التحذير من إيذاء المسلمين

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
عناصر الخطبة
  1. خطر إيذاء المسلمين والتحذير من ذلك .
  2. عقوبات ومفاسد إيذاء المسلمين .
  3. الوسائل المعينة على كف الأذى عن المسلمين .

اقتباس

أيها المؤمنون: إليكم هذا النبأ ما أعجبه! امرأتان إحداهما أكثر من الأخرى صلاةً وصياماً وصدقة إلا أنها في النار -عياذاً بالله-، والأخرى الأقل منها صلاةً وصدقةً وصياماً هي في الجنة. في هذا النبأ وفي هذا الخبر العظيم عظة بالغة وعبرة بليغة يجب على كل مسلم ومسلمة أن يعيها، وأن يتنبه لها، وأن لا يغتر مغتر بكثرة صلاة، أو كثرة صيام، أو تعدد طاعات؛ فإن مثل هذه الأعمال قد تذهب إلى غيره، وتدخل في موازين حسنات الآخرين إذا كان يتعرض لهم في...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-؛ فإن في تقوى الله -جل وعلا- خَلَفاً من كل شيء، وليس من تقوى الله خلَف.

أيها المؤمنون: إليكم هذا النبأ ما أعجبه! امرأتان إحداهما أكثر من الأخرى صلاةً وصياماً وصدقة إلا أنها في النار -عياذاً بالله-، والأخرى الأقل منها صلاةً وصدقةً وصياماً هي في الجنة، روى البخاري في الأدب المفرد والإمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب وغيرهم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار وتفعل وتصَّدَّق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا خير فيها، هي من أهل النار" قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة وتصَّدَّق بأثوار -أي بشيء زهيد- ولا تؤذي أحدا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هي من أهل الجنة".

أيها المؤمنون: في هذا النبأ وفي هذا الخبر العظيم عظة بالغة وعبرة بليغة يجب على كل مسلم ومسلمة أن يعيها، وأن يتنبه لها، وأن لا يغتر مغتر بكثرة صلاة، أو كثرة صيام، أو تعدد طاعات؛ فإن مثل هذه الأعمال قد تذهب إلى غيره، وتدخل في موازين حسنات الآخرين إذا كان يتعرض لهم في هذه الحياة بأنواع الأذى.

أيها المؤمنون: إن من يستطيل على الناس ويتعدى عليهم ويتناولهم بأنواع الأذى؛ فلا تسلم أعراضهم من لسانه غيبةً ونميمةً واستهزاء، ولا يسلَمون منه في تعاملاتهم غشاً وخيانةً وتدليسا، ولا يسلَمون منه في أنفسهم وأبدانهم تعدِّياً وضرباً وإيذاء، ولا يسلَمون منه في أموالهم نهباً واختلاساً واستلابا؛ فمن كانت هذه حاله -عباد الله- فقد احتمل بهتاناً عظيما وإثماً كبيرا وإن كان من أهل الطاعات وأنواع العبادات، وقد قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الأحزاب :58].

وإذا كان -أيها المؤمنون- لا يحل لأحد أن يؤذي كلباً بغير حق فكيف إذاً بالمؤمن! قاله بمعناه الفضيل بن عياض -رحمه الله- في تفسير هذه الآية الكريمة.

أيها المؤمنون: يجب على المسلم أن يحذر أشد الحذر من إيذاء إخوانه المسلمين والتعرض لهم بأنواع الأذى؛ فإن مثل هذه الأذية رقة في الدين وضعفٌ في الإيمان، ولهذا خرَّج الترمذي في جامعه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ".

عباد الله: إن من يؤذي المسلمين ويتعرض لهم بأنواع الأذى فإن حسناته وطاعاته وعباداته تنتقل من ميزان حسناته إلى ميزان حسناتهم؛ ولنتأمل في هذا ما خرَّجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ؟ فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"، ولهذا قال نبينا -عليه الصلاة والسلام- عن تلك المرأة الصوَّامة القوَّامة: "هي من أهل النار"؛ لأنها كانت تؤذي جيرانها بلسانها، وهذه الأذية -عباد الله- أياً كانت باللسان أو بالفعل هي في الحقيقة إهداءٌ للإنسان من حسناته وثواب أعماله إلى الآخرين.

أيها المؤمنون: في هذا الباب العظيم ينبغي أن يتنبه المسلم وأن لا يعجبنَّه في شخصٍ هيئته أو ظاهر أعماله إذا كان معروفاً بالأذى للناس والعدوان والظلم والبغي؛ روى الإمام ابن المبارك في كتابه الزهد والبيهقي في الشعب: "أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قام في الناس خطيباً، وقال: "لا يعجبنكم من رجل طنطنته، ولكنه من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل".

نعم -عباد الله- هذه هي الرجولة بأبهى صوَرها، وأجمل حُللها؛ أن يكون الرجل مؤدياً ما عليه، وأن يكون كافاً لسانه ويده عن أذى الآخرين.

عباد الله: لنتقِ الله -عز وجل-، ولنحرص على صيانة ألسنتنا، وكف أيدينا، وأن نتقِ الله -تبارك وتعالى- ربنا، ولنعلم أننا سنقِف بين يدي الله -عز وجل- الذي له ما في السموات وما في الأرض (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)[النجم: 31].

اللهم أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

أقولُ هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه يغفر لكم إنه هوُ الغفورُ الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى- وراقبوه في السر والعلانية والغيب والشهادة مراقبة من يعلم أن ربه يسمعه ويراه.

عباد الله: مما يعين المسلم على كف يده ولسانه من إيذاء الآخرين: أن يذكِّر نفسه بما ينبغي له تجاههم من رعايةٍ لحقوقهم ومعرفةٍ بمقاماتهم، وإذا كان المسلم في تعاملاته مع الآخرين يعُدُّ كبيرهم أبا، وصغيرهم ولدا، وأوسطهم رفيقاً وأخا فإنه سيعامل الجميع بالمعاملة اللائقة؛ جاء عن محمد بن كعب القرضي -رحمه الله- في وصية أوصى بها عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- قال: "إذا أردت النجاة من عذاب الله يوم القيامة فاجعل كبير المسلمين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخا، وصغيرهم عندك ولدا، فأي أولئك تحب أن تسيء إليه؟!" أي إذا اعتبرتهم بمثل هذا الحال: الكبير أب، والأوسط أخ ورفيق، والصغير ابن؛ فإن من عد المسلمين بهذا أو اعتبرهم بهذا الاعتبار أحسن في تعامله لهم وفي معاملته معهم.

عباد الله: وأعظم ما يعين في هذا الباب: أن يتذكر العبد أنه سيقف بين يدي الله -عز وجل- يوم القيامة، وأن الله -عز وجل- سيسأله عن أعماله؛ فإن استطعت -أيها المسلم- أن تأتي يوم القيامة خميص البطن من أموال المسلمين، كاف اللسان عن أعراضهم، سالماً من التعدي عليهم فافعل لتكون من الناجين يوم القيامة.

والكيِّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي الحسنين علي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-. اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وأعِنه على البر والتقوى، وسدِّده في أقواله وأعماله. اللهم وفِّق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك واتباع سنة نبيِّك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمةً ورأفة على رعاياهم يا حي يا قيوم.

اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها. اللهم أصلح ذات بيننا، وألِّف بين قلوبنا، واهدنا سبيل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور.

اللهم بارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا. اللهم وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، ونسألك قلباً سليما، ولساناً صادقا، ونسألك شكر نعمتك، وحُسن عبادتك، ونعوذ بك من شر ما عملنا، ونعوذ بك من شر ما لم نعمل. اللهم اغفر لنا ذنبنا كله؛ دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أن تنزِّل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم إنا نسألك غيثاً مُغيثا، هنيئاً مريئا، سحاً طبقا، نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا.

ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].

عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي