إن في قسمات وجه الشتاء عظات بليغة تنادي المتأملين إلى الاعتبار، وتذكرهم بنعم المولى الكريم التي لا تعد ولا تحصى؛ فها أنت -أيها المسلم- الغني إذا طاردك الشتاء بزمهريره فررت إلى حصن ملابسك الشتوية السميكة التي تصد عنك عاديات البرد القارس...
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: إن في تقلب الزمان لعبرة لأولي الأبصار، وآية بينة على قدرة الخالق القهار، الذي لم يجعل الزمان نهاراً بلا ليل، ولا ليلاً بلا نهار، ولم يصيّره كله صيفًا بلا شتاء، ولا شتاء بلا صيف، ولكنه -تعالى- بحكمته البالغة وقدرته الفائقة جعل زمن هذه الحياة متقلبًا بين الليالي والأيام والفصول الأربعة طَوال العام.
قال بعض أهل العلم: "لو كان الزمان كله فصلاً واحداً لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه؛ فلو كان صيفاً كله لفاتت منافع مصالح الشتاء، ولو كان شتاء لفاتت مصالح الصيف، وكذلك لو كان ربيعاً كله، أو خريفاً كله".
فسبحانك -ربنا- ما أبدع خلقك، وأحكم صنعك، قال -جل وعلا-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ)[آل عمران:190].
أيها المسلمون: إن فصل الشتاء أحد فصول السنة الأربعة، ويستمر كل فصل ثلاثة أشهر؛ "ويأتي الشتاء بين فصلي الخريف والربيع، ويُعد أبرد فصول السنة؛ ويحصل الشتاء لأن أشعة الشمس تسقطُ فيه على الأرض بزاويةٍ مائلةٍ، ويختلف طول النّهار أثناء الشتاء؛ إذ يقصرُ تدريجيّاً مع تقدّم الفصل، وبهذا يخلتف طول الليل على حساب النهار، وحسب المكان على الأرض".
ومجيء الشتاء يُفرح العابدين، وتسعد به قلوب الصالحين؛ لأنه موسم خصب لعبادتين عظيمتين، ينال المؤمنون منهما حظ أرواحهم لتسمو إلى آفاق التقوى والإحسان، ألا وهما: الصيام، وقيام الليل؛ فعن ابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنّه قال: "مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه البركة، ويطول فيه اللّيل للقيام، ويقصر فيه النّهار للصّيام".
وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "نعم زمان المؤمن الشتاء: ليله طويل فيقومه، ونهاره قصير فيصومه".
وعن عبيد بن عمير -رحمه الله- أنّه كان إذا جاء الشّتاء قال: "يا أهل القرآن: طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصُر النّهار لصيامكم فصوموا".
فهذا الشتاء فرصتكم-معشر العابدين- لتطويل صلاة الليل؛ فليل الشتاء ممتد يمكِّن المؤمن من أخذ حظه من المنام، والظفر بنصيب وافر من القيام.
كما أنه فرصة لكثرة الصيام لسببين: أولهما: أن نهاره قصير، ثانيهما: أن جوه بارد، وبذلك تزول المشقة التي قد تتولد بطول زمان النهار أو بشدة الحرارة فيه.
ولا عجب حينئذ أن يكون الشتاء ربيع المؤمن، قال ابن رجب-رحمه الله-: "وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، ويتنزّه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، ويصلح بين المؤمن في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة من الطاعات؛ فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة، ولا كلفة تحل له من جوع ولا عطش، فلا يحس بمشقة الصيام".
عباد الله: إن المسلم في زمن الشتاء يحتاج إلى معرفة بعض الأحكام الفقهية التي تتعلق بعبادته، خاصة الطهارة التي هي مفتاح عبادة الصلاة؛ فالوضوء شرط من شروط الصلاة التي يجب على المسلم الإتيان بها، وفي بعض الأحوال -ولدى بعض الناس- لا يوجد إلا الماء البارد للوضوء به، وهناك تحصل المشقة، لكن المؤمن الصادق يتجاوز المشقة المتحملة فيحرص على الوضوء في البرد، بل على إسباغه وتمامه؛ لما يعلمه من عظيم الأجر على ذلك؛ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط"(رواه مسلم).
ومن أحكام الشتاء: أن من لم يجد ماء ساخنًا للوضوء أو الاغتسال ويشق عليه استعمال الماء البارد في شدة البرد؛ فإن الله قد خفف عنه بجواز التيمم، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة6].
وجاء في سنن أبي داود وغيرها عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنه قال: "احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا عمرو: صليت بأصحابك وأنت جنب"؟!. فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)[النساء29]؛ فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل شيئاً"(رواه أبو داود).
فكان هذا فقهًا من عمرو، وإقراراً من رسول الله له عليه.
ومن أحكام الشتاء: جواز المسح على ما يستر القدمين من جوارب وخفاف ونحو ذلك، إذا كانت طاهرة، وأدخلها المسلم على طهارة، وكان ذلك في الحدث الأصغر لا الأكبر، وكانت في الزمن المحدد شرعًا وهو: يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بليالها للمسافر؛ فعن جرير بن عبد الله أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه، ثم قام فصلى، فسئل؟ فقال: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- صنع مثل هذا"(متفق عليه).
وهذا من فضل الله على عباده في دفع المشقة عنهم؛ فإن خلع ما يغطي القدمين للوضوء في شدة البرد فيه نوع مشقة، ولكن الله شرع المسح على ذلك رحمة منه بعباده؛ فلله الحمد والشكر.
عباد الله: فصل الشتاء يطول فيه الليل، ويقصر فيه النهار، وفيه من الأحوال ما يجعله آية من آيات الله البديعة، ودلائل قدرته الرفيعة.
فتأملوا-رعاكم الله- ما في فصل الشتاء من شدة البرد، وقسوة الزمهرير الذي يذكرنا ببرد جهنم الذي يصير على أهلها عذابًا كما تصير عليهم الحرارة كذلك، قال -تعالى-: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا)[النبأ:24-25]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الغساق هو: الزمهرير يحرقهم ببرده، كما تحرقهم النار بحرها".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير"(متفق عليه).
ألا فلنتذكر بهذا البرد القارس بردَ نار جهنم لنستعد بالأعمال الصالحة التي تبعدنا عن ذلك المصير المؤلم، نسأل الله لنا ولكم السلامة من عذاب جهنم.
وانظروا-معشر المسلمين-في رياح الشتاء القاصفة، وعواصفها التي تقشر وجه الأرض بشدة هبوبها، وتصك الأسماع بصرصرها؛ فلقد أهلك الله -تعالى- بها عاداً حتى تركهم جثثًا هامدة، قال -تعالى-: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ)[الحاقة6-8].
وفي عهد رسول الله-صلى الله عليه وسلم- طرد بها أحزاب الكفر المتحزبة التي جاءت لاستئصال الإسلام من طيبة الطيبة، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً)[الأحزاب9].
وقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ"(متفق عليه).
فإذا هبت الريح فلنقل كما كان يقول النبي-صلى الله عليه وسلم-؛ فعن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشرما فيها وشر ما أرسلت به"(رواه مسلم).
نسأل الله -تعالى- أن يجعلنا ممن يعتبرون بعبره، ويستغلون مواسم الخير في طاعته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم..
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، محمد بن عبد الله، أما بعد:
أيها المسلمون: إن في قسمات وجه الشتاء عظات بليغة تنادي المتأملين إلى الاعتبار، وتذكرهم بنعم المولى الكريم التي لا تعد ولا تحصى.
فها أنت -أيها المسلم- الغني إذا طاردك الشتاء بزمهريره فررت إلى حصن ملابسك الشتوية السميكة التي تصد عنك عاديات البرد القارس، وأويت إلى بيت ينعم أهله بالمدافئ التي تجعلهم في أمان من شدة البرد.
ولديك من الأطعمة التي تعطيك الطاقة، وتنبت في جسدك الحرارة، مما يجعل سهام البرد تتكسر على تلك التروس السابغة.
تذكر -أخي المسلم- أن هناك إخوانًا لك قد اجتمع عليهم هول الخوف والبرد والجوع؛ فبطونهم خاوية لقلة الطعام، وقلوبهم مرتجفة لتناوب المخاوف عليها، وأجسادهم قد رسم عليها برد الشتاء ألوانًا غير ألوانها، وقشر نعومتها فصارت خشنة دامية؛ ألا فأحسن بإذهاب قسوة البرد عمن هم واقعون تحت سطوته بلا دافع، ألم تسمع قول الله -تعالى- يقول: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[القصص:77].
ثم اعلم أن الصدقة في وقت الحاجة أعظم أجراً من غيرها؛ فإذهاب قساوة البرد عن الفقراء في هذه الأيام بإطعامهم، وشراء الملابس والأغطية الدافئة لهم أولى من أي وقت آخر، قال -تعالى-: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)[البلد:11-16].
عباد الله: تعلموا من الشتاء عبره وعظاته، وسارعوا فيه إلى طاعة الله ومرضاته بصيام النوافل، وقيام الليل في الثلث الآخر، والإحسان إلى المحتاجين الذين ليس لهم من شدة الشتاء حصن ولا ساتر.
نسأل الله أن يجعل الشتاء لنا غنيمة، وموسمًا للأجور العظيمة.
وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين؛ (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي