الليل المشرق

عبدالله بن عبده نعمان العواضي
عناصر الخطبة
  1. متى يشرق الليل؟ .
  2. أعمال مضيئة في ظلام الليل .
  3. لا يستوي أهل النور وأهل الظلام .
  4. أفعال مظلمة في ظلام الليل. .

اقتباس

إن الليل حينما يغشي الحياة بظلامه؛ فهناك نفوس عليّة تجعل من ظلماته أنواراً تستضيء بها في الدنيا والآخرة، وتصنع من سكونه معارج مشرقة تخترق بها تلك الدياجي المتكاثفةَ لتبلغ بصاحبها آفاقَ...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب70-71]، أما بعد:

 

أيها المسلمون: الليل مرفأ الحياة اليومية الذي ترسو عليه النفوس من ركوب أمواج النهار المضنية، فتستريح فيه ساعاتٍ لتعود بعدها إلى معترك النهار مرة أخرى، وهكذا تمضي الدنيا.

 

وفي ظلام الليل وسكونه نعمةٌ من الله على عباده في حياتهم الفانية، يرون من خلالها خيوط الكرم الرباني تُشرق في تلك الظلمات مشيرةً إلى حصول الراحة بعد العناء، والهدوء بعد الضجيج، والفراغ بعد الانشغال، والخلود إلى ساحة للتأمل والتفكر والعمل الذهني بعد الشرود الذي يصنعه النهار بجلبته وصخبه؛ يقول -تعالى- ممتنًا على عباده: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)[يونس:67].

 

أيها المؤمنون: إن الليل حينما يغشي الحياة بظلامه فهناك نفوس عليّة تجعل من ظلماته أنواراً تستضيء بها في الدنيا والآخرة، وتصنع من سكونه معارج مشرقة تخترق بها تلك الدياجي المتكاثفةَ لتبلغ بصاحبها آفاقَ النور العليا، فيصبح الليل عند هذه النفوس أعظم من النهار ضياء، وأسمى منه سناء.

قال بعض الصالحين: "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا"، وقال: "لو عوض الله أهل الليل من ثواب أعمالهم ما يجدونه من اللذة لكان ذلك أكثر من ثواب أعمالهم".

 

وقال بعض العلماء: "ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة"(إحياء علوم الدين).

فكيف نجعل ليلنا مشرقًا، ويصير ظلامه لنا نوراً، ووحشته علينا أُنسًا يا عباد الله؟

 

إن الليل المشرق هو الليل الذي يعمره العبد بطاعة الله -تعالى-، ويجافي نفسه فيه عن معصية ربه العظيم، فحينما يستعد النهار للرحيل فتحتضر شمسه ويخفت أمام العيون أُنسه، ويرخي الليل سدوله، ويمد بساطه على الحياة؛ ينبعث أهل الليل المشرق فيستفتحون زمن الليل بذكر الله -تعالى-؛ رجاء البركة والنور والحفظ والتوفيق للخير، وتحصيل الثواب، فيقولون:

"أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها"(رواه مسلم). ويقولون غير هذا من أذكار المساء.

 

وأهل الليل المشرق إذا نادى منادي الصلاة للمغرب هرعوا إليها تاركين خلفهم كل شاغل ومُلهٍ يصرفهم عن الصلاة فهم؛ (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ)[النور:37].

 

وفي الوقت الذي ينشغل فيه أهل الدنيا بالدنيا هناك قوم أبهى أنواراً يسرجون الليل بعكوفهم في المساجد بعد المغرب يقرأون القرآن أو يحضرون مجالس العلم حتى تأتي صلاة العشاء، وهم في تلك الجلسة المضيئة يُكتب لهم أجرُ صلاة متصلة إلى صلاة العشاء، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث؛ اللهم اغفر له اللهم ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة"(متفق عليه).

 

وأهل الليل المشرق يبادرون إلى صلاة العشاء التي هي من أفضل الصلوات كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيها لأتوهما ولو حبوا"(متفق عليه).

ويؤدونها أول وقتها وفي جماعة؛ ليظفروا بالخير الكثير، قال النبي الله -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله"(رواه مسلم).

ثم يعودون إلى بيوتهم والأنوار تتلألأ على وجوههم، والطمأنينة تكسو صدورهم، والراحة تغمر نفوسهم، فيا سعدهم وسعد أهلهم بهم!

 

عباد الله: وفي ظلمات الليل تشرق أعمال صالحة أخرى يسارع إليها أهل النور مخلصين لله فيها يريدون أن يراهم الله ويخفوا عن عيون الخلق؛ فمن تلك الأعمال الصدقة؛ حيث يتحين المخلصون؛ فيضعون صدقاتهم على الأبواب أو على أيدي الفقراء دون أن يراهم أحد، قال -تعالى-: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[البقرة:271].

 وقال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"(متفق عليه).

"كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ومن يعطيهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به. ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل. وقيل: إنه كان يعول مائة أهل بيت بالمدينة ولا يدرون بذلك حتى مات"(البداية والنهاية).

 

لله تلك النفوس البهية التي تقضي ما تبقى من ساعات ليلها قبل أن تنام في نفع الأهل والجلوس معهم، وقراءة ما تستطيع من القرآن والعلم النافع، ثم تأتي النوم مبكراً؛ لأن النبي عليه -الصلاة والسلام- كان يكره كثرة الحديث بعد صلاة العشاء؛ لأنه قد يؤدي إلى النوم عن صلاة الفجر أو عن صلاة الليل.

 

أيها المسلمون: إن من أنوار الليل أن ينام فيه المسلم على ذكر الله؛ فيتوضأ ويقول ما استطاع من أذكار النوم؛ فإن هذا كان هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- في نومه؛ فعن  البراء-رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت في ليلتك مت على الفطرة"(رواه الترمذي).

ويقرأ آية الكرسي وأواخر سورة البقرة، والمعوذات، وغير ذلك من أذكار النوم،  وإذا قاموا من تلك النومة الطيبة قاموا أيضًا على ذكر الله فقالوا: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور"(متفق عليه).

 

أيها الإخوة الكرام: إن هناك نوراً عظيمًا يشرق به ليل المسلم، يُلبِس روحه وحياته بهاء تتشعشع أضواؤه فيكسو العمر راحة ولذة وسكينة، هذا النور العظيم هو: قيام الليل؛ هذا النور البهي لا يظفر به كل أحد، إنما يظفر به أولئك المؤمنون الذين قدموا محبة مناجاة الله على محبة النوم والفراش الوثير، فقاموا في تلك اللحظات الغالية ركعًا سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، فشتان ما بينهم وبين الغافلين: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[الزمر:9].

 

وفي فضل هذه الصلاة يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاةُ في جوف الليل"(رواه مسلم).

 

ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفر للسيئات، ومنهاةٌ عن الإثم"(رواه الترمذي).

 

أما إنكم لو تأملتم-معشر المسلمين-في وجوه أهل قيام الليل لرأيتم النور ينبعث من وجوههم؛ قيل للحسن: "ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خَلَوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره".

 

وقال شريك بن عبد الله:" من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار".

 

ألا فكونوا-عباد الله- من أهل الليل المشرق تشرق حياتكم وآخرتكم.

 

نسأل الله أن يوفقنا لذلك.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الواحد الأحد، والصلاة والسلام على نبينا محمد، أما بعد:

 

أيها المسلمون: إنه لا يستوي أولئك القوم السابقون الذين أشرق ليلهم بطاعة الله فدخلوا ليلهم على طاعة، وخرجوا مصبحين منه على طاعة، وعاشوا ساعاته على طاعة، بل إن نومهم إذا احتسبوه كان عبادة لهم، قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "إني أرجو في نومتي ما أرجو في قومتي"(متفق عليه).

فلا يستوي هؤلاء الصالحون مع قوم جعلوا ليلهم مظلمًا، فصاروا في ظلمات بعضها فوق بعض.

 

إن أهل الليل المظلم هم الذين أظلموا أرواحهم بمعصية الله؛ بترك أموار الشريعة وفعل نواهيها.

إن أولئك المظلمين يدخل عليهم الليل فلا يسألون الله حصول خير، ولا يتعوذن به من شر، ومتى نادى منادي الصلاة للمغرب أو العشاء تغافلوا عن إجابته، فكأنما ينادي غيرهم من المخلوقين، فيضيعون صلاة المغرب وصلاة العشاء.

 فيا خسارة من ضيع الصلاة، ويا سوء حاله يوم تظلم حياته وروحه بذلك.

 

يا خُسْرَ مَن تركَ الصلاةَ تعمداً *** وأقام معتكِفَ الفؤادِ على الهوى

كيف المصيرُ إذا القيامةُ أقبلتْ*** وأتى إلى ساح الحساب وما ارعوى

ماذا يرجِّي يومَها وصلاتُه *** تشكوه يوم لقاء من مَلَك القوى؟!

 

أيها الفضلاء: إن أهل ظلام الروح في ظلام الليل ينتشرون في صفحات المعاصي كما تنتشر الشياطين عند دخول الليل، فما ظلامهم في ساعات الظلام؟

إن أهل الظلام يتوزعون على أعمال الخطيئة عند مجيء الليل؛ فمنهم من تمشي به خطى الإثم إلى منازل الناس لسرقة أموالهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"(رواه أحمد).

 

ومنهم من يمسي ليناجي قنينة المسكر، ويرميه سكره في ظلمات الخروج عن العقل فلا يدري ما يفعل وما يذر!

 

ومنهم من يغلبه شيطانه فيأخذ جواله ويشرع في الاتصال والمراسلة للنساء في خدورهن، فيؤذيهن ويتعدى على حرمتهن وحرم أهاليهن، دون خوف من الله يردعه، ولا زاجر من خلق كريم يزعه، ولا تفكر بأنه بتعديه هذا قد يتعدى ناس على نسائه ومحارمه، قال رسول الله صلى الله عليهم وسلم: "لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم؛ تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه، ولو في جوف رحله"(رواه ابن ماجه).

 

ومن أولئك الذين أظلم ليلهم: من يقيدون أجسادهم في سلاسل العكوف أمام الشاشات الكبيرة والصغيرة، وفيها يطلقون لعيونهم العنان في الليل البهيم لتشاهد ما يغضب الربَّ العظيم؛ فكم يقضون من الساعات في متابعة المقاطع والمسلسلات والأفلام التي تدعو إلى الفاحشة ومساوئ الأخلاق والأعمال، دون أن يفكروا في نظر الله إليهم وهم على تلك المساخط، وربما سهروا على ذلك إلى الفجر ثم رقدوا بعد زمن طويل مثخن بالعصيان، قال -تعالى-: (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ *  يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[المطففين:4-6]، أفلا يرعون ويعجلون إلى الله المتاب (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ)[الرعد:21]؟.

إنهم إذا أمنوا في تلك المتابعة المحرمة من رؤية الناس، لكن الله يراهم ويسجل عليهم أعمالهم، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك:14].

 

فيا عباد الله: اجعلوا لياليكم مشرقة بطاعة الله، ولا تجعلوها مظلمة بمعصيته، وحافظوا على أعمال الليل الصالحة، واستمروا على الجد في الصراط المستقيم.

 

نسأل الله أن يجعل ليلنا ونهارنا معمورينِ بالخيرات، والمسابقة إلى الباقيات الصالحات.

 

هذا وصلوا وسلموا على خير البرية....


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي