وإذا آنَس العبدُ في نفسه شيئًا من هذه المكدِّرات لسلامة القلب فليعالِجْها علاجَ الطبيب، بالتعرُّف على أسبابها وعِلَلِها، ولينظر إليها نظرَ الحكيم؛ بالتفكُّر في عواقبها ومآلها، فإذا وجَد على نفسه كِبْرًا، وهو من أعظم الأدواء السالبة لسلامة القلب، فليدفعه عن نفسه بأن يعلم أنه مخلوق ضعيف حقير...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل قلوب أوليائه أوعية لآياته البينات، وسلمها لهم من غواشي الشهوات والشبهات وسائر الظلمات، أحمده -سبحانه- وهو ذو الجلال والإكرام والمنن المترادِفات، والنِّعَم السابغات، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الخلق والأمر والأقدار النافذات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله المصطفى من فوق سبع سماوات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلوات غاديات رائحات، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، دائم الخيرات موفور البركات.
أما بعدُ: فاتقوا الله يا أولي المروءات، واستحيوا من الله حق الحياء؛ فإن الحياء جامع للخيرات، وتحلَّوْا بالشكر عند وفود النعم المؤنِسات، وتدرَّعوا بالصبر عند طروق المصائب المفجِعات، واعتصِموا بحبل الرجاء إن حاقت المقنِّطات؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)[الْحَشْرِ: 18-20].
أيها المسلمون: إن في الدنيا جنَّةً من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وإن دخلها بإيمانه كان من أخفضِ أهلها رتبةً وأقلِّهم بهجةً وأدناهم نعيمًا، هذه الجنة المعجَّلة هي جنة الأعمال القلبية؛ من المعرفة بالله، والأُنْس به، والفَرَح به، والتلذُّذ بمناجاته، والإخلاد إلى قُرْبه، والاطمئنان بالخضوع له، والاستكانة له على ساق الخوف والوجَل، والسير إليه على منهاج الرجاء والأمل، وتفريغ القلب من كل حب يساوي حبَّه أو يُسامِيه، وتعظيم محبته على سائر المحابِّ، وتقديم مراضيه على كل الرغاب، بهذا تُذاق حلاوةُ الإيمان، وحينئذ تُشرِق في القلب أساريرُ اليقينِ، وتهتدي النفس إلى معارج الهداية والتوفيق، وإن أردتَ اجتماع ذلك في قلبك، واستقراره في لُبِّكَ، فلا بد أن تهيئ له صدرًا بارًّا، وقلبًا سليمًا؛ فإن المعامَلات القلبية الفاضلة الشريفة، لا تستقر إلا في قلب كذلك، قلب سالِم من الآفات والقواطع، نقيٍّ من الدَّخَل، بريء من الكِبْر والعُجْب والبغي، متسامٍ عن الحقد والحسد والطغينة والشحناء، ذلك القلب السليم الذي تنافَس في تحصيله أربابُ الآخرة، وأضنَوْا أيامَهم ولياليَهم رجاءَ التنعُّم به، وأرباب الدنيا في غفلة سامدون، فإنه ليس في الدنيا لذة ولا نعيم أطيب من بِرِّ القلب، وسلامة الصدر، ومعرفة الرب -تعالى- ومحبته والعمل على موافَقتِه، وهل العيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟!
وقد أثنى الله -سبحانه وتعالى- على خليله -عليه السلام- بسلامة قلبه فقال: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الصَّافَّاتِ: 83-84]، وقال حاكيًا عنه أنه قال: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشُّعَرَاءِ: 88-89]، والقلب السليم -عبادَ اللهِ- هو الذي سَلِمَ من الشرك والغل والحقد والحسد والشُّح والكِبْر، وحب الدنيا والرياسة، فَسَلِمَ من كل آفة تُبعِده عن الله، وسَلِمَ من كل شبهة تُعارِض خبرَه، وكل شهوة تُعارِض أمرَه، وسَلِمَ من كل إرادة تُزاحِم مرادَه، وسَلِمَ من كل قاطع يقطع عن الله، فهذا القلب السليم، في جنة معجَّلة في الدنيا، وفي جَنَّة في البرزخ، وفي جنَّة يومَ المعاد.
بهذا القلب -عبادَ اللهِ- ارتفع أقوام وسبَقوا، وانخفض أقوام وزَلِقوا، قال سفيان بن دينار -رحمه الله-: "قلتُ لأبي بشير -وكان من أصحاب عليٍّ رضي الله عنه-: أخبِرْني عن أعمال مَنْ كان قبلَنا. قال: كان يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا. قلتُ: وَلِمَ ذاكَ؟ قال: لسلامة صدورهم"، فيا لَلهِ ما أعظمَ سلامةَ الصدر، فيا لله ما أعظمَ سلامةَ الصدرِ، وبرَّ القلب وصفاءه وجلاءه، فهو مجمعُ الخير، وأساس الفضيلة، وسر القبول، وباعث الرفعة، وعنوان الفَلَاح، ويكفيك من ذلك أنه شعار أهل الجنة؛ (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[الْحِجْرِ: 47]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أولُ زمرةٍ تَدخُل الجنةَ على صورة القمر ليلةَ البدر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دريٍّ في السماء إضاءةً، قلوبُهم على قلب رجل واحد، لا تباغُضَ بينَهم ولا تحاسُدَ"(أخرجه الشيخان في صحيحهما).
وإنَّ أضرَّ ما على المرء أن يُعنى بصلاح ظاهره، وقلبُه خَرِبٌ، فيكون كلامع السراب في القفر اليباب، وهل يُغني عن المرء لسانٌ معسولٌ، وعملٌ مزخرَفٌ مصقولٌ، مع قلب مدخول، وصدر معلول، وهل يُورثه الرفعةَ والقبولَ ظاهرٌ مموَّهٌ، وباطنٌ مشوَّهٌ؟ قال الحسن البصري -رضي الله عنه-: "العِلْمُ عِلْمانِ: فعلمٌ في القلب؛ فذلك العلم النافع، وعِلْم على اللسان، فذلك حجة الله على بني آدم"(أخرجه الدارمي في مقدمة السنن بإسناد صحيح).
معاشرَ المسلمين: وهل القلب السليم إلا قلب إبراهيم الخليل -عليه السلام-؟ إذ تبرَّأ من الشرك والوثنية، فقال لأبيه وقومه: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ)[الشُّعَرَاءِ: 75-77]، وهل القلب السليم إلا قلب محمد الخاتم الأسوة -صلى الله عليه وسلم-؟ ذلك القلب الرَّحْب، الذي "ما انتقَم لنفسه قط، إلا أن تُنتَهَك حرمةُ الله فينتقم لله"(أخرجه الشيخان).
وهل القلب السليم إلا قلب الشيخين؛ أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- حينما شجَر بينهما أمرٌ فعاد كل منهما يتلوَّم نفسَه، ويعتذر إلى أخيه، فيما حكاه أبو الدرداء -رضي الله عنه- قال: "كنتُ جالسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل أبو بكر آخِذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أمَّا صاحِبُكم فقد غامَر، فسَلَّم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطَّاب شيءٌ فأسرعتُ إليه، ثم ندمتُ، وسألتُه أن يغفر لي فأبى عليَّ، فأقبلتُ إليكَ، فقال: يغفر الله لكَ يا أبا بكر؛ ثلاثًا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أَثَمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فسلَّم فجعل وجهُ النبي -صلى الله عليه وسلم- يتمعَّر، حتى أشفَق أبو بكر فجَثَا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، واللهِ أنا كنتُ أظلمَ؛ مرتينِ، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله قد بعثني إليكم فقلتُم: كذبتَ، وقال أبو بكر: صدَق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتينِ. فما أُوذي بعدها"(أخرجه الشيخان).
الله أكبر، قلوب عن الحطام تسامت لم يكدر صفوها قال وقيل.
وهل القلب السليم إلا قلب سعد بن الربيع الأنصاري -رضي الله عنه- يوم آخى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بينَه وبينَ عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- فناصَفَه في أهله وماله، قال أنس -رضي الله عنه-: "قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُ، وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ عَلِمَ الْأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، فَسَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ، وَلِيَ امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ حَتَّى أُطَلِّقَهَا، حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ"(أخرجه البخاري). فيا لله هذه الأخُوَّة الراسخة، والنفوس الشامخة.
قلوبٌ زادها الإسلامُ طِيبًا *** فأمرَع في نواحيها الوفاءُ
وهل القلب السليم إلا قلب زينب بنت جحش زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا فاض الصدق على حديثها، وبرَّأت الصِّدِّيقةَ بنتَ الصِّدِّيق ممَّا رُمِيَتْ به، بقولٍ جازمٍ حازمٍ، لا تردُّدَ فيه ولا مماراةَ، وهما ضرتانِ متساميتانِ -رضي الله عنهما-، قالت عائشة: "وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ لِزَيْنَبَ: مَاذَا عَلِمْتِ، أَوْ رَأَيْتِ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالوَرَعِ"(متفق عليه).
بل هل القلب السليم إلا قلب ذلك الأنصاري الذي كان مِنْ خبرِه أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال فيه: "يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قال ذلك ثلاثة أيام، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ثلاثَ مراتٍ، فَتَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنه-، فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَنَسٌ -رضي الله عنه-: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ. قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ"(أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين).
وبعدُ عبادَ اللهِ: فهذه أحوال رجال ونساء صدقوا وأخلَصوا دينَهم لله، وطهَّروا قلوبَهم من أدران الغل والغش والحقد والحسد والأثرة والشُّحِّ، فسَمَوْا إلى الجنة وهم في عداد الأحياء، وتعجَّلُوا من نعيم أهلها فعاشوا عيشة السعداء، ولا عجبَ؛ فأهل القلوب السليمة هم أهنأُ الناس عيشًا، وأصلحهم بالًا، وأحسنهم حالًا، وأبعدهم عن الهموم والغموم والأحزان؛ فإنهم لا يبالون ما فاتهم من حطام الدنيا، ولا ينغِّص عليهم صفاءَهم سوءُ مقالة، ولا قبيحُ بادرة، وإنما يعوِّلون على حظهم من الله -تبارك وتعالى-، قد جعلوه كلَّ همهم، وغايةَ قصدهم، ومنتهى أملهم، فإذا تم لهم حظُّهم منه أَنِسُوا به كلَّ الإيناس، فهؤلاء -واللهِ- هم صفوة العالَم، وخلاصة بني آدم، وليس العيش إلا عيشهم، ولا النعيم إلا نعيمهم.
اللهم فأَلْحِقْنا والمسلمين بهم، واسلُكْ بنا سبيلَهم، واجعَلْنا في زمرتهم، حتى نكون ممن قلتَ فيهم وقولُكَ الحقُّ: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10].
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وبسُنَّة المختار على بني التراب، أقول قولي هذا وأستغفر اللهَ التوَّابَ، فاستغفِروه، إن الله بالناس لرؤوف رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي بصَّر أحبابه بأدواء نفوسهم قبل انقضاء المهلة، أحمده على ما نبَّه من سِنَة الغفلة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك، المتفرِّد بالنعمة والنِّحْلة، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بأكرم رسالة وأحسن ملة، وعلى آله وصحبه ذوي الفضل والتجلة، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبت الأهلة.
أما بعدُ أيها المسلمون: إن في معالَجة أدواء القلوب لَشِدَّةً، فإنها كثيرة، وإن الهوى موكَّل بتزيينها وتحسينها إلى النفس، وإظهارها في قوالب براقة خدَّاعة، وإن الشيطان لَيزيد في كيد العبد بها؛ ليُرديه في مهاوي الهلاك، ويُورِده معاطبَ التلف، وسبيلُ النجاةِ -عبادَ اللهِ- إرغامُ النفس على مخالَفة هواها، وألا تميل معه حيث مال؛ فإنه داءٌ دويٌّ قتَّالٌ، كم له في الناس من صريع لا حراك به، وذريع لا حياة فيه، ولْيَدْفَعِ العبدُ المكرَ الإبليسيَّ والكيدَ الشيطانيَّ بالإقبال على المجاهَدات؛ فإن كثرة المجاهدَات تُزكي زناد العزائم، وتُوري خامدَ الهمم.
وإذا آنَس العبدُ في نفسه شيئًا من هذه المكدِّرات لسلامة القلب فليعالِجْها علاجَ الطبيب، بالتعرُّف على أسبابها وعِلَلِها، ولينظر إليها نظرَ الحكيم؛ بالتفكُّر في عواقبها ومآلها، فإذا وجَد على نفسه كِبْرًا، وهو من أعظم الأدواء السالبة لسلامة القلب، فليدفعه عن نفسه بأن يعلم أنه مخلوق ضعيف حقير، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، وأن كل سبب يوقعه في شراك الكِبْر، فهو زائل باطل، وأنه إنما يغتر بنعمةٍ مِنَ اللهِ مَنَّ بها عليه، فليعلم أنها مِنَ الله لا مِنْه، وإليه سَلْبُها، ولا يملك دوامَها كما لم يملك ابتداءها، فإذا زال عنه الغطاء انكشفت له نفسُه ورآها مجلوَّةً، ورأى الضَّعْفَ والقصور والجهل والظُّلْم، رأى كل ذلك محيطًا به، ولم يجد لنفسه مخلصًا، فالقلبُ خَرِبٌ، والنفس ظالمة، والزاد نافد، والسير طويل، والحساب وبيل.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خيرته من خلقه، المرفوع ذِكْرُه مع ذِكْرِه في الأولى، والشافع المشفَّع في الأخرى، كما أمرَكم بذلك ربُّكم -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والأصحاب ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم المآب، وعنَّا معهم برحمتك يا كريم يا وهَّاب.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّر أعداءَ الدِّينِ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا، رخاءً سخاءً وسائرَ بلاد المسلمين، اللهم ما سألناكَ من خير فأَعْطِنا، وما لم نسألك فابتَدِئْنا، وما قَصُرَتْ عنه آمالُنا وأعمالُنا من خيرَيِ الدنيا والآخرة فبلِّغْناه، اللهم إنَّا نسألكَ الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، وهيئ له البطانة الصالحة الناصحة، التي تدله على الخير وتعينه عليه يا ربَّ العالمينَ، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لِمَا فيه صلاح البلاد والعباد يا ربَّ العالمينَ.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم ردهم إليك ردا جميلا، اللهم يا حي يا قيوم، كن لإخواننا المرابطين على حدودنا، اللهم كن لهم معينا وظهيرا، ومؤيدا ونصيرا، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا غيثا مغيثا هنيئا مريئا مريعا، سحا طبقا، نافعا غير ضار؛ لتحيي به البلاد، وتسقي به العباد، يا من له الدنيا والآخرة، وإليه المعاد.
اللهم طهِّر قلوبَنا من كل خُلُق لا يرضيك، اللهم طهِّر قلوبَنا من كل خُلُق لا يرضيك، اللهم طهِّر قلوبَنا من الغل والحقد والحسد والكِبْر، اللهم طهِّر قلوبنا من كل سوء، طهرها من كل أذى، ومن كل داء يا ربَّ العالمينَ.
اللهم يا مقلبَّ القلوب، ثبِّت قلوبَنا على دينك، اللهم يا مصرِّفَ القلوب، صرِّف قلوبَنا على طاعتك، اللهم تقبَّل توبتَنا، واغسل حوبتَنا، وأجب دعوتَنا، وثبِّت حجتَنا، وسدِّد ألسنتَنا، واهدِ قلوبَنا، واهدِ قلوبَنا، واسلُلْ سخيمةَ صدورِنا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23].
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه فضله وآلائه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي