فنقّل طرفك-أيها المسلم- في بعض بلدان المسلمين اليوم؛ فستجد هناك سيلان دموع اليتامى الذين لا يجدون كافلا، وأنّات الأرامل اللاتي لم تر عائلا، وشحوب المشردين والنازحين الذين لم يجدوا مأوى إلا سقف السماء غطاءا، وظهر الأرض لحافا، وصرير الشتاء جارا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: ما أجملَ أن يرسم الإنسان السعادة في وجه إنسان، وما ألذ أن يغسل عنه غبار الحاجة، وما أحسن أن يطلقه من قيد كربة، ويحرره من أسر ملمّة، ويعينه على بلوغ مصالح دينه ودنياه!
وأخلِقْ بمجتمع يريد أن يسوده الأمن والسلام، وتظلله سحب المحبة والوئام أن يحنو القريب على قريبه، ويعطف غنيُّ المجتمع على فقيره، وقويه على ضعيفه، وقادره على عاجزه، وصحيحه على مريضه؛ هذا السلوك الإنساني الذي يحقق هذه المقاصد الحميدة، ويوصل إلى هذه الغايات المنشودة هو التكافل الاجتماعي.
عباد الله: إن التكافل الاجتماعي خلق سام له فضل كبير دل عليه القرآن الكريم وسنة نبينا العظيم -عليه الصلاة والسلام-، وفي ذلك إشادة به، ودعوة إليه؛ ففي كتاب الله جاء الأمر بالتكافل الاجتماعي والنهي عما يخالفه، فقال الله -تعالى-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة:2]، ويبين الله -تعالى- في آية أخرى أن العلاقة بين المؤمنين علاقة أخوّة ترأب الصدع، وتكمل النقص، وتعين على صلاح الحال ليصبح المؤمنون كالنفس الواحدة، فيقول -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10].
وفي آية من سورة النساء يبين الله -تعالى- فيها بأنه لا خير في كثير مما يدور في الاجتماعات السرية التي يجتمع فيها الناس بعيدين عن أعين الرقباء إلا إذا كان الهدف فيها الوصول إلى عمل خير؛ كالتكافل الاجتماعي "من صدقة تُعطى، أو معونة تبذل، أو معروف يؤمر به، أو إصلاح بين الناس"(التفسير الحديث).
ويذكر -سبحانه- جزاء من فعل ذلك ابتغاء وجهه الكريم، فيقول -تعالى-: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء:114].
وإذا أجلت طرفك-أيها الأخ الكريم-في سنة النبي -عليه الصلاة وأتم التسليم- فستجد حثًا كبيراً على هذا الخلق الإنساني الرفيع خلق التكافل الاجتماعي؛ فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(رواه مسلم).
الله أكبر! ما أعظمَ هذا التشبيه النبوي الذي يجعل المؤمنين في حال تكافلهم الاجتماعي جسداً واحداً، وهل يستريح هذا الجسد وهو يجد بعض أعضائه يتألم؟
وفي تشبيه نبوي آخر يجعل النبي -عليه الصلاة والسلام- المؤمنين كالبناء الذي لا يقوم إلا باجتماع لبناته واشتداد بعضه ببعض؛ فيقول -عليه الصلاة والسلام-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"(متفق عليه).
أيها المؤمنون: إن التكافل الاجتماعي في الإسلام سلوك يدفع إليه الخلق الحميد، وطلب الثواب من الله -تعالى- لا من البشر؛ فهو سيرة واتجاه مستمر، وليس مقايضة ومبادلة سلعة بسلعة، فصنع المعروف في ديننا الحنيف-أيها الفضلاء- لا يكون مكافأة لمن صنع إلينا معروفًا فحسب، بل هو مبادرة تدعو إليها الرغبة فيما عند الله، قال -تعالى-: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا)[الإنسان:9].
لقد حث الإسلام على أن يكون التكافل فينا سلوكًا لا مقايضة، وحتى لو أساء إلينا شخص نحسن إليه فلا ينبغي أن تقطع إساءته استمرار إحساننا؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم ويجهلون علي!! فقال: "إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك"(رواه مسلم).
يقول الشاعر:
وإن الذي بَيْني وبينَ بني أبي *** وبين بني عَمِّي لمُخْتَلِفٌ جِدا
فإِن أَكَلوُا لحمي وَفَرْتُ لحُومَهم *** وإِن هَدَموا مجدي بَنَيْتُ لهُمْ مجدا
وإِن ضَيَّعوا غَيْبي حَفِظْتُ غيوبهم *** وإِن هُمْ هَوَوا غَيِّي هويت لهم رُشْدا
وإِن قَطَعوا مني الأواصِرَ ضِلَّةً *** وَصَلْتُ لهمْ مني المحبةَ والوُدَّا
عباد الله: هناك صور كثيرة ونماذج حسنة للتكافل الاجتماعي في الإسلام، فمن ذلك: الزكاة، وهي شعيرة إسلامية واجبة وركن من أركان الإسلام، أمر الله -تعالى- بها في كتابه وكذلك رسوله -عليه الصلاة والسلام-، قال -تعالى-: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)[البقرة:43]، ولم يكن إيجابها إلا لما لها من أهداف مجتمعية حسنة منها التكافل الاجتماعي، فلو أُخذت الزكاة كما تجب وصرفت إلى أهلها لما بقي فقير في المجتمع المسلم، خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه نعم الله على عباده.
ومن صور التكافل الاجتماعي -أيضًا-: الصدقة، وبابها أوسع من باب الزكاة، وهي أحد وسائل الصلة، ووجوه البر والإحسان؛ فكم تُمسح بها دمعة يتيم، وتُكفى بها حاجة أرملة، وتسد بها خلة فقير، ويستر بها إنسان كريم، فأين نحن من هذه الصورة التكافلية العظيمة، وقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ)[البقرة:254]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته"(رواه الطبراني).
ومن صور التكافل الاجتماعي أيضًا: الكفارات التي جُعلت محواً لمعاص معينة، وتُصرف إلى جهات محددة؛ ككفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الوقاع في نهار رمضان، وكفارة بعض محظورات الإحرام؛ فهذه الكفارات ونحوها شرعت لحكم عظيمة: منها: سد حاجة الفقراء والمساكين، وهذا من التكافل الاجتماعي.
وهناك صورة كثيرة -معشر المسلمين- نشير إليها إشارة منها: النذور، والهدايا، والوصايا، والأضاحي، والأوقاف، والهبات، وغير ذلك؛ وبذلك نعلم حرص الإسلام على استقرار المجتمعات يوم أن يدوم فيها سلوك التكافل وتسود فيها ثقافة التضامن الاجتماعي.
ولو لاحظتم-أيها الكرام- إلى هذه الصور؛ فسترون أن بعضها واجب، وبعضها الآخر مستحب، مما يدل على عناية الإسلام وحرصه على ترسيخ هذا المبدأ العظيم بين المسلمين.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل القلوب الرحيمة، والنفوس الكريمة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العظيم، والصلاة والسلام على النبي الكريم، أما بعد:
أيها المسلمون: لقد كان للنبي -عليه الصلاة والسلام- أساليب فذة متنوعة في ترسيخ خلق التكافل، ومن تتبع سنته وسيرته رأى في ذلك عجباً؛ فمن ذلك:
تقنين مبدأ المؤاخاة؛ فأول ما وطئت قدمه الشريفةُ طيبةَ الطيبة ورأى ما ببعض أصحابه من فاقة- خاصة المهاجرين منهم- قام بعمل المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، "ومعنى هذا الإخاء: أن تذوب عصبيات الجاهلية، وتسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يكون أساس الولاء والبراء إلا الإسلام. وقد امتزجت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة وإسداء الخير في هذه الأخوة، وملأت المجتمع الجديد بأروع الأمثال".
وفي قصة سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف مثال رائع نتيجة هذا الإخاء العظيم.
ومن الأساليب النبوية كذلك: استغلال مشاهد العوز للدعوة إلى كشفه عن أهله؛ فعن جَرِيرٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ - حَتَّى قَالَ - وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ". قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ - قَالَ - ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ"(رواه مسلم).
أيها المؤمنون: إن وضع المسلمين اليوم يحتم على الجميع تفعيل مبدأ التكافل الاجتماعي ونقله من واقع معرفي إلى واقع ملموس؛ فنقّل طرفك-أيها المسلم- في بعض بلدان المسلمين اليوم؛ ترى دموع اليتامى الذين لا يجدون كافلا، وأنّات الأرامل اللاتي لم تر عائلا، وشحوب المشردين والنازحين الذين لم يجدوا مأوى إلا سقف السماء غطاءا، وظهر الأرض لحافا، وصرير الشتاء جارا.
ولا تنس أن تمر بخيالك على بيوت مسلمين أعفّاء لا يسألون الناس إلحافا لم يجدوا عملاً ليسدوا به حاجتهم وحاجة من يعولون؛ لكثرة البطالة وقلة فرص الأعمال.
فأين أين نصيب هؤلاء من تكافلنا المجتمعي؟
واسمعوا هذا النموذج المشرق: "قال محمد بن إسحاق: كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به، ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل.
وقيل: إنه كان يعول مائة أهل بيت بالمدينة ولا يدرون بذلك حتى مات!!"(البداية والنهاية).
فيا عباد الله: علينا أن نحيي خلق التكافل في مجتمعنا المسلم؛ فيعين الغني الفقير ويرحم القوي الضعيف ويواسي المعافى البائس والمهموم؛ فالتكافل يقوي الترابط المجتمعي ويعمق أواصر المحبة والألفة ويعيش المجتمع به في هناء ويعم فيه الخير والنعماء.
نسأل الله أن يجعلنا متحابين متعاطفين، رحماء متكافلين.
وصلوا وسلموا على النبي الكريم؛ (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي