ذكر الله -جل وعلا- هو خير أمر صرفت فيه الأوقات، وأمضيت فيه الأنفاس، ومرَّت فيه الأوقات.. ذكر الله -جلّ وعلا- أساس السعادة للعباد، سبيل الفوز والفلاح يوم التناد...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين: اتقوا الله؛ فإن تقوى الله -عز وجل- أساس السعادة وسبيل الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
عباد الله: إن خير أمر أمضى فيه المؤمن وقته وصرف فيه أنفاسه وحياته ذكر الله -تبارك وتعالى-، فذكر الله -جل وعلا- هو خير أمر صرفت فيه الأوقات، وأمضيت فيه الأنفاس، ومرَّت فيه الأوقات.. ذكر الله -جلّ وعلا- أساس السعادة للعباد، سبيل الفوز والفلاح يوم التناد، وقد مر معنا قريبًا ذكر جملة من الدلائل، وطائفة من الشواهد من كتاب الله -عز وجل- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- الدالة على عظيم مكانة الذكر وفضله، وعلو شأنه، ورفيع قدره، وكثرة عوائده وفوائده، وآثاره وثماره على العبد الذاكر في دنياه وأخراه.
عباد الله: ومما ينبغي أن يعلم هنا أن ذكر الله -جلّ وعلا- ليس مجردَ التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، نعم هذا أجلّ الذكر وأفضله، لكن ذكر الله -عز وجل- ليس منحصرًا في هذا، بل ذكر الله -جلّ وعلا- يتناول أنواعًا مهمة جاء تبيانها وإيضاحها في كتاب الله -جلّ وعلا- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وكلها داخلة في الذكر لله -تبارك وتعالى-، وهي في الجملة -عباد الله- ترجع إلى أربعة أنواع فتنبهوا لها -رعاكم الله-:
أما النوع الأول في ذكر الله تعالى فهو بإنشاء الثناء عليه -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ثناءً وتمجيدًا، وتقديسًا وتنزيهًا، ومن ذلكم -عباد الله- الكلمات الأربع التي وصفهن -عليه الصلاة والسلام- بأنهن أحب الكلام إلى الله، وقال في حديث آخر: "لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس"، وكل ذكر مأثور وثناء وارد في القرآن والسنة على الله -جلّ وعلا- فهو داخل في هذا النوع.
النوع الثاني -عباد الله-: الإخبار عن الله -تبارك وتعالى- بأحكام أسمائه وصفاته، فهذا ذكر لله تعالى وأي ذكر، عظيم أن تذكره سبحانه بذكر أحكام أسمائه وصفاته، فالإخبار عن الله بأنه يسمع ويرى، يسمع أصوات العباد، ويرى أعمالهم، ويعلم أحوالهم، وأنه -تبارك وتعالى- يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات، وأنه أرحم بالناس من آبائهم وأمهاتهم، وأنه يغفر السيئات ويقيل العثرات، ويجبر الكسير ويغيث الملهوف... إلى غير ذلك من الإخبار عنه -جلّ وعلا-، فكل ذلك ذكر له سبحانه، وبهذا نعلم -عباد الله- أن كتب العقائد المؤلفة على نهج أهل السنة كلها كتب ذكر لله -جل وعلا-، فهي ذكر لله بمعرفته ومعرفة عظمته ومعرفة جلاله وكماله ومعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فكل ذلك ذكر لله -تبارك وتعالى-.
النوع الثالث -عباد الله-: ذكر الله -تبارك وتعالى- بذكر أمره ونهيه، والإخبار عنه -جلّ وعلا- بأنه أمر بكذا ونهى عن كذا، وأحل كذا وحرم كذا، ورضي هذا وسخط ذاك، فكل ذلك ذكر لله -جلّ وعلا-، قال عطاء الخراساني -رحمه الله-: مجالس الحلال والحرام مجالس ذكر لله، كيف تصلي؟! كيف تصوم؟! كيف تحج؟! كيف تبيع وتشتري؟! كيف تنكح وتطلق؟! وأشباه ذلك، كل ذلك ذكر لله -تبارك وتعالى- بذكر أمره -جلّ وعلا- ونهيه، وبهذا نعلم -عباد الله- أن الكتب المؤلفة في بيان الأحكام وفقه الشريعة وبيان الأعمال وفروع الأعمال كل هذه الكتب ذكر لله -جلّ وعلا-، فمذاكرتها ومدارستها وتعلم الأحكام الواردة فيها كل ذلك من إقامة ذكر الله -جلّ وعلا-.
النوع الرابع -عباد الله-: ذكر الله -تبارك وتعالى- عند أمره ونهيه، فاذكره -جلّ وعلا- عند أمره لتفعل المأمور، وتذكره -جلّ وعلا- عند نهيه لتترك المنهي وتجتنبه، وهذا -عباد الله- يبّن لكم خللاً يقع فيه كثير من الناس ألا وهو أنهم يذكرون الله بذكر أمره ونهيه، فيعلمون أنه أمر بكذا فلا يفعلوه، وأنه نهى عن كذا فيقترفوه، وذلك لقلة وضعف ذكرهم لله عند أمره ونهيه سبحانه، فإذا قام بقلب المسلم ذكر لله تعالى عند الأوامر والنواهي يعظم إقباله على الله -عز وجل- طاعة وتذللاً وخشوعًا وخضوعًا وانقيادًا وامتثالاً، وحظ العبد من ذلك بحسب حظِّه من الذكر لله -جلّ وعلا-.
فهذه أنواع أربعة لذكر الله -جلّ وعلا-، مبينة في كتاب ربنا وسنة نبينا -عليه الصلاة والسلام-، وكلها من إقامة ذكر الله -عز وجل-، وقد أوضح هذه الأنواع إيضاحًا عظيمًا، وبينها بيانًا شافيًا وافيًا الإمام العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتابه الوابل الصيب، وهو كتاب عظيم النفع، كبير الفائدة، لا يستغني عنه كل مسلم، وقد ذكر -رحمه الله- عقب بيانه لهذه الأنواع، أن من ذكر الله -عز وجل- بها فقد أتى بأفضل الذكر و أعظمه وأجله. جعلنا الله جميعًا من الذاكرين له حقًّا، ومن الشاكرين له صدقًا، ومن العاملين بطاعته على ما يحب سبحانه. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله أيها المؤمنون: القرآن الكريم كتاب ذكر لله -تبارك وتعالى-؛ قال الله -عز وجل-: (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص: 1]، وقال -جلّ وعلا-: (هَذَا ذِكْرٌ) [ص: 49]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، القرآن الكريم -عباد الله- كتاب ذكر لله -تبارك وتعالى-، وهو جامع في دلالاته وبيّناته، الأنواع الأربعة كلها، فكلما كان العبد معتنيًا بالقرآن قراءة وتدبرًا وتأملاً وتطبيقًا فهو من أعظم الناس ذكرًا لله -تبارك وتعالى-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [ص: 29]؛ ولهذا -عباد الله- فإن القرآن أعظم الذكر لله -جلّ وعلا-، وقد جمع للمؤمنين أبواب الهداية وسبل السعادة وطرق الفلاح في الدنيا والآخرة: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9]، ولهذا وجب على من أراد لنفسه حظًّا وافرًا من الذكر لله أن يُعنى بكتاب الله -جلّ وعلا- قراءةً وتدبرًا ومذاكرة وتأملاً وعملاً وتطبيقًا.
واعلموا -رعاكم الله- أن الكيس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، وصلوا على إمام الذاكرين وقدوة الموحدين وخير عباد الله أجمعين: محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"، وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام- الحث من الإكثار على الصلاة والسلام عليه في ليلة الجمعة ويومها، فأكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وأعنه على البر والتقوى، وسدده في أقواله وأعماله يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين لكل قول سديد وفعل رشيد يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك أواهين، لك منيبين، إليك مخبتين، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اقبل توبتنا، واغفر زلتنا، وتقبل أعمالنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح ذات بيننا، وألف بين قلوبنا، واهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا، واجعلنا مباركين أينما كنا، اللهم وأصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم وارفع عنا الغلاء والوباء والمحن والزلازل والفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي