إنَّ الرضا بقدر الله -تعالى- والتسليم الكامل بذلك يُنْزِلُ السكينةَ في قلب المؤمن, ويزيده طمأنينة, وأمناً وإيماناً, والصبر على المكاره يُزيل من النفوس الهمَّ والغمَّ؛ فيعيش المؤمنُ في غاية السعادة, واللهُ -تعالى- يجعل لأوليائه المتقين فَرَجاً ومَخْرجاً...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: كان أيوبُ -عليه السلام- غنيًّا يتقلَّب في نِعَمِ اللهِ -تعالى-, وكان شاكراً لِنِعَمِ الله, عارفاً حقَّ ربه, ولم تَفتِنْه الدنيا؛ ولِحِكْمَةٍ أرداها اللهُ -تعالى- نزل به البلاءُ؛ فذهب ماله, ومات أولاده, وانصرف عنه مَنْ حوله, ولم يبق معه إلاَّ زوجه, واثنان من كِرامِ أصحابه؛ يَغْدوان عليه ويروحان, فيأنس بهما.
وامتد به البلاءُ فطال جسدَه, فأصابه الضُّرُّ والنَّصَبُ والإِعياءُ؛ حتى لا يستطيع الحركة إلاَّ بمعونة زوجه, وعاش أيوبُ -عليه السلام- صابراً على البلاء, حامداً لله, فكان مُطيعاً لله -تعالى- في حالتي الرخاء والبلاء.
ومُجملُ قصةِ أيوبَ جاءت في قوله -تعالى-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)[الأنبياء: 83, 84]؛ فالله -تعالى- ذَكَرَ أيوبَ في مقام الثناء عليه حين ابتلاه ببلاء شديد؛ وتقرَّح قروحاً عظيمة, ومَكَثَ مدة طويلة، واشتد به البلاء، وذهب ماله، فوجده صابراً راضياً عنه.
وذات يومٍ نادى أيوبُ ربَّه: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)؛ فتوسَّل إلى الله بالإخبار عن حاله، وأنه بلغ الضُّرُّ منه كلَّ مبلغ، فاستجاب الله له برحمته الواسعة, وقال له: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)[ص: 42]؛ فركض الأرضَ برجله فخرجت عينُ ماءٍ باردة, فاغتسلَ منها وشَرِبَ؛ فأذهب الله عنه ما به من الأذى، وردَّ الله عليه أهلَه ومالَه (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ)؛ بأنْ مَنَحَه الله العافيةَ من الأهل والمال شيئا كثيراً، وجعله (ذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)؛ أي: عِبْرةً للعابدين، الذين ينتفعون بالعِبَر، فإذا رأوا ما أصابه من البلاء, ثم ما أثابه الله بعد زواله، ونظروا السبب، وجدوه الصبر؛ ولهذا أثنى الله عليه به في قوله: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص: 44].
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ نَبِيَّ اللهِ أَيُّوبَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لَبِثَ فِي بَلاَئِهِ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ, إِلاَّ رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ؛ كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعْلَمُ, وَاللهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ, فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟! قَالَ: مُنْذُ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللهُ؛ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ, فَلَمَّا رَاحَ إِلَيْهِ؛ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ: لاَ أَدْرِي مَا تَقُولُ؛ غَيْرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ، فَيَذْكُرَانِ اللهَ -تعالى-، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي؛ فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللهُ إِلاَّ فِي حَقٍّ, وَكَانَ يَخْرُجُ إلى حَاجَتِهِ، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَه؛ أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ؛ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ)؛ أي: اضْرِب الأرضَ بها؛ (هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)، وَاسْتَبْطَأَتْهُ فَتَلَقَّتْهُ تَنْظُرُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبَ اللهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلاَءِ, وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ؛ قَالَتْ: أَيْ! بَارَكَ اللهُ فِيكَ؛ هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللهِ هَذَا الْمُبْتَلَى؟, وَاللهِ عَلَى ذَلِكَ؛ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا, قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ, وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ: أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ, وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللهُ سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ؛ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَتْ، وَأَفْرَغَتِ الأُخْرَى عَلَى أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَّى فَاضَتْ"(صحيح, رواه ابن حبان, والبزار, والحاكم)؛ الأندر: هو البَيْدَر.
عباد الله: كثير من الناس إذا نزل به البلاءُ اشتكى اللهَ -تعالى- إلى الخلق, وهذا دليلٌ على ضَعف في الإيمان, وفسادِ في المعتقد, وربما سَخِطوا على ربهم, واعترضوا على حُكمه, وهذا الاعتراض فيه تطاول وسوءُ أدبٍ مع الله -تعالى-, وسوءُ ظنٍّ بالله -تعالى-, قال ابنُ القيم -رحمه الله-: "وأنتَ تُشاهِدُ كثيراً من الناس إذا أصابه نوع من البلاء؛ يقول: يا ربي! ما كان ذنبي حتى فعلتَ بي هذا؟ وقال لي غيرُ واحدٍ: إذا تبتُ إليه, وأنبتُ وعَمِلتُ صالحاً؛ ضيَّق عليَّ رِزقي, ونَكَّد عليَّ مَعيشتي, وإذا رجعتُ إلى معصيتِه, وأعطيتُ نفسي مُرادها؛ جاءني الرِّزق والعون ونحو هذا, فقلتُ لبعضهم: هذا امتحانٌ منه؛ لِيَرَى صِدْقَك وصبرَك, هل أنت صادق في مجيئك إليه, وإقبالك عليه, فتصْبِر على بلائه؛ فتكون لك العاقبة؟, أم أنت كاذِبٌ؛ فترجع على عقبك؟".
وبعضهم يدَّعي: أنَّ كثرة المصائب التي تحل به بسبب كونه مؤمناً, فيُشدِّد الله عليه البلاء؛ لِحُبِّه إياه! مع أنه مرتكب للمعاصي بأنواعها, ومنحرف عن منهج الكتاب والسُّنة, قال ابن تيمية -رحمه الله-: "قد تُصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائِبُ بسبب ذنوبهم, لا بما أطاعوا فيه الله والرسول؛ كما لحقهم يوم أحدٍ بسبب ذنوبهم, لا بسبب طاعتهم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-".
والتفريق بين الابتلاء والعقوبة يحتاج إلى بصيرةٍ في الدِّين, ومعرفةٍ بالسُّنن وطبيعتها, ودراسةٍ واعية لأحوال الناس, ومقدار صلاحهم وفسادهم, وقُربهم وبُعدهم من دينهم.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أيها المسلمون: في ابتلاء أيوب -عليه السلام- فوائدُ وعِبَرٌ كثيرة, منها: أنَّ الصبر على البلاء من أخلاق الأنبياء والصالحين, وعاقِبتُه حَسَنة, وما أُعطي أحد عطاءً خيراً وأوسعَ من الصبر, وأنَّ الأنبياء هم أشد الناس ابتلاءً وصبراً على البلاء؛ ولذا أصبح أيوب -عليه السلام- أُسوةً حسنةً لمَنْ ابتُلي بأنواع البلاء, قال ابن كثير -رحمه الله-: "مَنْ ابْتُلِىَ في جسده, أو ماله, أو ولده, فله أُسوةٌ بنبيِّ الله أيوب؛ حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك, فصَبَر واحتسَبَ, حتى فرَّج اللهُ عنه".
ومَنْ امتُحِنَ في الدنيا بمحنة, فتلقَّاها بجميل الصبر, وجزيل الحمد؛ رُجِيَ له كشفها عنه في الحياة الدنيا, مع حُسن الجزاء في الآخرة.
ومن الفوائد: أنَّ التداوي أمْرٌ مشروع لا يُنافي الصبر؛ فقد أمَرَ اللهُ -تعالى- أيوبَ -عليه السلام- بأنْ يأخذ بأسباب العلاج؛ فقال له: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)[ص: 42].
والعبودية هي أعلى المقامات التي يتشرَّف الإنسانُ بالوصول إليها؛ فإنَّ أيوب -عليه السلام- شَكَرَ نِعمةَ الله عليه في السراء, وصَبَرَ على قضاء الله وقدره في الضراء؛ ولذلك أثنى الله عليه بقوله: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص: 44], وقال -سبحانه-: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ)[ص: 41]؛ فوصفه بالعبودية.
ومن الفوائد: أنَّ المرأة الصالحة هي التي تُسعِد زوجها وتقف معه عند اشتداد المحن والبلايا, فلا تتركه إذا مرض, ولا تُعيره إذا افتقر.
عباد الله: إنَّ الرضا بقدر الله -تعالى- والتسليم الكامل بذلك يُنْزِلُ السكينةَ في قلب المؤمن, ويزيده طمأنينة, وأمناً وإيماناً, والصبر على المكاره يُزيل من النفوس الهمَّ والغمَّ؛ فيعيش المؤمنُ في غاية السعادة, واللهُ -تعالى- يجعل لأوليائه المتقين فَرَجاً ومَخْرجاً.
وأمَّا المُتضجِّر بقضاء الله؛ فإنه يعيش حياة البؤس والشقاء, وكذا التحسر على ما فات لا ينفع شيئاً, وإنما الذي ينفع هو التوجه إلى الله بالتَّضرُّع؛ كما فعل أيوب -عليه السلام-.
وفي دعاءِ أيوبَ -عليه السلام- ومناجاتِه ربَّه آدابٌ ينبغي أن نراعيها ونتعلمها منه, قال -تعالى-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء: 83]؛ فقد عَرَضَ حالَه على الله -تعالى- وحده, وكأنه يقول: هذه هي حالي, فإنْ كانت تُرضيكَ هذه الأمراض والآلام التي تؤرِّقني, ويُرضيك فقري, وزوال أموالي وأولادي؛ فلا شكَّ أنه يُرضيني, وإنْ كان عفوك وكرمك ورحمتك تقضي أن ترحَمَني وتُزِيل ما بي من بؤسٍ وألمٍ؛ فالأمر كله راجع إليك, ولا حول ولا قوة إلاَّ بك!.
وهناك خَلْطٌ وقَعَ في تصوُّر الرجل الذي تكلَّم على أيوب -عليه السلام- حول حقيقة الابتلاء, فلم يُفرِّق بين الابتلاء والعقوبة؛ ولذا لمَّا سَمِعَ أيوبُ -عليه السلام- كلامَه, استعرض أعماله, فلم يجد إلاَّ خيراً, وقال مُقَوِّماً كلامه: "لا أدري ما تقول؟".
فليس كل ابتلاء مرجعه وسببه الذنوب والمعاصي, فلا ينبغي أن نُسِيءَ الظنَّ بمن حلَّت بهم المصائب, وقد يسيءُ الظنَّ بربه إنْ كانت هذه المصائب من نصيبه!.
ومن العلامات التي يُفرَّق بها بين الابتلاء والعقوبة: أنَّ الابتلاء يقع مع الإيمان والاستقامة على منهج الله, واشتدادُ الابتلاء في هذه الحال دليل على قوة الإيمان؛ ولذلك فإنَّ الأنبياء هم أشد الناس بلاءً, ثم الأمثل فالأمثل, وأما العقوبة فتقع بسبب الذنوب والمعاصي, والانحراف عن المنهج الصحيح, وكلما زادت الذنوب والمعاصي, وكَبُر حجم الانحراف؛ اشتدَّتْ العقوبة.
والابتلاءُ علامةٌ على حبِّ الله للعبد ورضاه عنه, بينما العقوبة إشارةٌ إلى غضب الله -سبحانه-, وعدم رضاه عن العبد.
وتعجيل العقوبة في الدنيا خير من تأخيرها؛ لقول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ؛ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا, وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ؛ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ, حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(حسن, رواه الترمذي).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي