قد بيَّن الله لكم في محكم كتابه ما أمرَكم به وما نهاكم عنه، وما أحلَّ لكم وما حرَّم عليكم، فامتثِلوا أوامرَه، واجتنِبوا نواهيَه، وأَحِلُّوا حلالَه وحرِّموا حرامَه، وآمِنُوا بمتشابهه، واعملوا بمُحكَمِه، واعتَبِروا بأمثاله...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصَح الأمة، وجاهَد في الله حقَّ جهاده، حتى أتاه اليقين، -صلوات الله وسلامه عليه-، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون: منَّ اللهُ علينا بكتابه القويم، وجمَّل الإنسانَ بالبيان، وجمَّل البيانَ بالقرآن، وخصَّه بمعجزٍ دلَّ على تنزيله، ومنَع من تبديله، فهو كلام العليم الخبير، يستزيد المسلمُ منه من خزائن علمه -سبحانه وتعالى-، ويطرُق أبوابَ حكمته، به تنتظم حياة المسلم، ويعالِج مشكلاتِها، والطوارئَ عليها، ويعيش مع المسلم في خصائص ذاته، ولا يُهمِل منها شيئًا، وبين أيدينا آيات بينات، من سورة الإسراء، وهي سبعَ عشرةَ آيةً مرتبةً ترتيبًا بديعًا من حكيم عليم، ذكَر فيها خمسة عشر تشريعًا، هي فذلكةُ أصولِ التشريعِ الراجعِ إلى نظام المجتمع، تُظهِر فضلَ شريعة الإسلام وحكمته، وما علَّمَه الله -تبارك وتعالى- لعباده من آداب المعامَلة نحو ربهم -سبحانه-، ومعامَلة بعضهم بعضًا، والحكمة في سيرتهم، وأقوالهم، ومراقَبة الله في ظاهرهم وباطنهم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا * وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا * وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا * وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا * وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا * وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا * وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا)[الْإِسْرَاءِ: 22-39].
افتُتحت تلكم الآيات واختُتمت بنبذ الشرك والتحذير منه، فهو أعظم ما نهى الله عنه، وذلك أصل الإصلاح، فإصلاح الفِكْر مقدَّم على إصلاح العمل، ثم عطَف بالإحسان إلى الوالدين بجميع وجوه الإحسان القولية والفعلية في كل مراحل حياتهما، وحقِّ ذي القربى والمسكين وابن السبيل والإحسان إليهم والتوسُّط في الإنفاق، وعدم التبذير، ومواجَهة المحتاج بالقول الميسور، عند عدم وجود ما يتصدَّق به، ورعاية حق الأولاد في الحياة، وعدم قتلهم خشيةَ الفقر.
ولَمَّا كان من أنواع السلوك في حياة الإنسان تلبية رغباته الجنسية، كان من الحكمة ألَّا يتمَّ ذلك عن طريق الزنا، بل عن طريق ما شرَع الله، وكذلك جاءت الآياتُ ناهيةً عن قتل النفس التي حرَّم اللهُ إلا بالحق، وبالنهي عن الإسراف في الانتقام، وبالنهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وبالأمر بالوفاء بالعهد، وبإيفاء الكيل، والوزن بالقسطاس، وبالنهي عن اتباع ما ليس للإنسان به عِلْمٌ، وبالنهي عن الكِبْر والعُجْب والاختيال؛ إنه كتاب حوى كلَّ العلوم، وكل ما حواه من العلم الشريف فهو الصواب والحق والحكمة.
عبادَ اللهِ: لقد أوضحت هذه الآيات منهجًا متكاملًا لبناء الإنسان على أُسُس سليمة وقواعد ثابتة من الحق والخير والإحسان؛ فباجتناب منهيات تلكم الآيات وإتيان مأموراتها ضمانٌ لسلامة الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، أمرٌ ونهيٌ وأمثالٌ وموعظةٌ وحكمةٌ أُودعت في أفصح الكتب، لطائف يجتليها كلُّ ذي بصر، وروضةٌ يجتنيها كلُّ ذي أدب، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)[هُودٍ: 1].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الملك السلام، المؤمن المهيمن العلَّام، شارع الأحكام، ذي الجلال والإكرام، أكرَمَنا بدين الإسلام، ومَنَّ علينا بنبينا محمد، عليه التحية والسلام، وأنعَم علينا بكتابه المفرِّق بين الحلال والحرام، والصلاة والسلام على حبيبه وخِيرته من خلقه، محمد سيد الأنام، عددَ ساعات الليالي والأيام، وعلى آله وأصحابه، عددَ نجوم الظلام، وعلى جميع الأنبياء والملائكة البررة الكرام.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، والعمل بما فيه رضاه، فاتقوا الله -تبارك وتعالى-، وراقِبوه، والتمِسُوا أوامرَه ولا تعصوه، واذكروه ولا تنسَوْه، واشكروه ولا تكفروه.
عبادَ اللهِ: قد بيَّن الله لكم في محكم كتابه ما أمرَكم به وما نهاكم عنه، وما أحلَّ لكم وما حرَّم عليكم، فامتثِلوا أوامرَه، واجتنِبوا نواهيَه، وأَحِلُّوا حلالَه وحرِّموا حرامَه، وآمِنُوا بمتشابهه، واعملوا بمُحكَمِه، واعتَبِروا بأمثاله.
هذا كتاب الله لا تفنى عجائبُه، فاستضِيئوا منه ليوم الظلمة، وانتصِحوا بشفائه وبيانه، فإنما خلَقَكم للعبادة، ووكَّل بكم الكرام الكاتبين، يعلمون ما تفعلون، فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وأنزِلوا كلامَ ربكم في قلوبكم، ومنه إلى واقع حياتكم، تفوزوا وتُفلحوا.
اللهم افتح بصائرَنا لمعرفة آياتك، وارزقنا حُسْنَ النظر فيما يرضيكَ، واجعل قلوبنا خاشعةً لعظمتكَ، وألسنتَنا عامرةً بذكرِكَ، وجوارحَنا منقادةً لطاعتك وعبادتك.
وصلُّوا وسلِّموا على النبي الكريم؛ فقد أمرَنا اللهُ بذلك في كتابه المبين، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا، وسائرَ بلاد المسلمين يا ربَّ العالمينَ.
اللهم أصلِحْ ولاةَ أمورنا، واجعلهم هداةً مهتدينَ، غير ضالِّين ولا مضلِّين، اللهم احفظهم بحفظكَ، وتولَّهم برعايتك وإعانتك، واكفهم شر أعدائهم وأعداء الإسلام والمسلمين، اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنَّنًا، سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين، ولا تسلِّط اللهم علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم قِنَا شرَّ الفتن، اللهم قِنَا شرَّ الفتن، اللهم قِنَا شرَّ الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم إنَّا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلَكَ، اللهم إنا نستغفركَ إنَّكَ كنتَ غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[النَّحْلِ: 90-91]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي