بعضَهم يُطلَبُ منه بَذلُ جاهِهِ ووَساطتِهِ؛ ليُعَيِّنَ أو يَنقُلَ موظَّفًا، أو يُدخِلَ مريضاً المستشفى، فيَشتَرِطَ مقابِلَ شفاعتِهِ مبلغًا ماليًا, فهذا حرامٌ؛ لقولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ, فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا؛ فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْرِّبَا...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ الذيْ أظهرَ لعبادهِ من آياتِه دليلاً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له, المتفردُ بالخلقِ والتدبيرِ جملةً وتفصيلاً، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه أصدقُ الخلقِ قِيلاً، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ والتابعينَ لهمْ بإحسانٍ جِيلاً فَجِيلاً.
أما بعدُ: فاتقُوا اللهَ -تعالَى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[الأنفال: 28], فكيفَ تكونُ الأموالُ فتنةً؟! تكونُ فتنةً في تحصيلِها، وفتنةً في تمويلِها, روى البخاريُ أن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
فمَن أولئكَ المتخوِّضونَ في مالِ اللهِ بغيرِ حقٍ؟! إنهم أشكالٌ، ومخادَعاتُهم ضلالٌ! وأشدُّها ما أُخِذَ بغيرِ وجهِ حقٍ من المالِ العامِ, الذي لا يَخُصُّ أحدًا منَ المسلمينَ.
أيُها المسلمونَ: بعضُ الناسِ يَستسهِلُ أخذَ الأشياءِ القليلةِ أو الرخيصةِ، وقد قالَ النبيُ -صلى الله عليه وسلم-: "أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ فَمَا فَوْقَهُمَا، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ؛ فَإِنَّهُ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(مسند أحمد), خيطٌ وإبرةٌ، فكيفَ بمن يُخادِعُ الناسَ عَبرَ البيعِ عن بُعدٍ، وبالدعاياتِ الكاذبةِ المدفوعةِ؟! وهم يَحسبونَ أنهم بخداعِهم أذكياءُ!, إلا إنهم بأكلهِمُ السُحتَ همُ الخاسرونَ.
قَالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ؛ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ, وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ", فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: "وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ"(صحيح مسلم), عودُ سواكٍ! فكيفَ بالأخذِ من أموالِ المسلمينَ التي هيَ حقٌ لهم جميعاً؟! فالأمرُ أشنعُ، وفي الآخرةِ أفظعُ.
ولأجلِ أن نُدرِكَ خطورةَ الأخذِ من بيتِ مالِ المسلمينَ وأموالِهمُ العامةِ, فلنتأملْ في حالِ رجلٍ خرجَ للجهادِ في سبيلِ اللهِ مع رسولِ اللهِ، ولكنْ كيفَ مَصيرُه؟! وبِم خُتِم لهُ؟!؛ ففي الحديثِ المتفقِ عليهِ أن مَولىً لرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَحُطُّ رَحْلاً لرسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ خَيْبَرَ، إِذَا سَهْمٌ -عَائِرٌ- فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ, فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "كَلاَّ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ, لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا"(متفق عليه)؛ فإذا كانَ هذا في شملةٍ محقرةٍ فكيفَ بأهلِ الألوفِ والملايينِ؟!.
ومنْ صُورِ التخوضِ في مالِ اللهِ: المُقاوِلُ الذي يَخونُ في مُقاوَلتِه، والموظفُ الذي لا يُتقِن مهمته, وكذا التاجرُ الذي يَزوِّرُ ويَزيدُ في سِعرِ سلعتِهِ، أو يبيعُ ما يَضرُ الناسَ في أديانِهِم أو أبدانِهِم، فكلُ هذا أكلٌ للحرامِ.
مَعاشرَ المسلمينَ: مِن أعظمِ الخيانةِ خيانةُ مَن حَملَ أمانةَ عملٍ من أعمالِ المسلمينَ، ثم اتَّخذَ مِن ذلكَ العمَلِ مطيّةً لجمعِ الأموالِ، واتخاذِ يدٍ له عندَ مسؤولٍ؛ بالاختلاسِ، أو الابتزازِ، أو الرشوةِ، أو التحايُلِ بالباطلِ.
ففي صحيحِ مسلمٍ أن رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا فَمَا فَوْقَهُ؛ كَانَ غُلُولاً يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ", فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ أَسْوَدُ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ, قَالَ: "وَمَا لَكَ؟", قَالَ: سَمِعْتُكَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا, قَالَ: "وَأَنَا أَقُولُهُ الآنَ: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى"(صحيح مسلم).
أيُها المسلمونَ: الرشوةُ محرَّمةٌ بأيِ اسمٍ سُمِّيتْ، سواءٌ سُميَتْ هديةً أو مكافأةً أو إكراميةً، أو بَخشِيشًا!, وسواءٌ كانتْ على صورةِ هدايا أو خُصوماتٍ أو امتيازاتٍ أو مأدُبةِ طعامٍ؛ فالأسماءُ لا تُغيِّرُ منَ الحقائقِ شيئاً، والعِبرةُ بالحقائقِ والمَعاني، لا بالألفاظِ والمَباني, وقد "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ وَالمُرْتَشِيَ"(رواه الترمذي).
فثَمَّتَ مسألةٌ ماليةٌ مهمةٌ، تُشكِلُ على الناسِ، وهيَ أن بعضَهم يُطلَبُ منه بَذلُ جاهِهِ ووَساطتِهِ؛ ليُعَيِّنَ أو يَنقُلَ موظَّفًا، أو يُدخِلَ مريضاً المستشفى، فيَشتَرِطَ مقابِلَ شفاعتِهِ مبلغًا ماليًا, فهذا حرامٌ؛ لقولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ, فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا؛ فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْرِّبَا"(سنن أبي داود).
فلو شفعْتَ لأخيكَ، وجاءكَ بهديةٍ فلا تأخذْها؛ فهيَ ربا، وإذا لم تَنفَعْ إخوانَك فإياكَ أن تَضُرَّهم، و"الشفاعاتُ زكاةُ المُروءاتِ"(المجموع للنووي), وكذا مَن كانَ مِن صَميمِ عملهِ أن يُقدِّمَ لكَ هذهِ الخِدمةَ، ولكنهُ امتنعَ إلا بمقابلٍ، فهذهِ رشوةٌ محرمةٌ.
وأما مَن استأجَرَ شخصًا؛ لإنجازِ معاملةٍ ومتابعتِها في الدوائرِ, فهذا من بابِ الإجارةِ الجائزةِ, فهذهِ ثلاثةُ أقسامٍ: الشفاعةُ بمقابلٍ حرامٌ، والرشوةُ على عملِكَ حرامٌ، والإجارةُ على أتعابِكَ حلالٌ.
فاللَّهُمَّ إِنّا عَائِذون بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنا, اللهم باركْ في أوقاتِنا وأقواتِنا، واقضِ ديونَنا، وأرخصْ أسعارَنا, اللهم أطِبْ أطعمتَنا وأجبْ دعوتَنا, اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ, اللهم أخرِجْنا من هذهِ الدنيا ولا أحدَ من خلقكَ يطلبُنا بمَظلمةٍ, اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ, اللَّهُمَّ إِنّا نسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ, اللهُمَّ إِنّا نعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ, اللهم حسِّنْ أخلاقَنا، وبارِك أرزاقَنا، وآمنْ أوطانَنا، واحفظْ وسددْ إمامَنا، ووليَ عهدِ إمامِنا, اللهم احمِ حدودَنا وجنودَنا, وأصلِحْ بلادَنا وأولادَنا، وبارِكْ تعليمَنا ويسِّرْ تفهيمَنا.
قالَ حبيبُنا -صلى الله عليه وسلم-: "أكثِروا علَيَّ منَ الصلاةِ في كلِ يومِ جمعةٍ؛ فإن صلاةَ أمتي تُعرَضُ علَيَّ في كلِ يومِ جمعةٍ، فمَنْ كانَ أكثرَهم عليَّ صلاةً؛ كانَ أقربَهم مني منزلةً"(رواه البيهقي وهو في صحيح الترغيب)؛ فاللهمَ صلِ وسلِم على عبدِك ورسولِك محمدٍ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي