لفت الانتباه إلى أسباب الخشوع في الصلاة

خالد بن علي أبا الخيل

عناصر الخطبة

  1. أهمية الخشوع في الصلاة
  2. الوسائل المعينة على الخشوع في الصلاة
  3. ثمرات الخشوع في الصلاة
  4. الأسباب المانعة للخشوع.

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي جعل في الصلاة راحة وسكينة، أحمده سبحانه وفَّق مَن شاء للخشوع والسكينة، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل: ﴿فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفتح:18]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرشد مَن جاء إلى الصلاة أن يأتي بالوقار والسكينة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وفقهم الله للخشوع والسكينة..

أما بعد: فيا عباد الله.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70 – 71].

أيها المسلمون مضى معنا في جمعتين وحلقتين ماضيتين عن الخشوع ومنزلته، وحضور القلب ومكانته، وفي جُمعتنا هذه موضوعٌ آخر وعنوان له علاقة بالأول والآخر، ألا وهو: الانتباه في أسباب الخشوع في الصلاة.

فلما عرفنا مكانة الخشوع وعِظم الصلاة بالخشوع كأن سائلًا وسامعًا يقول: ما هي الأسباب والسُبل والأبواب التي من خلالها ندخل الباب ونوفّق للصواب، فأقول مُستعينًا بالكريم الوهاب دونك شيءٌ من ذلك باختصارٍ وإيجاز علها وعملها أعظم طريقٍ وإنجاز.

والأسباب أيها الإخوة والأصحاب هي جلب ما يوجب الخشوع ودفع ما يُزيل الخشوع، قال ابن تيمية -رحمه الله-: والذي يُعين على ذلك شيآن:

 – قوة المقتضي.

 – وضعف الشاغل.

الأول: قوة المقتضي فاجتهاد العبد أن يعقل ما يقوله ويفعله.

والثاني: زوال العارض والاجتهاد في دفع ما يُشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يُعنيه.

وبناءً على ذلك فنأخذ الأسباب الجالبة للخشوع:

– الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها قبلها وذلك بالحضور لها مع الأذان، ويعمل بالسنن المتقدمة على الصلاة كإجابة المؤذن والسنن الراتبة، والذكر والقراءة، وقبل ذلك بالوضوء والنظافة والنزاهة والطهارة.

– الذهاب للصلاة بالسكينة والوقار والهدوء والطمأنينة، وترك الطيش والعجلة والركض والسرعة.  

– استحضار عظمة الله والوقوف بين يديه وإجلاله سبحانه، فقدر تعظيمه يتصف المُصلي بالخشوع.

 – الاعتقاد الجازم بما يرتب عليه الخشوع من فضلٍ عظيمٍ وأجرٍ كبيرٍ كريم، فالاستحضار يقوي الآثار ومعرفة ثواب الأعمال تُسهل العمل على العمال.

 – ومن ذلكم بارك الله فيكم: الطمأنينة في الصلاة فيقوم مطمئنًا ويركع مطمئنًا ويسجد مطمئنًا ويرفع ويجلس مطمئنًا، وهي السكون حتى يرجع كل عظمٍ إلى موضعه ومكانه، ونقر الصلاة كنقر الغراب يُذهب الخشوع والثواب.

 – تذكر الموت وسكرته والاستعداد له وهيبته، فمَن صلى صلاة يظن أنه لا يُصلي غيرها فسوف يخشع فيها ويُتقنها، فصلي صلاة مودع عندها تسكن وتخشع.

 – التأمل والتفكر وفهم المعاني والتدبر، فيتدبر المُصلي أقوال الصلاة وأسرارها، وأفعال الصلاة وأحكامها.

 – ومن الأسباب وفقكم الله للسُنة والكتاب: الصلاة إلى سُترة فهي من الأمور المفيدة والسُنة المُطهرة تُحصن الخشوع وتحفظ النظر وتُبعد عنه التشويش والإزعاج وتمنع الشيطان، فاحرص ألا تصلي صلاةً إلا وأمامك سُترة.

 – ومنها: وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة حال القيام فهو أمنع من العبث، ولما سُئل أحمد بن حنبل -رحمه الله – عن حكمة ذلك قال عبارة قصيرة عظيمة: "هو ذلٌ بين يدي عزيز". وقال ابن حجر -رحمه الله-: "وضعه صفة السائل الذليل، وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع".

 – ومنها: النظر إلى موضع السجود وعدم توزيع النظرات إلى هنا وهناك، فطأطأة الرأس ورمي البصر يجلب الخشوع.

 – ومنها التنويع في أذكار الصلاة، فيما جاءت به السُنة مثل: أنواع الاستفتاحات وألوان الصلوات على سيد البريات والتشهدات، وهكذا مما جاء فيه أكثر من نوعٍ، فيأتي بهذا تارة وهذا تارة مثل أن يستفتح مرة "سبحانك اللهم وبحمدك"، وتارة "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" وهكذا.

وللتنويع فوائد، من أبرزها:

حضور القلب في الصلاة وخشوعه وحياته وانتباهه.

– ومن ذلكم سدد الله خطاكم وبارك في جمعكم: الاستعاذة وتدبرها وفهم معانيها فهي الاحتراز والحصانة والحرز والحماية من الشيطان ووسوسته فهي أكبر معاذ لمَن تدبر ولاذ، فاحرص على فهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ألوذ أعوذ وأعتصم بالله القادر أن يُجيرني من الشيطان ووسوسته ومكره وكيده.

 – ومن ذلك: استحضار مناجاة الله ودعاءه وذلك حينما يقرأ المُصلي الفاتحة، فإذا قال: (الحمد لله رب العالمين"، قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال: (الرحمن الرحيم)، قال: أثنى عليَّ عبدي. وإذا قال: ﴿مالك يوم الدين﴾، قال: مجدني عبدي.

 – ومن الأسباب: التأمل في حال السلف في صلاتهم وخشوعهم وقيامهم وتعظيمهم، فلو رأيت أحدهم وقد قام إلى صلاته، فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده خطَّر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، فانخلع قلبه وذل عقله.

ولهذا للعبد موقفان:

الأول: موقف في الدنيا بين يدي ربه في صلاته.

الثاني: وموقف آخر يوم القيامة. فمَن قام بالموقف الأول سهل عليه الموقف الثاني، قال مجاهد -رحمه الله-: كان إذا قام أحدهم يُصلي يهاب الرحمن أن يسدّ بصره إلى شيء أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يُحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسيًا ما دام في صلاته.

وكان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عودٌ من الخشوع، وكان يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفةً من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه، وكان مسلمة بن بشار -رحمه الله – يُصلي في المسجد فانهدم طائفةً منه، فقام الناس وهو في الصلاة لم يشعر.

ولقد بلغنا أن بعضهم كان كالثوب المُلقى، وبعضهم ينفتل من صلاته متغير اللون لقيامه بين يدي ربه.. وبعضهم إذا كان في الصلاة لا يعرف مَن على يمينه وشماله، وبعضهم يصفر وجهه إذا توضأ للصلاة فقيل له: إنا نراك إذا توضأت للصلاة تغيرت أحوالك. قال: إني أعرف بين يدي مَن سأقوم.

وكان علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه – إذا حضرت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: ما لك؟ فيقول: جاء والله وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال، فأبينَّ أن يحملنها وأشفقنَّ منها وحملتها.

وكان سعيد التنوخي -رحمه الله – إذا صلى لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته، وبلغنا عن بعض التابعين أنه كان إذا قام إلى الصلاة تغير لونه، وكان يقول: أتدرون بين يدي مَن أقف؟ ومَن أناجي؟ فمَن منكم لله في قلبه مثل هذه الهيبة؟

وقالوا لعامر بن عبد القيس -رحمه الله-: أتحدث نفسك في الصلاة؟ فقال: أوَ شيء أحب إليَّ من الصلاة أحدث به نفسي! قالوا: إنا لنُحدث أنفسنا في الصلاة، فقال: أبالجنة والحور ونحو ذلك؟ قالوا: لا، ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال: لئن تختلف الأسنة فيَّ أحب إليَّ. أي: لئن يكثر طعن الرماح في الجسد أحب إليَّ من أن أحدث نفسي في الصلاة بأمور الدنيا.

وقال سعيد بن معاذ -رحمه الله-: فيَّ ثلاث خصال: لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهنَّ لكنت أنا أنا، إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا لا يقع في قلبي ريبٌ أنه الحق، وإذا كنت في الجنازة لم أحدث نفسي بغير ما تقول ويقال لها.

وقال حاتم -رحمه الله-: أقوم بالأمر وأمشي بالخشية وأدخل بالنية وأكبر بالعظمة وأقرأ بالترتيل والتفكير وأركع بالخشوع وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهد بالتمام، وأسلم بالنية وأختمها بالإخلاص لله، وأرجع على نفسي بالخوف أخاف ألا يُقبل مني، وأحفظه بالجهد إلى الموت.

وقال أبو بكر الصُبغي: أدركت إمامين لم أُرزق السماع منهما أبو حاتم الرازي ومحمد بن نصر المروزي، فأما ابن نصر فما رأيت أحسن صلاة منه لقد بلغني أن زنبورًا قعد على جبهته فسال الدم على وجهه ولم يتحرك.

وقال محمد بن يعقوب الأخرم: ما رأيت أحسن صلاة من محمد بن نصر كان الذباب يقع على أذنه فلا يذبه عن نفسه، ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه وهيبته للصلاة كان يضع ذقنه على صدره كأنه خشبة منصوبة، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله – إذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاءه حتى يميل يمنة ويسرة.

قارن بين هذا وبين ما يفعله بعضنا اليوم هذا ينظر في ساعته وآخر يُصلح هندامه، وثالثٌ يعبث بأنفه ومنهم مَن يبيع ويشتري في الصلاة وربما عدّ نقوده، وبعضهم يُتابع الزخارف في السجاد والسقوف أو يحاول التعرف على مَن بجانبيه، ترى لو وقف واحدٌ من هؤلاء بين يدي عظيم من عظماء الدنيا هل يجرأ على فعل شيء من ذلك؟

قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده.

أما الجانب الثاني من أسباب الخشوع: فهو دفع الموانع ونزع القواطع، وهي كثيرة من أبرزها وأشملها وأعمها: إزالة ما يشغل المُصلي في المكان.

– ومنه: الاحتراز من مرور الناس والأصوات المزعجة ومجالس اللغو والغيبة وما يُشغل البصر من أي شيء، والذي يشغل المُصلي تارة بالسماع كأن يُصلي إلى قرب مَن يتحدثون، أو يُصلي وقد فتح المذياع أو نحو ذلك من سماع تلاوة أو محاضرة، وتارة يكون بالهيئات كالزخارف والموضات وشدة الحر أو شدة البرد.

فالقاعدة: كل مانع وقاطعة ما يُشغل المُصلي سواءً يراه أو يسمعه أو أمامه، ولو أن إنسانًا وقف بين يدي أميرٍ أو مسئول أو موظف وانشغل عنه بحركاته وعبثه، وتقليب بصره ورمشه ويده تارة في جلده وتارة في أنفه وتارة في جواله وساعته، فهل يليق ذلك بذلك؟ أليس يتفرغ إذا أراد المجيء من كل شاغلٍ ومُلهي؟ وكل حركة تُلفت وتُلهي.

– ومن الموانع: أن يُصلي بحضرة طعامٍ يشتهيه وهذا شريطة أن تطوق نفسه له، ولو صلى انشغل بفكره إليه.

– ومن ذلكم بارك الله فيكم: أن يُصلي وهو حاقن حابسٌ لبوله أو حاقب حابسٌ لغائطه؛ لأن ذلك يُنافي الخشوع، فمَن حضره البول أو الغائط فعليه أن يقضي حاجته، ثم يصلي مع ما في حبسه البول والغائط من الأضرار على الإنسان، بل لو حضره البول أو الغائط أثناء الصلاة فله الخروج منها وقطعها، ومثل ذلك: مدافعة الريح.

– ومن القواطع: أن يُصلي وقد غلبه النعاس ففي البخاري (إذا نعس أحدكم في الصلاة فليُتم حتى يعلم ما يقول) أي: فليرقد حتى يذهب عنه النوم.

وهنا لفتة يحتاجها كل سائق سيارة إذا كان وهو يصلي إذا غلبه النوم حرم عليه إتمامها ووجب عليه أن ينام، فكيف بقائد المركوبات وأنواع السيارات ممَن يغلبهم النوم ويأتيهم النعاس فيواصلون السير؟ وهذا ما نجم عنه من الحوادث والكوارث ..

فيا أيها السائق متى ما رأيت من نفسك نومًا أو نعاسًا فقف ونم، تحافظ على نفسك وغيرك ومَن معك، وهذا إذا كان في النعاس فما بالك بالجوال والنظر إلى الرسائل والاتصال بل كتابة الرسائل وفتح هذا وإغلاق هذا، فكثيرٌ من الحوادث من أثار الجوالات الذكية والتواصلات الاجتماعية.

ومن الأسباب المانعة للخشوع:

 -الصلاة خلف النائم والمتحدث؛ لأن ذلك يشغل بال المُصلي ويُذهب فكره وذهنه فهذا محمولٌ على مَن انشغل بذلك.

– ومن ذلك: الالتفات بالصلاة والانشغال بالحصى أو الفُرش وكثرة العبث في اليدين وكثرة الحركة، ولهذا تجد بعض الناس لا يستمر ثانية إلا وفيها حركة تالية، فلو عدّ حركاته لفاقت المئات والعشرات.

– ومن الموانع: رفع البصر إلى السماء أو السقف وتقليب بصره يمنةً ويسرة وهذا مما يُذهب الخشوع وقد جاء الزجر الشديد، والنهي الأكيد لمَن فعل ذلك.

– ومنها: كثرة البصاق والمخاط والعبث في الجوارح والأنف وكذا التثاؤب، وربما خرج مع التثاؤب صوتًا ومَن تثاءب فليكظم ما استطاع داخل الصلاة أو خارجها.  

– ومما يُذهب الخشوع: ألا يُصلي في ثوبٍ فيه نقوشٌ أو كتاباتٌ أو ألوانٌ أو تصاوير أو ليس ساترًا لعورته.

– ومن ذلك: رفع الصوت في الصلاة والتشويش على المصلين برفع الصوت بالقراءة أو الأذكار، وكذا نقر الصلاة والسرعة في أداءها أو قضاءها، فبعض المصلين إذا قام يقضي كأنما انحل من عِقاله، وكأنه خرج من صلاته فيركع ركعاته في لحظاته.

هذا وصلوا وسلموا وبنبيكم اقتضوا وائتموا

فاح العبير إذا ذكرت محمدا *** والنور أشرق والظلام تبددا

صلى عليك الله يا نبع الهدى *** ما طار طير في السماء وغرد

اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


تم تحميل المحتوى من موقع