إنَّ في إحياء الأرض بالغيث دلالة على عظيم قدرة الله -عز وجل- وبالغ حكمته، فلا يستطيع أحد أن ينزل الغيث إلا الله -تعالى-؛ فإن حبس الغيث عن الأرض أجدبت وقحطت، فتَيبَسُ الأشجار وتموت، حتى الآبار تجف وتغور...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الحمد لله العزيز الغفار على غيثه المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه, وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
فيا أيها المسلمون: إنَّ في إحياء الأرض بالغيث دلالة على عظيم قدرة الله -عز وجل- وبالغ حكمته، فلا يستطيع أحد أن ينزل الغيث إلا الله -تعالى-؛ فإن حبس الغيث عن الأرض أجدبت وقحطت, فتَيبَسُ الأشجار وتموت، حتى الآبار تجف وتغور، فمن أين يشرب الناس والبهائم؟! ومن أين تُسقى الأشجار والزروع؟!, قال الله -تعالى-: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)[الملك: 30]؛ لذلك شُرع لنا عند الجدب صلاةَ الاستسقاء، والإكثار من الاستغفار والتوبة والدعاء؛ حتى نُسقى غيثاً مباركاً، قال -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشورى: 28]
عباد الله: إنَّ الفرح والبِشرَ والبهجة والسرور تغمر القلوب عندما يُنزِّل الله الغيث، ذلك الماء الطهور الذي ترتوي به الأرض وتحيا بعد موتها ويكون به, سقيا الناس وسقيا البهائم والحرث، قال -تعالى-: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ)[الأنفال: 11], وقال -تعالى-: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ)[الواقعة: 68 - 70].
وفي إنزال الغيث -يا عباد الله- آيات لمن تفكَّر وتدبَّر، قال -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الروم: 24], وقال -تعالى-: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى)[طه: 53، 54].
عباد الله: إنَّ النفوس تشتاق إلى رؤية الأمطار والسيول التي ينتفع بها العباد والبلاد؛ شوقاً يدعوها إلى النزهة لمشاهدة الأرض وقد ارتوت، والأودية وقد سالت، ويتناقلون أخبارها حامدين لله، شاكرين له على عظيم فضله وإحسانه، قال -تعالى-: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ)[الرعد: 17].
أرأيتم -يا عباد الله- كيف حملت هذه السحب ماء المطر, ثم إذا نزل في الأرض ينزل على هيئة قطرات تجتمع حتى تُصبح سيلاً جارياً في الأودية والشعاب، وتجتمع في السدود حتى لا تكاد ترى طرفه الآخر، ويرتفع به منسوب المياه في الآبار، ويُستخرج منها وقت الحاجة؛ لسقيا البشر والزروع والبهائم؟!.
وهذه الأمطار والسيول يُصرِّفها الله كيف يشاء بحكمته ورحمته، فيُمطر أرضاً دون أرض؛ (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا)[الفرقان: 48 - 50]؛ قال الطبري -رحمه الله- عند قوله -تعالى-: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) أي: "إلا جحوداً لنعمي عليهم، وأياديّ عليهم"(تفسير الطبري), وقال عكرمة -رحمه الله-: "يعني: الذين يقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا"(تفسير ابن كثير).
عباد الله: إنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف ذلك في وجهه، كراهية أن يكون فيه عذاب، قالت أُمنَّا الصدِّيقة عائشة -رضي الله عنها- عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "وكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا، عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَى النَّاسَ، إِذَا رَأَوْا الْغَيْمَ فَرِحُوا، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ؟!, قَالَتْ: فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ! مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ؛ فَقَالُوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)[الأحقاف: 24] ", وقالت -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ، سُرِّيَ عَنْهُ"(رواه مسلم), قال النووي -رحمه الله- عند هذا الحديث: "فِيهِ الِاسْتِعْدَادُ بِالْمُرَاقَبَةِ لله, وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَحُدُوثِ مَا يُخاف بسببه، وَكَانَ خَوْفُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُعَاقَبُوا بِعِصْيَانِ الْعُصَاةِ"(شرح النووي على مسلم).
عباد الله: إنَّ المطر النافع المبارك، هو الذي تنبت معه الأرض، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا، وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا"(رواه مسلم), وعند نزول المطر يجب علينا شكر الله على ذلك وأن ندعو بالبركة، كَانَ النبي -صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَأَى المَطَرَ، قَالَ: "اللَّهُمَّ صَيِّبًا نَافِعًا"(رواه البخاري), وفي رواية صحيحة: "اللهم صيباً هنيئاً".
وعلى المسلم أن ينسب نزول المطر إلى الله وحده لا إلى النجوم والأنواء، فيقول: "مُطرنا بفضل الله ورحمته", فاحمدوا الله واشكروه على ما أنعم عليكم به من إنزال المطر، قال -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)[ق: 9 - 11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة, فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي