ, فإن استطعْتَ أن تجعلَها مع الهواءِ الذي تتنفَّسُهُ فافْعلْ؛ ليحوِّل ربُك القويُ حالَكَ لأحسنِ حالٍ.
رابعاً: لنْ يَخيب محزونٌ ومهمومٌ سَمِعَ دُعاءَ والديِهِ لهُ بالتوفيقِ والتيسيرِ والرِّزقِ، فبِرَّهما لتسمعَ دعاءَهما، وترى أبوابَ الرحماتِ تنفتحُ لكَ.
اللّهُمّ أَنْتَ ثِقَتُنا، وَأَنْتَ رَجَاؤنَا, عَزّ جَارُكَ، وَجَلّ ثَنَاؤُكَ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ, اللّهُمّ اكْفِنا مَا أَهَمّنا، وَمَا لَا نهْتَمُّ لَهُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنّا, وَوَجِّهْنا لِلْخَيْرِ أَيْنَمَا تَوَجّهْنا. اللهم احفظْ دينَنا وأمنَنا وتعليمَنا وصحتَنا وحدودَنا, واحفَظْ ثرواتِنا وثمراتِنا، واقتصادَنا وعتادَنا. اللهم وفَّقْ وليَّ أمرِنا ووليَّ عهدِه لما تحبُّ وترضَى، وخُذْ بناصيتِهِما للبرِّ والتقوى, واجزهم خيرًا على ما يبذلون لمصلحة الإسلام، ولخدمة المسلمين. اللهم وفقْ طلابَنا وطالباتِنا، ومعلمِينا ومعلماتِنا، واجعلْ عامَنا خيرَ عامٍ.
اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ, (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي