الإعاقة الحقيقية هي أن ينعم الله عليك بجميل العطايا، وجليل الصفات والمزايا، ثم لا تستثمرها بما ينفعك وينفع المسلمين، فإذا أنت معطل القوى، واهن العزم، ضعيف الهمة، محسوب على الكسالى والمحرومين وأهل العجز وأهل الأماني والتسويف.
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، أما بعد:
عباد الله: خلق الله الخلق متباينين في مواهبهم وملكاتهم، مختلفون في جهودهم وطاقاتهم، متمايزون في صفاتهم وأشكالهم، فجعل منهم القوي والضعيف، والصحيح والسقيم، والمعاق والسليم، ومع هذا التفاوت الذي جعله الله بينهم إلا أنه أمر بتقريبه وتقليصه، بما شرعه من تراحم وتعاطف وتعاون وتكافل، فاضمحلت الفروقات المقدرة بين الناس، وتلاشى التباين بينهم.
واليوم الثالث من ديسمبر هو اليوم العالمي للمعاق، يتحدث فيه العالم عن قضاياه ومعاناته، وهمومه وأوجاعه، ومشاكله واحتياجاته، لكن الإسلام لم يحدد يومًا وحدًا فقط لهذه الفئة، بل شرع طرقًا لمعاملتهم على الدوام، وحضَّ على الاهتمام بهم باستمرار، ونحن اليوم ننتهز هذه الفرصة العالمية للتذكير بحقوق إخواننا ذوي الاحتياجات الخاصة، وبيان مكانتهم ومنزلتهم في الإسلام.
وقد عرَّف بعضهم ذوي الاحتياجات الخاصة بأنهم مجموعة من الأشخاص الذين لا يستطيعون مُمارسة حياتهم بشكل طبيعيّ دون تقديم رعايةٍ خاصّة لهم نتيجةَ وجود قصور فكريّ، أو عصبيّ، أو حسيّ، أو ماديّ، أو مزيج من هذه الحالات كلّها بشكلٍ دائم، بالإضافة إلى حاجتهم لخدمة تفوّق الخدمة المُقدّمة لأقرانهم من نفس العمر".
وإن من يعرج على التاريخ سيجد عجبًا في طريقة تعامل الأمم السابقة مع هذه الشريحة من المجتمع، إذ سيظهر له جليًّا نبذ المجتمعات القديمة لهم، فمنهم من كان يتخلص منهم بالقتل، كما فعل الفراعنة، ومنهم من نادى بإخراجهم وطردهم من المدن باعتبارهم أرواحًا شريرة وأنفسًا خبيثة، كما قرر ذلك الفلاسفة اليونانيون، بل وصل الحال ببعض المجتمعات الأوربية أن سنت السنن وشرعت القوانين التي تقصيهم عن الوظائف العامة، والمناصب الهامة.
ثم جاء الإسلام مهتما بهذه الفئة رافعًا من قدرها، معليًا من شأنها، مؤكدا أنها جزء أصيل من المجتمع المسلم، لها حقوق واجبة، ومعاملة مميزة، لا تستنقصها ولا تقلل من شأنها. فجعل الإسلام مِن أبواب الصدقات إعانة المصاب، ومساعدة من به عجز؛ فعن أبي ذرٍّ الغفاري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على كل نفس، في كل يوم طلعَتْ فيه الشمس، صدقة منه على نفسه"، قلت: يا رسول الله، مِن أين أتصدق وليس لنا أموال؟ قال: "لأن مِن أبواب الصدقةِ التكبيرَ، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكَر، وتعزِل الشوك عن طريق الناس، والعَظْم والحجَر، وتَهْدي الأعمى، وتُسمِع الأصمَّ والأبكم حتى يفقَهَ، وتدُلُّ المستدل على حاجة له قد علمت مكانها، وتسعى بشدَّةِ ساقيك إلى اللهفانِ المستغيث، وترفَعُ بشدَّةِ ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على نفسك، ولك في جِماعِ زوجتك أجرٌ"(رواه أحمد واللفظ له، ومعناه في مسلم).
كما جاء الإسلام بمراعاتهم في الجوانب النفسية والمعنوية، فحثهم على الصبر على ما ابتلاهم الله به من أقدار، ورتب لهم على ذلك أجورا عظيمة؛ فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي مسلياً لهم ومخففاً عنهم: "يقول الله -عز وجل-: من أذهبت حبيبتيْه فصبر واحتسبَ لم أَرْضَ له ثواباً دون الجنة"(رواه الترمذي). وقال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[الحديد: 22، 23].
وحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- تحذيرًا شديدًا ممن يسيئ لمشاعرهم، ويجعل منهم مادة للسخرية واللهو والعبث فقال: "ملعون من كَمَّهَ أعمىً عن طريق"(رواه أحمد)، والمعنى: أن من أضلّ الأعمى عَن الطريق، أَو دله على غير مقْصده فهو ملعون.
كما حرَّم الله -تعالى- الاستهزاء والسخريَّة والتنابز بالألقاب سواء مِن أهل البلاء، أو غيرهم؛ قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11].
ومن أروع صور العناية بذوي الاحتياجات الخاصة أن الإسلام لم يحرمهم من المشاركة في الأمور العامة والخاصة، بل وضعهم في مكانتهم اللائقة بهم، فيتيح لهم الإسلام الفرص لكي يضطلعوا بدورهم في بناء المجتمع، ويشاركوا في عمار الحياة، وبناء الدنيا، فهذا عبدالله بن أم مكتوم –رضي الله عنه وأرضاه- مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كان رجلًا أعمى، ومع ذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يستخلفه على المدينة، "فاستخلفه مرتين يصلي بهم وهو أعمى"(رواه أحمد).
ومن جهة التكليف فقد راعاهم الإسلام، ولم يحمّلهم ما لا يطيقون من التكاليف الشرعية، أو ما لا يتناسب وقدراتهم وطاقاتهم، فنفى عنهم الحرج في أكثر من موطن، وسهل لهم طرق العبادة، وأوضح لهم الرخص، قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)[الفتح: 17].
وعلى مر التاريخ الإسلامي كان لهذه الفئة مكانة عالية ومنزلة سامية، فقد كان الخلفاء والحكام يولونهم مزيد عناية، ويتعهدونهم بالرعاية، فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرض لذوي العاهات راتباً في بيت المال حمايةً لهم من ذُلِّ السؤال.
وفي العصر الأموي أمر عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - بإحصائهم وتخصيص قائد مرافق لكل كفيف، وخادم لكل مقعد لا يقوى على أداء الصلاة وقوفاً.
وفي العصر العباسي بنى الخليفة أبو جعفر المنصور في بغداد مشفىً خاصًّا للمكفوفين، ومأوى للمجذومين وملجأ للعجائز.
وفي العصر المملوكي كان السلاطين يشيدون المشافي الخاصة لعلاج المعوقين والمرضى، ويعطونهم المال اللازم لصرفه في شؤون حياتهم، حيث قدر لهم جزء من ريع الأوقاف الإسلامية ليُصرف في حاجاتهم ويغنيهم عن السؤال.
عباد الله: إن الإعاقة الحقيقية هي أن ينعم الله عليك بجميل العطايا، وجليل الصفات والمزايا ثم لا تستثمرها بما ينفعك وينفع المسلمين، فإذا أنت معطل القوى، واهن العزم، ضعيف الهمة.
الإعاقة الحقيقية أن تكون شابًّا تمتلأ نشاطًا وحيوية، مكتمل الحواس، صحيح العقل، سليم البدن، لكنك كلٌّ على مجتمعك، خامل في محيطك، مخذول بين الناس، لا أنت في شأن الدين أفلحت، ولا في شأن الدنيا نجحت.
الإعاقة الحقيقية أن تبلغ من العمر عتيًّا ثم لا يكون لك دور في حفظ قرآن، أو تعليم، أو دعوة، أو إصلاح بين الناس، أو أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر.
إن المعاق الذي بالعين تبصره *** يخالف الله في سر وفي جهر
إن المعاق الذي يسعى لخائنة *** من المآثم أضحى حائر الفِكَر
إن المعاق الذي يسعى بلا هدف *** يسعى كسعي قطيع الشاء والبقر
إن الإعاقة يا من جئت تسألني *** في ظلمة القلب بين الفسق والكفر
إن الإعاقة لم تكن يوما ما حاجزًا يمنع الشخص من الإبداع والتميز، فلا إعاقة مع الإرادة، والتاريخ خير شاهد على ما نقول؛ فمن تأمل في التاريخ وبحث سيجد كثيرًا من العلماء والأدباء والشعراء والمفكرين كانوا من ذوي الاحتياجات الخاصة، إلا أنهم أثروا وساهموا مساهماتٍ جليلة في العلم والتعليم والدعوة وغيرها من المجالات.
فهذا عطاءُ بن أبي رباح كان من كبار علماء زمانه وعصره، ورغم ذلك كان أعور العين، أفطس الأنف، أعرج الرجل، أشلَّ اليد، أقطع الأذن، وهذا حاتم بن عنوان كان مشهورًا بالزهد والتقشف وكان أصمًّا، وهذا المحدث الكبير سليمان بن مهران وهو تابعي حافظ للحديث، وعالم بالسنة وكان أعمشًا، وهذا عبدالرحمن بن هرمز علم من أعلام المسلمين وعالم بالقرآن والسنة، وخبير بأنساب العرب وكان أعرجًا، أما في عصرنا الحاضر فالأمثلة كثيرة وكثيرة من أبرزها وأجلها سيرة الإمام الجهبذ، والعالم الورع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكان قد أصيب بالعمى في سن مبكرة من حياته.
ومن هذه السير العطرة، والنماذج النيرة يتضح لنا جميعًا أن الإعاقة هي إعاقة الهمة ليس إلا، ومن سمت به همته لم تمنعه عن العلياء إعاقته. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من أهل الهمم العالية، والمقامات السامية.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
عباد الله: إن لذوي الاحتياجات الخاصة حقوقا وواجبات لا بد علينا كأفراد أو حكومات أن نسعى في توفيرها لهم، ومن ذلك رعايتهم معنويًا وشعوريًّا بتحفيزهم، وتشجيعهم، وتجريم كل ما من شأنه أن يثبط عزمهم أو يوهن إرادتهم، أو يحول بينهم وبين تحقيق ما يريدون.
كما ينبغي أن نوفر لهم احتياجاتهم من التعليم والصحة والمراكز المتخصصة في التأهيل، وإيجاد منظماتٍ ومؤسساتٍ وجمعيات خاصةٍ بهم، تهتم بشؤونهم، وتسعى إلى تنميتهم.
كما يتوجب علينا مساعدتهم في إنشاء عوائل مستقرةٍ من خلال السماح لهم بالزواج، وتوعية المجتمع بحقهم هذا، وكسر نظرته الدونية للمعاق، وبيان أنه قادر - بإذن الله - على إنشاء أسرة كريمة، تتمتع بحياة كريمة، كما ينبغي أن يدمجوا في سوق العمل بإيجاد وخلق فرص عمل مناسبة لأوضاعهم، ومستواهم الصحي والذهني والحركي.
وفي الختام نرسل رسالة إلى كل معاق نهمس في أذنه لنقول له: إن الإعاقة لا تَسلِب الإرادة، فلا تجعل من إعاقتك حجّة تقف دون تحقيق حلمك، أو التراجع عن الطريق الذي سيوصلك إلى أهدافك وطموحاتك، فاكتشف مواهبك، وابحث عن ذاتك، واستغلال قدراتك، واستعن بالله ولا تعجز، وارفع عقيرتك، وقل بأعلى صوتك:
إني أراني بين همٍ ألتوي*** رغم الإعاقة صار قلبي جلمدا
كم حاولوا قتلي بثبط عزيمتي***لكنني صلد فلم أخشَ الردى
بل إنني وطّنت نفسي دائما*** أن أجعل الإيمان عـيــنا موردا
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي