والغرض من هذه الإخبارات -والله أعلم- هو دعوة المسلم أن يبتعد عن كل شبهة تعارض أخبار الله، أو أخبار رسول الله، وأن يصدق ويستسلم لها من سويداء قلبه استسلام من قال الله فيهم: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)
الحمد لله أهل الحمد ومستحقه، حمده الأولون والآخرون، وإن من شيء إلا يسبح بحمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مؤمن بالله مصدق بوعده راج منه سبحانه أن يلحقنا بمن قال فيهم: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر:33-36]
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أفضل المرسلين، وأكرم الصديقين، جاء عنه -فيما رواه الشيخان- أنه كان يقول إذا قام للصلاة في جوف الليل في الاستفتاح: "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أن قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق".
صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون: في إطار ما سبق أن ذكرت به في الجمعة الماضية من ضرورة عمل المسلم على تعميق وترسيخ الإيمان بالمغيبات في نفسه، وما استشهدت به من ضرورة تذكر ما عساه أن يوجد ذلك في نفس المسلم، ويظهر أثره في واقع عمله اليومي، عبادة أو معاملة، قول أو فعل، حكم أو تحاكم، تذكراً منه وتحسباً لقيام ساعته، وملاقاة أعماله.
ومن مات؛ فقد قامت قيامته الخاصة به، وينتظر بعد قيام الساعة الكبرى يوم يقوم الناس لرب العالمين، أذكر اليوم بأمر هام يكاد التذكير به يغفل، أمر كان -صلى الله عليه وسلم- يذكر به أمته، وينذرهم ويحذرهم من فتنته، ويذكر أنه ما من نبي إلا وحذره أمته ألا وهو: فتنة المسيح الدجال.
يقول -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام مسلم -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه ك. ف. ر-أي كافر-".
وروى مسلم -أيضاً- عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: "ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدجال ذات غداة؛ فخفّض فيه ورفّع؛ حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك في وجوهنا فقال: "ما شأنكم؟" قلنا: يا رسول الله، ذكرت الدجال؛ فخفضت فيه ورفعت؛ حتى ظنناه في طائفة النخل.
فقال: "غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم؛ فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم؛ فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم".
وروى -أيضاً- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا تشهد أحدكم؛ فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال".
ولقد وردت بخروج الدجال أحاديث كثيرة متواترة؛ واجبة التصديق في معتقد أهل السنة والجماعة، لا يشك فيها إلا ضعيف التصديق أو فاقده، لا يشك فيها إلا غير محقق لمقتضى شهادة أن محمداً رسول الله الذي هو طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
أيها الإخوة: إن هذا الأمر لم يعد ولن يعود -بحمد الله- خافياً على ذي بصيرة، ولكنها العظة والتذكير به، اتباعاً لسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وسنة الأنبياء من قبله.
ولا عجب ولا استغراب أن يذكر به؛ ففتنته أكبر فتنة وأعظم فتنة وأخطر فتنة، روى الإمام مسلم -رحمه الله- عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما بين خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أكبر من فتنة الدجال".
وذلكم -والله أعلم- لأن فيها من خوارق العادات، والخروج على المألوفات، ما قد يبهر ذوي العقول والبصائر الضعيفة؛ ابتلاء وامتحاناً، وإظهاراً لما كان في قلوب المؤمنين من تصديق جازم بصحة الإخبار عنه، وما كان في قلوب المنافقين من تشكك وتزعزع.
فقد جاء في صحيح مسلم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الدجال أعور العين اليسرى جفال الشعر، معه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار" وفيه أيضاً: "أنه يأتي على القوم فيدعوهم؛ فيؤمنون به؛ فيأمر السماء؛ فتمطر، والأرض فتنبت؛ فتروح عليهم رائحتهم أطول ما كانت ذراً، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر.
ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة فيقول لها: "أخرجي كنوزك؛ فتتبعه كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً؛ فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه؛ فيقبل يتهلل وجهه ويضحك" الحديث. وفيه: "ولن يقدر على أحد بعده".
والغرض من هذه الإخبارات -والله أعلم- هو دعوة المسلم أن يبتعد عن كل شبهة تعارض أخبار الله، أو أخبار رسول الله، وأن يصدق ويستسلم لها من سويداء قلبه استسلام من قال الله فيهم: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [لقمان:22]
وأن يبذل جهده في توقي فتنة الحياة صغيرها وكبيرها، أمثال ما في قوله سبحانه: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال:28] وقوله: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن:14] فمن نجا من صغريات الفتن، كان حرياً أن ينجو من كبرياتها فيما لو وافته، وقديماً قيل:
فإن تنج منها تنج من ذي كريهة *** وإلا فإني لا أخالك ناجياً
يقول عليه الصلاة والسلام: "بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة" رواه مسلم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي