كل مَن يتصرّف تصرفًا غير شرعي في المال سواء كان ماله أو مال غيره؛ فإن له النار -والعياذ بالله- يوم القيامة إلا أن يتوب، فيردّ المظالم إلى أهلها، ويتوب مما يبذل ماله فيه من الحرام؛ فإنه مَن تاب تَابَ الله عليه...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُه؛ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الإخوة: المال في الإسلام ركن من أركان قيام الدنيا، وركن من أركان قيام الدين، وكونه ركنًا من أركان قيام الدنيا فهذا أمر يعرفه الجميع ولا يجادل فيه أحد، وقد قالوا: المال قِوام الأعمال، والمال قوام الحياة، وهذا المعنى أشار له -تعالى- بقوله: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَمًا)[النساء:5].
وأما كون المال ركنًا من أركان قيام الدين؛ فيتجلى أولاً في الركن الثالث من أركان الإسلام، وهو الزكاة وهي مال وعبادة مالية. والمال سبب من أسباب صلاح الحياة في الدنيا والآخرة، ولو لم يحصل لصاحبِ المالَ من الفضل إلا أنه يُمَكِّنُ صاحبَه من العيش بكرامة وعفة: يُعطي ولا يَطلب، وينفق ولا يَسأل لكفى به فضلاً.
قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ"(رواه البخاري ومسلم عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم- "وَاليَدُ العُلْيَا: هِيَ المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى: هِيَ السَّائِلَةُ"(رواه البخاري).
والمال أيها الإخوة: قد يكون سببَ بلاءٍ على الفرد والمجتمع متى ما أُخِذَ من غير حِلّه أو صُرِفَ في غير حِلّه من ذلك منْ عَنَاهُم النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِقَولِهِ: "إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ"(رواه البخاري عَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-). والمعنى: أنهم يَتَصَرَّفُونَ "فِي مَالِ اللَّهِ" أَيْ مَا فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ وَالْغَنِيمَةِ وَغَيْرِهَا من إيرادات الدولة، "بِغَيْرِ حَقٍّ": أَيْ بِغَيْرِ إِذَنٍ مِنَ الْإِمَامِ، فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ عَمَلِهِمْ، وَقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ بِالْبَاطِلِ، وهذا حرام وعليه جاء الوعيد.
وقال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "كل مَن يتصرّف تصرفًا غير شرعي في المال سواء كان ماله أو مال غيره؛ فإن له النار -والعياذ بالله- يوم القيامة إلا أن يتوب، فيردّ المظالم إلى أهلها، ويتوب مما يبذل ماله فيه من الحرام؛ فإنه مَن تاب تَابَ الله عليه".
وَلقد حذَّر الله ورسوله من الغلول وجعله فضيحة فِي الْمَوْقِفِ أَمَامَ الأَشْهَادِ؛ فقال: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[آل عمران:161]، قال الشيخ السعدي: "هو الكتمان من الغنيمة، -والخيانة في كل مال يتولاه الإنسان- وهو محرم إجماعًا، بل هو من الكبائر، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص، فأخبر الله -تعالى- أنه ما ينبغي ولا يليق بنبي أن يغل؛ لأن الغلول -كما علمت- من أعظم الذنوب وأشر العيوب.
وقد صان الله -تعالى- أنبياءه عن كلّ ما يدنّسهم ويقدح فيهم، وجعلهم أفضل العالمين أخلاقًا، وأطهرهم نفوسًا، وأزكاهم وأطيبهم، ونزّههم عن كلِّ عيب، وجعلهم محل رسالته، ومعدن حكمته.. إلى أن قال: ثم ذكر الوعيد على مَن غلَّ، فقال: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي: يأتي به حامله على ظهره، حيوانًا كان أو متاعًا، أو غير ذلك، ليُعَذَّبَ به يوم القيامة، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) الغال وغيره، كُلّ يوفَّى أجره ووزره على مقدار كسبه، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أي: لا يُزَاد في سيئاتهم، ولا يُهْضَمُون شيئًا من حسناتهم.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَذَكَرَ الغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: "لاَ أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ -وَهُوَ صَوْتُ الْفَرَسِ فِيمَا دُونَ الصَّهِيلِ- يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، وَعَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، وَعَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ -يَعْنِي: ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً- فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، أَوْ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لاَ أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ"(رَوَاه الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
والمعنى إن كل شيء يغله الغال يجيء يوم القيامة حاملاً له ليفتضح به على رؤوس الأشهاد سواء كان هذا المغلول حيوانًا أو إنسانًا أو ثيابًا أو ذهبًا وفضة، وهذا تفسيرٌ وبيانٌ للآية السابقة.
وَالغلول سببٌ لعذاب القبر وفي النار يوم القيامة؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى خَيْبَرَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلاَ وَرِقًا، غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ، ثُمَّ انْطَلَقْنا إِلَى الْوَادِي، وَمَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَبْدٌ لَهُ، وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ يُدْعَى رِفاعَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ بَنِي الضُّبَيْبِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِيَ، قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَحُلُّ رَحْلَهُ، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ، فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ، فَقُلْنا: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كَلاَّ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ"؛ قَالَ: فَفَزِعَ النَّاسُ، فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ، أَوْ شِرَاكَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- "شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ، أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ"(رَوَاه الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).
أسأل الله بمنّه وكرمه أن يَمُنّ علينا بالحلال من الكسب وفضح كلّ غالٍ ومرتشٍ؛ إنه جواد كريم.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله حقّ التقوى، واعلموا أن بناء الاعتقاد بتحريم الأموال العامة ونشره بين المسلمين من أكبر أسباب تأصيل الخوف من الله، وهو سببٌ لحياة القلوب وسببٌ للحذر من الحرام.
وعلينا ألا نتساهل بأخذِ القليل أو الرخيص، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَارًا وَشَنَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(رواه النسائي وحسنه الألباني عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ). هذا في الخيط وهو أمر تافه وكذلك المخيط الإبرة.. فما بالك بمن أخذ فوق هذا؟!
أحبتي: حَرِيٌّ بالمؤمن أن يحذر كلّ الحذر من أن يأخذ شيئًا من الأموال العامة، وهي التي للدولة ولا يقولن قول الجاهلين: "ما عليك! حلال الدولة كلنا شركاء به"، فهذه حيلة شيطانية يلبس بها الشيطان الحلال بالحرام فليتنبه لذلك.
وَحري بمن ولي من أمر المسلمين شيئاً أن يجعل هذا الحديث نُصْب عينيه، وهو قَوْلَ الرَسُولِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا، فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الْأَنْصَارِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ: "وَمَا لَكَ؟"، قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: "وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى"(رواه مسلم عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-).
وصلوا وسلموا....
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي