كان على فراشِ الموت فسمعَ المؤذنَ يُنادي لصلاة المغربِ، فقال لمن حولهُ: "خُذوا بيدي", قالوا: إلى أين يرحمُك الله؟! قال: إلى المسجد, قالوا: وأنت على هذه الحال!, قال: "سبحان الله!, أأسمع منادي الصلاة ولا أُجيب؟! خذوا بيدي", فحملوه بين رجلين, فصلى ركعة مع الإمام ثمّ مات في سجوده...
الْخُطبَةُ الْأُولَى:
الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ مُصرِّفِ الأحوالِ، مُقدِّرِ الآجالِ، المُتفضِّلِ بجزيل العطايا والنَّوالِ؛ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ)[الرعد: 12، 13], وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ لهُ؛ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)[الرعد: 15], وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولهُ، ومُصطفاهُ وخلِيلهُ، المنعوتِ بأعظم الأخلاقِ وأشرفِ الخِصالِ، اللهم صلِّ وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وصحبهِ، خيرُ صحبٍ وخيرُ آلٍ، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المآل, وسلم تسليماً كثيرا.
أَمَّا بعْدُ: فاتَّقُوا اللهَ -تعالَى- وأَطيعُوه، وجِدُّوا -رحمكم الله- واجتهِدُوا، وتزوَّدوا بصالح الأعمال، سابقوا الأجلَ، وأحسِنوا العـمـلَ، واغتنمـوا الـمُهَــلَ، ولا يغرنَّكُـم طُـولُ الأمـلِ، واعلموا (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)[الرعد: 11].
معاشِر المؤمنين الكرام: في بعضِ الأحيانِ قد تضِيقُ الدُّنيا على المسلم، وقد تزدحِمُ عليهِ الآلامُ والمواجِعُ، وقد تتكالبُ عليه الهمومُ والغُمومُ، ولربما قلَّبَ المسلِم النظرَ في وسائلِ الإعلامِ فيرى ما لا يسرُّه من أحوالِ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ فيزدادُ ألمهُ, وتُظلمُ الدنيا في وجههِ, فيحتاجُ حينَها إلى ما يُزِيلُ هُمومَهُ, ويكشِفُ احزانَهُ وغمُومَهُ.
والحلُّ بحمدِ اللهِ موجُودٌ وميسُورٌ، وهو حلٌّ مؤكدٌ ومضمُونٌ، لكن من يُحسنُ الاستفادةَ مِنهُ قليل، كيفَ وهو سبيلُ الراحةِ والطُمأنينةِ، وفيهِ الأُنسُ واللذَّة؟! والعجيبُ أنهُ ليسَ حلاً خاصاً بالإنسان فقط؛ بل إنَّ الكونَ كُلَهُ يفعلُهُ؛ الشمسُ على ضخامتِها تفعلهُ، والقمرُ يفعلهُ، والجِبالُ والشجرُ يفعلونهُ، والناسُ بكل طوائِفهِم يفعلونهُ، إنهُ حلٌّ عظيمٌ وفعَّالٌ، وهو جديرٌ بأن أُخصِصَ من أجلهِ خُطبةَ اليومِ كامِلةً.
الحلُّ هو تلك اللحظاتُ الجميلةُ الجليلةُ، التي يُعفِّرُ الإنسانُ فيها أعزَّ جُزءٍ فيهِ؛ تذلُلاً بين يدي ربهِ -جلَّ وعلا-.
الحلُّ هو تلك الوضعِيةُ المهِيبةُ التي طالما كنا عليها ونحنُ أجنَّةٌ في بُطونِ أمهاتِنا، الحلُّ هو تلك الحالةُ الروحانية التي يكونُ فيها الانسانُ أقربَ ما يكونُ من ربهِ, نعم إنهُ السجودُ -يا عباد الله-.
السجودُ غايةُ الخضوعِ للجبار، ونهاية التَّذلُلِ للقهار، وأقصى درجاتِ الاستكانةِ والافتقار، وأجلُّ مظاهرِ التعبُدِ والانكِسار، وأفضلُ ما يُعينُ على النَّدمِ وقبولِ الاعتذار.
السجودُ أن تهمِسِ في أُذنِ الأرضِ, فيسمعُك مِلكُ الملوكِ من فوقِ سبعِ سموات, السجودُ أن تنسجمَ وتتناغمَ مع الكونِ كُلهِ, فكلُّ ما في هذا الكونِ الهائلِ من مخلوقاتٍ, يُصلِي ويسجُدُ ويُسبِحُ؛ (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)[النور: 41]، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)[الإسراء: 44]، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)[الحج: 18].
واسمع لهذا الخبرِ العجيبِ من أخبارِ الصادقِ المصدوقِ، ففي ذات يومٍ كان -عليه الصلاة والسلام- يتأملُ غروبَ الشمسِ، وبجوارهِ الصحابيُ الجليلُ أبو ذرٍ -رضي اللهُ عنه- فقال: "أتدري يا أبا ذر! أين تذهبُ الشمسُ, أو أين تغربُ الشمس؟", قال أبو ذر: اللهُ ورسولهُ أعلم، قال: "إنها تذهبُ تسجدُ تحتَ العرشِ... وذلك قولُ اللهِ -تعالى-: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا)[يس: 38]"، فإذا كانت تلك الجماداتُ تسجدُ للعظيمِ -جلَّ جلاله-، فكيف بسجودِ الملائكةِ الكرامِ, الذين لا يعلمُ أعدادُهم ولا أحجامُهم ولا هيئاتُهم إلا العليمُ الخبيرُ -جلَّ وعلا-؟!، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)[الأعراف: 206], بل إن هُناك ملائكةً لا يُحصى عددُهُم ليس لهم عِبادةٌ إلا السجودُ فقط، فمنذُ أن خُلِقوا وهم واضِعي جِباهُهُم للهِ ساجدون، ولا يزالون في سجودِهم، حتى إذا كان يومُ القيامةِ رفعوا رؤوسهم وقالوا: "سُبحانك ربنا ما عبدناك حقَّ عبادتك".
ومن أخبارِ السجودِ العجيبة: أن الرسولَ كان في يومٍ من الأيام جالساً بين أصحابه -رضوان الله عليهم- فيسمعُ -عليه الصلاةُ والسلامُ- صوتًا عظيمًا، فيقول لأصحابه: أسمعتم؟, ثمَّ قال: "أَطَتِ السماء -يعني: ثقُلت-, وحُقَّ لها أن تَئِطَّ؛ ما فيها موضِعُ شِبرٍ -وفي رواية أربعُ أصابع- إلا وملكٌ واضعٌ جبهَتهُ ساجدً لله".
ولقد كان -عليه الصلاة والسلام- يُدركُ أن العبدَ يكونُ أقربَ ما يكونُ من ربهِ وهو ساجدٌ، ففي السيرة أن أبا جهلٍ كان يتحدثُ عن سجودِ النبي -عليه الصلاةُ والسلامُ- فيقول: ألا يزالُ محمدٌ يُعفِّرُ وجههُ في الترابِ؟, قالوا: نعم، قال: واللهِ لإن رأيتُهُ لأطأنَّ عُنقهُ، قالوا: ها هو ذا ساجدٌ في صحن الكعبة, فتقدمَ الخبيثُ وقد نوى شراً, فَما فَجِئَهُمْ مِنهُ إلَّا وَهو يَنْكُصُ علَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بيَدَيْهِ، فقِيلَ له: ما لَكَ؟ قالَ: إنَّ بَيْنِي وبيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِن نَارٍ وَهَوْلًا وَأَجْنِحَةً, فَقالَ رَسُولُ اللهِ: "لو دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا"، وأنزلَ اللهُ فيه: (كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)[العلق: 19].
وأما أحوالُ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مع السجودِ فكُلها عجبٌ في عجب, ينزِلُ المطرُ شديدا في مسجدهِ -عليه الصلاة والسلام-، وسقفُ المسجدِ كُلهُ خشبٌ وجريدٌ لا يمنعُ المطر، فإذا بارضِ المسجدِ تتحولُ إلى مُستنقعٍ من الماءِ والطينِ، فيسجدُ -عليه الصلاة والسلام- في الماءِ والطينِ، حتى إذا رفعَ رأسهُ قال الصحابة: "ولقد رأينا آثارَ الماءِ والطينِ في جبينهِ -عليه الصلاة والسلام-".
وفي موقف آخر: تسمعهُ أُمنا عائشة -رضي الله عنها- وهو ساجدٌ يناجي ربه -تبارك وتعالى- ويقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناءً عليك".
وعندما كُسِفت الشمسُ في عهدهِ، وقام يُصلى بالمسلمين فأطالَ السجود، وسمِعهُ الصحابةُ وهو في سُجودهِ يقول: "ربي! ألم تعدني ألَّا تعذبَهم وأنا فِيهم؟, ربي! ألم تعدِني ألَّا تعذبَهم وهم يستغفِرون؟".
ومن أعجب ما وردَ من أحوال الصحابةِ والتابعين مع السجودِ، ما وردَ عن الصحابي الجليلِ عبدالله بن الزبير -رضي الله عنهما-، فإنه كان يُحييِ بعضَ الليالي كامِلةً وهو ساجِدٌ في صحنِ الكعبة, أما ابنهُ عامرُ بن عبدالله بن الزبير, وهو أحدُ كِبارِ التابعين، فله قِصةٌ عجِيبةٌ مع السجودِ، فلقد كان على فراشِ الموت فسمعَ المؤذنَ يُنادي لصلاة المغربِ، فقال لمن حولهُ: "خُذوا بيدي", قالوا: إلى أين يرحمُك الله؟! قال: إلى المسجد, قالوا: وأنت على هذه الحال, قال: "سبحان الله!, أأسمع منادي الصلاة ولا أُجيب؟! خذوا بيدي", فحملوه بين رجلين, فصلى ركعة مع الإمام ثمّ مات في سجوده", ويأتي من بعد ذلك حفيدهُ ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير, فيرفعُ يديه يدعو: "اللهم إني أسألُك المِيتَةَ الحسنة"، قالوا: وما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجِد".
أما التابعيُ الجليلُ سُفيانُ الثوري -رحمه الله- فيقولُ عنهُ بعضُهم: "رأيت سُفيانَ وقد انتهت صلاةُ المغرب في الحرم، فقام يُصلي سُنة المغربِ، ثمَّ إنه جاءَ للسجودِ فسجدَ فأطالَ، قال: فطُفْتُ سبعةَ أشواطٍ ثم صليتُ وهو ساجد، ثم طُفْتُ سبعة أشواط ثمَّ صليتُ وهو ساجد، فلم يزل كذلك ساجدًا حتى أُذِّنَ لصلاة العِشاء, وكان حبيبُ بن أبي ثابتٍ إذا سجدَ ظُنَّ أنهُ ميتٌ من طولِ سُجودهِ، وكان بعضُ السلفِ إذا سجدَ ربما حَطَّتِ الطيرُ على ظهرهِ من طولِ سجودهِ وسكونهِ.
ولا شكَّ -يا عباد الله- أنهم ما وصلوا لتلك الحالِ العجيبة إلا لأنهم وجدوا في السجودِ راحةً وطُمأنينة، وعاشوا معهُ لذَّةَ الطاعةِ وحلاوةَ المناجاةِ, والأنس بالله -تبارك وتعالى-, يقولُ الأحنفُ بن قيسٍ وهو من التابعين: دخلتُ بيت المقدس، فرأيتُ رجلًا يُكْثِرُ الصلاة، وإذا سجدَ أطالَ السجود، فلما انتهى من صلاتهِ، قلت له: أختمتَ بشفعٍ أم وتر؟، قال: واللهِ إن كُنتُ لا أدري، فاللهُ يدري، فقد حدثني حِبيِ، حدثني حِبي ثم سكت يبكي, ثم قال: حدثني حِبي رسولُ الله قال: "عليك بكثرةِ السجود؛ فإنك ما سجدتَ للهِ سجدةً إلا رفعك اللهُ بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئة", قال الأحنفُ: من أنت؟ قال: أنا أبو ذر صاحبُ رسولِ الله.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينهُ في قلوبنا واجعلنا من الراشدين, اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادك واجعلنا من الخاشعين, اللهم تقبل منا ولا تردنا خائبين.
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)[الحجر: 97، 98].
أقول قولي هذا واستغفر الله فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين.
معاشر المؤمنين الكرام: عسى أن لا أكونَ بحديثي عن السجودِ قد أثرتُ مشاعرَ آبائي وأحبابي الكرام, الذين لا تسمحُ لهم صِحتُهم أن يسجدوا على الأرض؛ فلقد صرحَ أحدُ الذين يُعانونَ من مرضِ المفاصلِ وآلامِ الركبتين، أنهُ يَغبِطُ المصلينَ الذين يستطِيعُونَ السجودَ على الأرض، واسترسلَ بنبرةٍ حزينةٍ قائلاُ: "لقد أصبحتُ أشتاقُ إلى السجود, وعرفتُ مُتأخِراً أني لم أُدرك قيمتهُ إلا بعد أن حُرِمتُ مِنهُ".
ولا شك أحبابي في الله: أنَّ من لا يستطيعُ السجودَ لعارضٍ صحيٍ، لا شكَ أنهُ معذورٌ، وأنَّ أجرهُ تامٌ -بإذن الله-، جاء في صحيح البخاري، قال: "إذا مرضَ العبدُ أو سافرَ؛ كُتبَ لهُ مِثلُ ما كان يعملُ مُقيماً صحيحاً".
وإذا أنعم الله -تبارك وتعالى- على عبدِهِ بالخشوع وكثرةِ السجودِ؛ فذلك من علاماتِ التوفيقِ والكرامةِ -بإذن الله تعالى-, ولا شكَّ أنَّ لها ثمراتٍ عظيمةٍ وفضائل عديدة, يجنيها العبد في الدنيا وفي الآخرة.
ومن أعظمِ هذه الثمراتِ والفضائل: مرافقةُ المصطفى -عليه الصلاة والسلام- في أعالي الجنان؛ ففي صحيحِ مسلمٍ عن ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه- قال: كنت أبيت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيته بوضوئه وحاجته, فقال لي: "سل؟", فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: "أو غير ذلك", قلت: هو ذاك, قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود".
وفي صحيح مُسلمٍ أيضاً عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ رسُولَ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أقربُ مَا يَكونُ العبْدُ مِن ربِّهِ وَهَو ساجدٌ، فَأَكثِرُوا الدُّعاءَ", فكلما أردا العبد أن يقتربَ من ربه أكثر وأكثر فعليه بكثرةِ السجود؛ ففي صحيحِ مسلمٍ أيضاً قال -عليه الصلاة والسلام-: "عليكَ بِكَثْرةِ السُّجُودِ؛ فإِنَّك لَنْ تَسْجُد للَّهِ سجْدةً إلاَّ رفَعكَ اللَّهُ بِهَا دَرجَةً، وحطَّ عنْكَ بِهَا خَطِيئَةً"، وكم هو مِقدار الدرجة في الجنة -يا عباد الله-, جاء في الحديث الصحيح قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ, ما بينَ كلِّ درجتينِ ما بينَ السماءِ والأرضِ, والفردوس أعلاها درجةً, منها تفجَّرُ أنهارُ الجنةِ الأربعةُ, ومِن فوقِها يكونُ العرشُ, فإذا سألتم اللهَ فاسألوه الفردوسَ".
أما من أراد أن ينالَ الخشوعَ في صلاته، فليبكي في سجودهِ, قال -جلَّ وعلا- يثني على طائفةٍ من عبادهِ: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)[الإسراء: 109]، ومدح الله -تعالى- الساجدين وأثنى عليهم وبشَّرهم فقال -تعالى-: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)[مريم: 58]، وقال -تعالى-: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[التوبة: 112], وقال -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)[الفتح: 29].
ومن أعجبِ ثمراتِ السجودِ وفضائلهِ: أنهُ أكثرُ ما يُغِيظُ الشيطانِ ويُحزنه، جاء في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطانُ يبكي، يقول: يا ويله! أُمرَ ابن آدمَ بالسجود فسجد, فله الجنة، وأُمرت بالسجود فأبيت فلي النار".
ومن ثمراتِ السجودِ وفضائلهِ: نيلُ الفلاحِ في الدنيا والآخرة، قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الحج: 77].
ومن ثمراتِ السجود وفضائله: أن تكون مع الساجدين يوم القيامة، يوم يدعونا ربُّنا كي نسجدَ له، قال -تعالى-: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ)[القلم: 42، 43]؛ وتفسيرهُ كما جاء في البخاري: قال -صلى الله عليه وسلم-: "يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ, فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ, وَيَبْقَى كُلُّ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً, فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا".
فاتقوا الله -عباد الله- وأكْثِروا من السجود؛ لتحظوا بالقرب من الله, سيما وليس منا أحدٌ إلا ولديهِ همومٌ كثيرةٌ يريدُ أن تنجلي، وعندهُ أُمنياتٍ غاليةٍ يريدُ أن تتحقَّق, فادخِرُوها للسجود، فمن أكثرَ السجودَ وأطالَهُ, ودعا الله بخشوعٍ وحُضورِ قلبٍ؛ فحريٌ أن يُستجابَ لهُ.
فيا ابن آدم! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى, والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي