هو الله الذي لا إله إلا هو الْمَلِك، الْمَلِك النافذ السلطان في الأكوان، ملك الملوك والأملاك، والملكوت والأفلاك، يؤتي الْمُلْكَ مَنْ يشاء وينزعه عمَّن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: إن الله -تبارك وتعالى- باسم الإيمان ناداكم، ولتقواه دعاكم، وأمرَكم بمحاسَبة أنفسكم قبل الحساب، والنظر فيما ادخرتُم لها قبل المآب، وحذَّرَكم مغبةَ نسيانه وأليمَ خسرانه، وأعلَمَكم تفاوُتَ الأحوال يوم المآل فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)[الْحَشْرِ: 18-20].
ثم ضرَب لكم ربُّكم المثالَ بعظيم أثر القرآن لو نزَل على الجبال، وتعرَّف إليكم بكمال أسماء الجلال والكمال فقال: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)[الْحَشْرِ: 21-22]، الذي تألهه القلوب حُبًّا وخضوعًا، وخوفًا وطمعًا وخشوعًا، ورجاءً وفزعًا، هو الحق وما خلاه فباطل زائل، لا إله غيره ولا معبود بحق سواه، (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)[الْأَنْعَامِ: 103]، ولا تبلغه الأفكار ولا تحجبه الأستار، ولا تخفى عليه الأسرار، وبأمره يقوم الفَلَك الدوَّار، وبحُكمه وحكمته يتعاقَب الليل والنهار، هو الرحمن الرحيم، ذو الرحمة الواسعة الواصلة، الذي استوى على أوسع مخلوقاته بأرقِّ أسمائه وأوسع صفاته، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)[طه: 5-8]، وسع كل شيء رحمةً وعلمًا، إيجادًا وإعدادًا وإمدادًا وإرشادًا، ووسعت رحمته أصفياءه وأولياءه هدايةً وتوفيقًا وإسعادًا، حتى يبلغ بهم مستقر رحمته، ونعيم جنته.
هو الله الذي لا إله إلا هو الملك، الملك النافذ السلطان في الأكوان، ملك الملوك والأملاك، والملكوت والأفلاك، يؤتي الملك من يشاء وينزعه عمَّن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون)[يس: 82]، هو القدُّوس السلام، الذي تقدَّس عن النقائص كمالًا، وسَلِمَ من المعايب جَمالًا، وقدَّس ما شاء مباركةً وإجلالًا، وسلَّم مَنْ شاء وعلى مَنْ شاء إكرامًا وإدلالًا، المؤمن المهيمن، الذي آمَن بقوله أنه الحق المتعال، وآمَن به المؤمنون من عباده طوعًا بالمقال والفِعال، وآمَن به سائرُ الخلق قهرًا بالمآل، هو أمان الخائفين، وملاذ المنقطِعِين، وله الهيمنة علمًا وأمرًا، شهودًا وقهرًا، نفعًا وضرًّا، سرًّا وجهرًا، العزيز الجبار المتكبِّر، عزَّ على الخَلْق قوةً وقدرةً وغلبةً وامتناعًا، وجبَر مفارقَ الخَلْق على أمره ونهيه، شرعًا وقدرًا وقهرًا، وجبَر مفاقرَ كسرِهم وفقرِهم، وعسرِهم وضُرِّهم، إهناءً وإغناءً وإقناءً، وتيسيرًا ونصرًا.
أكبرُ كلِّ شيء عظمةً ورفعةً وشرفًا وشأنًا، وذاتًا وصفاتٍ وأفعالًا وسلطانًا، فكل شيء دونه صغير حقير، تنزه عن كل شريك وتعالى، سبحان الله عما يشركون، خلَق من العدم فأبرَز، وبرَأ من النَّسَمَ فحيَّز، وصوَّر في الأرحام فميَّز، تفرَّد بالأسماء التي بلغت غايةَ الحسن لفظًا ومعنًى، وسبَّحَه تنزيهًا كل شيء بكل لسان، عز عن المثيل والنظير والود والولي والظهير، وأحكَم الخلقَ حُكمًا وحكمةً، فهو الحق وقوله الصدق، وحكمه العدل، وقضاؤه الفصل، لا خلَل ولا زلَل، ولا يعزُب عن علمه قولٌ ولا عملٌ؛ (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[الْحَشْرِ: 24].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على النبي المصطفى، وآله وصحبه ومن اقتفى.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، واستمسِكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلَمُوا أنَّ ربكم قد أمرَكم بأمر عظيم؛ وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم، فقال تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم وزِدْ وبارِكْ على عبدِكَ ورسولِكَ سيدنا محمد، وارض اللهم عن الأئمة الخلفاء الراشدين المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِكَ وكرمِكَ ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، وعليك بأعداء الملة والدين، واجعل هذا البلد آمِنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المسلمينَ.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا أبدا ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنا، واجعَلْ ولايةَ المسلمينَ فيمَنْ خافَكَ واتقاكَ واتَّبَعَ رضاكَ يا ربَّ العالمينَ، اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة، التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وولي عهده وأعوانه وإخوانهم على الخير والحق يا رب العالمين.
اللهم لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، (لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 286]، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنتم المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير، لا إله إلا أنت سبحانك، إنَّا كنَّا من الظالمينَ، فاغفر لنا ذنوبَنا كلَّها، دقَّها وجلَّها، أوَّلَها وآخِرَها، علانيتَها وسرَّها، اللهم أَصْلِحْ لنا قلوبَنا وأعمالَنا، اللهم أَصْلِحْ لنا قلوبَنا وأعمالَنا، وتوفَّنا مسلمينَ، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، ولا نادمين.
اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لكَ، سمَّيتَ به نفسَكَ، أو أنزلتَه في كتابِكَ، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندكَ، أن تجعل القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلوبنا، ونورَ صدورنا، وجلاءَ أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، اللهم علِّمْنا منه ما جَهِلْنا، وذَكِّرْنا منه ما نُسِّينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، على الوجه الذي يُرضيك عنا.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم مسِّكْنا بالكتاب حتى نلقاك، وارزقنا خشيتك كأنَّا نراك يا أرحمَ الراحمينَ، ويا ربَّ العالمينَ، اللهم أنتَ الغني ونحن الفقراء، اللهم أنت الغني ونحن الفقراء، اللهم أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، أنزل علينا رحمتَكَ وفضلكَ يا رب العالمين، اللهم أنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض، ولا تؤاخذنا بما فعلنا يا رب العالمين، اللهم لا تحرمنا فضلَ ما عندكَ بسوء ما عندنا يا أرحم الراحمين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم غيثًا مغيثًا سحًّا غدقًا طبقًا مجللًا، نافعًا غيرَ ضارٍّ، عاجِلًا غيرَ آجِلٍ، تسقي به العباد والبلاد، اللهم وتجعله بلاغًا للحاضر والباد، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اسق ديارنا وقلوبنا بكل خير يا أرحم الراحمين.
اللهم (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ يَذكُرْكم، واشكروه على نعمه يَزِدْكُم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي