بشَّر اللهُ -جلَّ وعلا- عبادَه الأبرارَ بالجنَّةِ، وما فيهَا من النعيمِ المقيمِ،.. ووصفَ لهمْ ذلكَ النَّعيمَ في كتابِه العظيمِ وصوَّره تصويرًا بديعًا ووصفًا دقيقًا حاثًّا العبادَ على سلوكِ الطريقِ الموصلِ إليهَا، مع القوَّةِ واليقينِ والشَّوقِ إلى نيلِهَا.
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمينَ؛ وعدَ عبادَه الصَادقينَ بالجنَّاتِ والنعيمِ المقيم، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وصحبِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيُّها المؤمنونَ: بشَّر اللهُ -جلَّ وعلا- عبادَه الأبرارَ بالجنَّةِ، وما فيهَا من النعيمِ المقيمِ، قال -تعالى-: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[التوبة: 21، 22]، ووصفَ لهمْ ذلكَ النَّعيمَ في كتابِه العظيمِ وصوَّره تصويرًا بديعًا ووصفًا دقيقًا حاثًّا العبادَ على سلوكِ الطريقِ الموصلِ إليهَا، مع القوَّةِ واليقينِ والشَّوقِ إلى نيلِهَا.
وقدْ وردَ وصفُ نعيمِ الجنَّةِِ في آياتٍ كثيرةٍ من القرآنِ، ومن ذلكَ ما وردَ في سورةِ الرحمنِ [الآيات من 46-78]: قال اللهُ -تعالى-: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان)؛ أيْ لِمنَ اتَّقى اللهَ من عبادِه, وخَافَ مقامَه وأطاعَه وتركَ معاصِيَه وما يغضبُه جنَّتَان، (فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان) أي فبأيْ نعمِ ربِّكما -أيُّهَا الثَّقلانِ- تُكَذِّبَانِ؟، (ذَوَاتَا أَفْنَان)؛ أي جنَّتَانِ ذواتَا أغصانٍ نضرةً منَ الفواكهِ والثمارِ، (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَان)، أي فيْهمَا عينانِ من الماءِ تجريانِ خلالَ هاتينِ الجنَّتينِ، (فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَان)، أيْ فيهمَا مِنْ كلِّ نوعٍ من الفواكهِ صِنْفَانِ.
(مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَان)، أيْ متكئينَ فيهمَا على فُرشٍ مُبطَّنةٍ من غليظِ الديباجِ وهو الحريرُ, وثمرُ الجنَّتينِ قريبٌ إليهمْ، (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَان)؛ أيْ: في هذهِ الفرشِ زوجاتٌ قاصراتٌ أبصارَهنَّ على أزواجهِنَّ, لا يَنْظرنَ إلى غيرهِم متعلقاتٌ بهمْ, لم يَطئْهنَّ إنسٌ قَبْلَهم ولا جانٍّ، (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَان)؛ أي: كأنَّ هؤلاءَ الزوجاتِ من الياقوتِ والمرجانِ في صفائهِنَّ وجمالهِنَّ.
(هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَان)؛ أي هل جزاءُ مَنْ أحْسنَ بعملِه في الدُّنيَا إلا الإحسانَ إليه بالجنَّةِ في الآخرةِ؟، (وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَان) أي ومِنْ دونِ الجنَّتينِ السابقتينِ جنَّتانِ أُخرَيانِ، (مُدْهَامَّتَان) أي هاتان الجنَّتانِ قد اشتدَّتْ خُضْرتُهما حتى مالتْ إلى السوادِ، (فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَان) أي فيهما عينانِ فوَّارتانِ بالماءِ لا تَنْقطعانِ، (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّان)؛ أي في هاتينِ الجنَّتين ِأنواعُ الفواكهِ والنَّخلِ والرُّمانِ.
(فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَان)؛ أيْ في هذهِ الجنانِ الأربعِ زوجاتٌ طيباتُ الأخلاقِ حسانُ الوجوهِ، (حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَام) أي حورٌ مستوراتٌ مصوناتٌ في الخيامِ، (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَان)؛ أي: لم يطئَهنَّ قبلَهم إنسٌ ولا جانٌ، (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَان)، أي متكئينَ على وسائِدَ ذواتِ أغطيةٍ خُضْرٍ وفرشٍ حسانٍ، (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام)، أي تعاظَمَ وكَثُرَ خيرُه، الذي لهُ الجلالُ الباهِرُ، والمجدُ الكاملُ، والإكرامُ لأوليائِه.
عبادَ اللهِ: وكذلكَ وَصَفَ اللهُ -تعالى- نعيمَ أهلِ الجنَّةِ ودرجاتِهم في سورةِ الواقعةِ [الآيات من 10-40]، ومنْ ذلكَ قولُه -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)؛ أي السابقونَ في الدُّنيَا إلى الأعمالِ الصالحةِ، هم السابقونَ في الآخرةِ لدخولِ الجنَّاتِ، أولئكَ في المنازلِ العاليةِ التي لا منْزلةَ فوقَها، وهم كثيرٌ من متقدِّمي هذهِ الأمةِ وغيرهِم، وقليلٌ من الآخرينَ، (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي: مرمولةٍ بالذهبِ والفضةِ، واللؤلؤِ، والجوهرِ، وغيرِ ذلكَ من الزينةِ، (مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا) أي: جالسينَ عليهَا جلوسَ تمكُّنٍ وطمأنينةٍ وراحةٍ واستقرارٍ، (مُتَقَابِلِينَ) أيْ وجهُ كُلٍّ منهم إلى وجهِ صاحبِه.
أيُّها المؤمنونَ: ثُمَّ قالَ اللهُ -تعالى-: (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ)، أي: يدورُ عليهم ولدانٌ صغارُ الأسنانِ، غايةٌ في الحُسنِ والبهاءِ، لخدمتهِم وقضاءِ حوائجِهم، (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ)؛ أي مستورٌ، لا ينالُه ما يُغيِّرهُ، يدورونَ عليهم بآنيةٍ شرابُهم (بِأَكْوَابٍ)، وهي التي لا عُرى لها، (وَأَبَارِيقَ) أيْ الأواني التي لها عُرى، (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أيْ من خمرٍ لذيذِ المشربِ، لا آفةَ فيهَا.
(لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا) أي لا تُصَدَّعُ رُءوسهُم كما تُصَدَّعُ خمرةُ الدنيا رأسَ شاربِها، (ولا هُمْ عنهَا يُنْزِفُونَ)، أي لا تَنْزِفُ عقولُهم ولا تَذهبُ أحلامُهم منهَا، (وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أي ما تخيَّروهُ وراقَ في أعينِهم واشتهتْهُ نُفوسُهم من أنواعِ الفواكِه الشَّهيِّةِ، (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أيْ مِنْ كلِّ صنفٍ من الطيورِ يشتهونَه، ومن أيْ لحمٍ أرادُوا، وإنْ شَاءُوا مشويِّاً، أو مطبوخًا، أو غيرَ ذلك.
(وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أيْ ولهمْ حُورٌ عينٌ، وهيَ التي في عينِها كُحْلٌ وملاحةٌ، وحسنٌ وبهاءٌ، والعِينْ: حسانُ الأعينِ وضِخَامُها، (كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أيْ كأنَّهُنَّ اللؤلؤُ الأبيضُ الرُّطْبُ الصافي البهيُّ (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، أي كما حَسُنتْ أعمالُهم أحسنَ اللهُ لهم جزاءَهم، (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا)؛ أي لا يسمعونَ كلامًا فيه لغوٌ، ولا يسمعونَ إثمًا (إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا) أي كلامًا طيبًا، ويُسلِّمُ بعضُهم على بعضٍ.
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، ولا عدوانَ إلا على الظالميَن، والصلاةُ والسلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالمين، محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الكريم، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
أما بعدُ: فاتَّقوا اللهَ أيُّهَا المؤمنونَ: واعلمُوا أنَّه كما للسَّابقينَ نعيمٌ، فلأصحابِ اليمينِ نعيمٌ آخرَ، قالَ -تعالى-: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) أيْ شأنُهم عظيمٌ، (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) أيْ مقطوعٍ ما فيه من الشوكِ والأغصانِ المُضرّةِ، (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) أي وطلحٍ معروفٍ، وهو شجرٌ يكونُ بالباديةِ، تَنْضدُ أغصانُه من الثَّمرِ الَّلذيذِ الشهيِّ، (وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ) أي كثيرِ العيونِ والأنهارِ السارحةِ والمياهِ المتدفِّقةِ.
(وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي فاكهةٍ موجودةٍ دائمةٍ، (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي فوقَ الأسرَّةِ، وهي من الحريرِ والذهبِ واللؤلؤِ وما لا يعلمُه إلا اللهُ، (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً) أيْ نَشْأةً كاملةً لا تقبلُ الفناءَ، (فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا) أي صغارَهنَّ وكبارَهنَّ من حورِ العْينِ ونساءِ أهلِ الدُّنيَا.
(عُرُبًا أَتْرَابًا) أي المرأةَ المتحببةَ إلى بَعْلِها بحسنِ لفظِها، وحسنِ هيئتِها ودلالِها وجمالِها، على سنٍّ واحدةٍ، ثلاثٍ وثلاثينَ سنةً، التي هي غايةُ ما يُتمنَّى، متفقاتٍ مؤتلفاتٍ، راضياتٍ مرضيِّاتٍ، لا يحزنَّ ولا يُحْزِنَّ، بل هُنَّ أفراحُ النُّفوسِ وقُرةُ العُيونِ وجلاءُ الأبصارِ، (لأَصْحَابِ الْيَمِينِ) أي مُهيْئاتٍ لهم، (ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ) أي لأصحابِ اليمينِ، مِمَّنْ عددُهم كثيرٌ من الأولينَ، والآخرينَ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والنبيِّ المجتبى؛ فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ -جلَّ وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي