إن الصَّبر والسَّماحة خُلُقَان في النَّفس يَحتاج إليهما العبد في مقامَات الدِّين كلِّها وفي جميع مصالحه وأعماله؛ فلَا غنى له في شيءٍ من ذلك عن الصَّبر والسَّماحة، ولهـذا فإنَّ هذين الخُلُقَين الفَاضلين يُحتاج إليهما في جميع مقامَات الدِّين، فإنّ النفس يراد منها شيئان: بذل ما أمِرت به وإعطاؤه، فالحامل عليه: السماحة، وترك ما نُهيت عنه والبعد منه، فالحامل عليه....
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لَا إلـه إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه وصفُّيه وخَليله وأمينُه على وحيه ومبلِّغ النَّاس شرعه، ما ترك خيرًا إلَّا دلَّ الأمَّة عليه ولا شرَّا إلّا حذَّرها منه؛ فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ: أيُّها المُؤمنون -عبَاد الله-: اتَّقوا الله تعالى حقّ تقواه، وراقبوه سُبحانه مراقبة من يعلم أنّ ربَّه يسمعه ويراه: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ)[البقرة 197].
عباد الله -أيُّها المؤمنون-: روى أبو يعلى في مسنده وابنُ أبي شيبة في مصنَّفه وغيرهما عن جابر بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أنّ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِل: أيُّ الإيمان أفضل؟ قال: "الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ"، وهو حديث حسن ثابت عن النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما له من شواهد.
عبَادَ الله: وقد يقول قائل ويتسَاءل متسائل: لم كان الصَّبر والسَّماحة بهـذه المنزلة العليَّة من الإيمان وبهذه المكانة الرَّفيعة من الدِّين؟
والجواب -عباد الله-: أنَّ الصَّبر والسَّماحة خُلُقَان في النَّفس يَحتاج إليهما العبد في مقامَات الدِّين كلِّها وفي جميع مصالحه وأعماله؛ فلَا غنى له في شيءٍ من ذلك عن الصَّبر والسَّماحة، ولهـذا فإنَّ هذين الخُلُقَين الفَاضلين يُحتاج إليهما في جميع مقامَات الدِّين، ولهـذا يقول العلَّامة ابنُ القيِّم -رحمه الله تعالى- في بعض كُتبه، وقد أورد هـذا الحديث مُبيِّنًا مكانة هـٰذا الحديث العظيمة ومبيِّنًا أيضًا مدلوله ومعناه، قال رحمه الله: "وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها، فإنّ النفس يراد منها شيئان: بذل ما أمِرت به وإعطاؤه فالحامل عليه: السماحة، وترك ما نُهيت عنه والبعد منه فالحامل عليه: الصبر"، وقد سُئل الحسن البصري -رحمه الله تعالى- وهو أحد رواة هـٰذا الحديث قيل له: ما الصَّبر وما السَّماحة؟ قال: "الصَّبر عن المحارم، والسَّماحة بأداء الفَرائض".
أيُّها المؤمن: إذا تأمَّلت في هـٰذا الحديث العظيم وفي دلالته العَظيمة تجد أنَّه حديثٌ جامع للدِّين كلِّه؛ لأنَّكَ أيُّها المؤمن مأمورٌ بأفعال وطَاعات وعبادات متنوِّعات، وهـذه كلُّها تحتاج منك إلى سماحة نفس، والسَّماحة في أصل مدلولها السُّهولة، واليُسر والسَّلاسة، فمن كانت نفسه سلسلةً سهلةً سمحةً انقاد للأوامر، وامتثل الطَّاعات، ولم يتلكَّأ ويمتنع.
ومطلوبٌ من العبد الانكفاف عن المعاصي، والبُعْد عن المناهي، وتجنُّب المحرَّمات، وهـذا -عباد الله- مقامٌ يَحتاج من العبد إلى صبر، والصبر حبس النَّفس ومنعها، فإذا كان لا صبر عنده فإنَّ نفسه تنفلت ولا يتمكَّن من الامتناع عمَّا نهاه اللهُ عنه.
وبهذا يُعلم -عباد الله- أنَّ من لا صبر عنده لا يستطيع أن يقاوِم، ومن لا سماحة لديه لا يستطيع أن يقوم.
نعم -عباد الله- من لا صبر عنده لا يستطيع أن يقاوم النَّفس من رعونتها عند حلول البلاء، ولا يستطيع أن يقاوم النَّفس من انفلاتها عند دواعي الشَّهوات والأهواء.
ومن كان -عباد الله- لا سماحة لديه فإنَّ النفس غير السَّمحة لا تنقاد للأوامر، ولا تستجيب لداعي الطَّاعات، فإذا دُعيت نفسه لطاعة شحَّت، وإذا أُمرت بفضيلة تأبَّت، وبهذا يكون من المحرُومين؛ فلا يستطيع من لا صبر عنده ولا سماحة على النُّهوض بمصالحه، والقيام بأعماله، والامتناع عمَّا ينبغي عليه الامتناع منه.
فما أحوجنا -أيُّها المؤمنون- إلى أن نكون من أهل الصّبر والسّماحة لتنهض نفوسنا قيامًا بطاعة الله -جلَّ وعلا-، ولتمتنع نفوسنا عمَّا نُهيت عنه من المحارم والآثام، والتَّوفيق بيد الله وحده لا شريك له.
فنسأله سبحانه ونلجأ إليه وحده متوسِّلين إليه بأسمائه الحُسنى وصفاته العُليا أن يمنَّ علينا بهذا الإيمان العظيم: الصّبر والسّماحة.
أقول هـذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنَّه هو الغفور الرَّحيم.
الحمد لله عظيم الإحسان واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إلـه إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسولُه صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ: أيُّها المُؤمنون: اتَّقوا الله -تعالَى-.
واعلموا -عباد الله- أنّ سعادة العبد وفلاحه في دنياه وأخراه مرتبطة بتحقيق الإيمان الّذي خُلق لأجله، وأوجد لتحقيقه.
والإيمان -عباد الله- هو زينة العبد الحقيقيَّة وسعادته وفلاحه في دنياه وأخراه، فمن منَّ الله عليه بالإيمان وحبَّب قلبه له وهداه إليه سعد في دنياه وأخراه، والإيمان منّةٌ إلهيَّة وهبةٌ ربَّانية، وتوفيق من الله -عزّ وجلّ- لمن شاء من عباده: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[الحجرات: 7-8].
فاللَّهم إلـهنا وسيِّدنا ومولانا زيِّنا جميعًا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
وصلُّوا وسلِّموا رعاكم الله على محمَّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦]، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهمَّ صلِّ على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد، وبارك على محمَّد وعلى آل محمَّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد. وارض اللهمَّ عن الخُلفاء الرَّاشدين الأئمَّة المهديِّين أبي بكْرٍ وعمر وعثمان وعليّ، وارض اللهمَّ عن الصَّحابة أجمعين وعن التَّابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشِّرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدِّين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيِّك محمَّد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، اللهم وعليك بأعداء الدِّين فإنَّهم لا يعجزونك، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللّهم من شرورهم.
اللّهمَّ وآت نفوسنا تقواها زكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك، وأعنه على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهمَّ أعنَّا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا.
اللهمَّ وأصلح لنا شأننا كلَّه ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
اللهم إنَّا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
وآخر دعوانا أن الحمْد لله ربّ العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي