وكما تكثر الأعمال بالإخلاص وتتضاعف؛ فإنه مع ذلكم مدعاة للتقدير والتعاون والحب والولاء؛ فما تحلّت به نفس أو أمة إلا وأحبها الله وأحبها الناس، واستولت على القلوب، وكسبت النفوس، وحلّ التعاون فيها محل التخاذل، والنصح محل الغش، والوحدة محل الفرقة ..
الحمد لله عالم السر والنجوى، المطلع على الضمائر وكل ما يخفى (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) نحمده سبحانه، وعد المخلصين الدرجات العلى، وحذّر المرائين ناراً تلظّى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه، وأشهد أن سيّدنا محمداً عبده ورسوله، أنزل عليه تشريعاً لأمته (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ...) الآية.
صلى الله وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه. الذين لا ينشدون بحركاتهم وسكناتهم، وأقوالهم وأفعالهم، إلا رضا الله وحده، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ* أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) ويقول: (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي).
عباد الله: فإن الله تعالى خلقنا لعبادته، وأمرنا بها، قال سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
وقد جعلها الله تعالى لهذه العبادة شرطاً أساسياً في جميع شرائعه ولا ينتفع إلا به، وهو إخلاصها لله وحده؛ قال تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ).
وهذه الآية وما سلفها: أن الإخلاص هو القاعدة الأولى التي تُبنى عليها العبادة، وتتم بها بجانب المتابعة، وتجعلها موجَّهةً إلى الله وحرية بقبوله ومثوبته؛ فالعبادة أيًّا كانت فعلية أو قولية لا تسمى عبادة ولا تكون نافعة، إلا إذا صدرت من مؤمن، وتوفر فيها الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
والإخلاص الذي يريده الله يتوقف عليه قبول العمل هو إفراد الحق تعالى بالطاعات، وقصدُه بها دون غيره، وتجريدها وتصفيتها من قصد المحمَدة أو الثناء أو معنىً آخر سوى التقرب بها إلى الله وحده، وأن يكون باطن العامل كظاهره أو أحسن، وسِرِّه كعلَنه أو أفضل، وأن يَخشى الله ويراقبه في الغيب: يخشاه ويراقبه في وحدته، ومع جلسائه.
والإخلاص مصدره نية القلب، والنية هي معيار الأعمال ومقياسها العادل الذي يتميز به طيّبها من خبيثها، وصحيحها من فاسدها، ومقبولها من مردودها، ونافعها من ضارّها.
فالطاعات تتفاوت ويتفاوت أجرها بتفاوت النية فيها، وما قام بالقلب منها قال عليه الصلاة والسلام: " إنما الأعمال بالنيات...." الحديث. وقال: " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم وصوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم " رواه مسلم.
والطاعات قد تكون في ظاهره وهيئتها سواء، وفي باطنها متفاوتة، فالعبادة خيرٌ إن كان لله، وشرٌّ إن كانت للتضليل والمباهاة.
نعم؛ العبادة خيرٌ للمخلصين وسعادة، وشرٌّ للمرائين وشقاوة؛ فالناس يقفون جميعاً للصلاة في مُصلى واحدٍ، ومع إمامٍ واحد، ويركعون ويسجدون سواء، ومنهم المقبول لإخلاصه وتقواه، ومنهم المردود لريائه وخبث نواياه، ويقفون في صف الجهاد تحت قيادة واحدة ويُقتلون، ومنهم من هُم بعد القتل تروح أرواحهم وتغدوا في الجنة أحياء عند ربهم يُرزقون؛ ومنهم من قد يُسحب على وجهه ويُلقى في النار، فالأول جاهد إخلاصاً لله وفي سبيل الله ولإعلاء كلمة الله، والثاني جاهد رياءً ومفاخرة ومباهاة.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أوّل الناس يُقضى عليه يوم القيامة: رجلٌ استُشْهِد، فأُتي به، فَعَرّفَهُ نعمته عليه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت ليُقال جريء، فقد قيل. ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجههِ حتى أُلقيَ في النار. ورجلٌ تعلَّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فَعَرّفه نِعمه، فعرفها، قال: فما عملتَ فيه؟ قال: تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلّمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثمّ أمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار. ورجلٌ وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأُتي به، فعرّفه نعمه فعَرَفها. قال: ما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفَق فيها إلا أنفقت. قال: كذبت. ولكنك فعلت ليقال: جواد، فقد قيل. ثمّ أُمر به فسُحب على وجهه حتّى أُلقيَ في النار ".
فاتّقوا الله -أيها المسلمون-، وأخلصوا أعمالكم لله؛ فالإخلاص هو سرُّ نجاح العبد وفلاحه في دنياه وأخراه، وهو دعامة الأعمال التي تقوم عليها، سواءً كانت طاعة روحية أو معاملة مادية؛ فهو للأعمال كالروح للأجسام، والأعمال معه ذات كثرة وبركة، وبفقدانها له ذات قلّة وفشل، وناهيكم مثلاً لذلك المثلين اللّذين ضربهما الله في القرآن الكريم لمن ينفق رياء الناس، ولمن ينفق ابتغاء مرضاة الله. يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ* وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:264-265].
وكما تكثر الأعمال بالإخلاص وتتضاعف؛ فإنه مع ذلكم مدعاة للتقدير والتعاون والحب والولاء؛ فما تحلّت به نفس أو أمة إلا وأحبها الله وأحبها الناس، واستولت على القلوب، وكسبت النفوس، وحلّ التعاون فيها محل التخاذل، والنصح محل الغش، والوحدة محل الفرقة. نعم، والله وبالله ما تحلت بالإخلاص أمة إلا عزّ سلطانها وعظُم شأنها، وهِيب جانبها كما حصل للأمة الإسلامية في أوج إخلاصها. وما فقدته أمة إلا وفقد كل مقومات حياتها المعنوية وانحطّت إلى الحضيض عياذاً بالله لأمة الإسلام من ذلك.
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وأخلصوا أعمالكم لله، وطهّروها من إرادة غير الله بها، ولا يغب عنكم أن الله تعالى مطَّلع مطَّلع على سرائركم وضمائركم، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
فأخلصوا له النية فيما أوجب عليكم من طاعة، وما نَدَبكم إليه من برٍ تفوزوا برضاه تعالى، ويصرف عنكم السوء والفحشاء، وتكونوا من عباده المخلصي. يقول تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110] ويقول عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: " يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه أحداً غيري تركته وشركه " ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، الرياء، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل " ويقول خير قائل وأصدقه: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً* وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء:18-19].
أقول قولي هذا، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى أن يرزقنا الإخلاص في الأعمال، والصدق في الأقوال، إنه حسبنا ونعم الوكيل.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي