الإمامان ... سيرة حياة وإحياء

د عبدالحميد بن سعد السعودي
عناصر الخطبة
  1. فضل الله على الأمة الإسلامية بالدعاة والمصلحين .
  2. الحالة الدينية قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب .
  3. الدعاة الربانيون ليسوا معصومين .
  4. بعض صفات الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب .
  5. تركيز الإمام على أهل البدع والمنكَرات .
  6. شمولية نظرة الإمام رحمه الله .
  7. شمولية دعوة الإمام فيما يخص المدعُوِّين .
  8. مقتطفات من سيرة الإمام محمد بن سعود رحمه الله .
  9. أهمية القوة والسلطان لحماية الدعوة إلى الله تعالى .

اقتباس

وهذا النهج في هذه الدعوة مهم -أيها الإخوة-؛ لأن الدعوة بلا سلطان، والحق بلا دولة يفقدان الرعاية والحراسة والأمن، فإن الانفصال المروِّع بين الدعوة والسلطان والدِّين والحُكْم جرَّ ويجرُّ على المسلمين الضَّعْف والفُرْقة إلى الفُرْقة...

من اختيارات الشيخ رحمه الله

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الموصوف بصفات الجلال والكمال، امتنَّ على خلقه بمزيد من الإنعام والإفضال، أحمده -سبحانه- وأشكره، وهو المحمود بكل لسان وعلى كل حال، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه الصادقُ المقالِ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه خير صَحْب وآل، والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم المآل..

 

أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-؛ فتقوى الله عليها المعوَّل، وعليكم بما عليه السلف الصالح والصدر الأول.

 

أيها الإخوة في الله: منذ أن أكرَم اللهُ هذه الأمةَ ببعثة نبيِّه محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وأفواج الدعاة والمصلِحينَ يتعاقَبون فيها؛ علماء مصلحون، ومربُّون ربَّانيونَ من خلفاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- الراشدينَ، وورثته من العلماء العامِلينَ، داعينَ إلى الحق، حاكمينَ بالقسط، آمِرِينَ بالمعروف، ناهِينَ عن المنكَر، فإن العناية بسِيَرِهم، والتذكير بهم وهم مصابيح الهدى التي أضاءت الطريقَ، بل حوَّلت مجرى التاريخ في ديارها، وأورثت تحوُّلات فكرية كبرى في عقولها، إن ذلك لَمِمَّا يجب أن تنصرف إليه الهممُ، ويعتني به الموجِّهون، ويذكِّر به المذكِّرون.

 

إن دراسة حياة الرجال تُورِث الإحساسَ بالقوة، وتُنبِت الشعورَ بالعزة، وتَهدي إلى التمسُّك بالحق، وتعود إلى السمو في الخُلُق، وتفتح الأبواب العريضة للآمال.

 

والدنيا بغير الرجال الأفذاذ همود وجمود، وإذا أقفرَت الديارُ من الرجال، فهي إلى الوراء تتقهقر، ومن الوجود تتلاشى، وإذا نامَت الأمةُ شقَّ إيقاظُها، وعَسُرَ بعثُها، إلا بعد أجيال وأجيال.

 

أيها الإخوة في الله: ومن خلال النظر في هذه السِّيَر يتبيَّن للدارس المتأمِّل أن الدنيا كلما احلولكت فيها ظُلَمُ الجهالة وخاض الناس معها لججَ الباطل، وخيَّمت سحبُ البدع؛ قيَّض اللهُ رجالًا، وسدَّد دعاةً يدعون إلى الله على بصيرة؛ فيُنيرون الطريقَ، ويُحيُون السننَ، ويَبسُطُون الحق؛ فتتطهَّر على أيديهم -بإذن الله- القلوبُ والديارُ.

 

وفي فترة من فترات تاريخ الأمة غشيت الدِّينَ غاشيةٌ سوداءُ؛ فإذا التوحيد الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- قد تلبَّسَتْه أنسجة الخرافة، وقشور التصوف، وكَثُرَ الأدعياء الجهلاء، وتلبَّدت عقول فئام كثير من المسلمين بالذِّلة والمسكنة؛ فأحاطت أعناقَهم التمائمُ والتعاويذُ، وقيَّدت سواعدَهم الخيوط والأوهام، وتعلَّقوا بالقبور وأصحابها، وفشا فيهم التنجيم والسحر والتطير والكهانة، وغابت شمس الحق عن كثير من النفوس حتى هبطوا مهبطًا بعيد القرار، وحتى كأن وظيفة الدين والعقل أُلغيتا جميعًا.

 

ولا تدري كيف انفلت على أهل العلم علمُهم، فلم يزدد العامة فيهم إلا جهلًا.

 

وفي هذه الأجواء الغائمة القاتمة انطلق صاروخ من قلب الصحراء؛ صحراء جزيرة العرب، يدعو إلى الإصلاح، ويُوقِظ أهلَ الإيمان، إنه صوت الصادق المصلِح، الإمام شيخ الإسلام في وقته محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-.

 

أيها الإخوة في الله: وقبل الحديث عن هذا الإمام ينبغي التذكير بما تعارَف عليه أهلُ العلم؛ مِنْ أنَّ ذِكْرَ السِّيَر والمناقب إنما يُقصَد به ذكرُ الفضل لأهل الفضل من غير أن يكون لأحد قداسة، ومن غير اعتقاد الكمال والعصمة في بشر إلا الأنبياء فيما يبلغون عن ربهم -عز وجل-.

 

والثناء على عالِم ليس حطًّا من حق غيره ممن يستحق الثناء، وإنما ينسب الفضل لأهله، ويؤخذ الحق ممن جاء به.

 

ومقاييس أهل الإسلام أن تُعرَض الرجال وأعمالها على ميزان الشرع، وما رجَحَت كفة إلا بفضل ما أثمَرَتْ من جهد، وما أنتَجَت من عمل، وما أورَثَت من حق وصلاح وخير ورشاد، في ظل الإسلام وضوابط الشرع، وليس الحق محصورًا في إمام، بل ولا في الأئمة الأربعة -رضوان الله على أئمة الإسلام أجمعين-.

 

وبعد هذا -أيها الإخوة في الله-: فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من أوفر المصلِحين حظًّا في ميدان الدعوة، ومن أرجحِهم كفةً في سبيل الإصلاح، بلغَت شهرتُه الآفاق، وكتَب عنه القاصي والداني، وردَّدَتْ سيرتَه ألسنةٌ وأقلامٌ، من الغرباء وذوي القربى، ومن المسلمين وغير المسلمين، وكلها في نظر المنصِف تدلُّ على سموِّ الرجل وصلاح أمره ونجاح مقصده.

 

لقد وهبَه الله قوةً في النفس، وصَدْعًا بالحق، وتأثيرًا في السامعينَ، في صبر ومثابَرة، وحُسْن ظن بالله، وصِدْق في التعلق به.

 

برَع في علوم الدين واللسان، وفاق الأقران، واشتُهر بالتقوى وصدق التدين، معتقدُه الدين الخالص على مذهب السلف المقتدى بهم، لا يخوض في تأويل، ولا يتعمَّق في فلسفة، يقتدي بالأئمة من غير جمود، لم يطوِّق حبل التقليد في عنقه، لكنه مقتدٍ مؤدَّب، يحترم القولَ وقائلَه.

 

دعوته توحيد الله في ربوبيته وألوهيته، وفي أسمائه وصفاته، وشعاره لا إله إلا الله محمد رسول الله، يوضح معانيها ويبسط القول فيها منهجًا ودعوةً وتأليفًا في مختصَرات ومطوَّلات، ولجميع الطبقات والفئات، وهل التوحيد إلا إفراد العبادة وإخلاصها لرب العالمين؟ وذلك دين الرسل أجمعين، وهو أمر واضح جلي، ولكن حبائل الشيطان واسعة.

 

ولقد أفرَد الشيخ -رحمه الله- المتعلقين بالقبور والأضرحة بخطاب خاص؛ لِمَا لَحَظَه من عموم الابتلاء بهذا الداء في أصقاع كثيرة من بلاد المسلمين كافة، فقد دُعي غيرُ الله، وتعلقت الآمال في كشف الكروب، ودفع المصائب بغير الله، وارتفعت الأصوات تجأر بطلب الغوث من غير الله، تحت أعتاب الأضرحة المشادة، وفي مسوح القباب الشاهقة، وفي تراب القبور المجصَّصة، وهذا الأمر الذي ندَب الشيخُ -رحمه الله- له نفسَه، لم يكن بدعًا من الأمر؛ فنصوص الكتاب والسنة متواطئة في ذلك متواترة، ونصَّ على ذلك أئمة الإسلام المقتدى بهم مِنْ قَبْلِهِ.

 

أيها الإخوة في الله: ولئن كانت للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- هذه الوقفة الصارمة من القبور والمشاهِد؛ فلقد كان شموليَّ النظرة لأصول الإسلام وفروعه كافةً، عِلْمًا وتعليمًا وتطبيقًا، خلافًا لما يظنُّه بعضُ الناس، فلقد كان يمشي في رحاب الإسلام كله، من الحكم بما أنزل الله، وإقامة حدود الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإصلاح النفس ومحاسَبتِها، والاستقامة على أمر الله في كل شأن من شؤون الحياة، وما ذاك إلا لعِلْمه بالواقع مِنْ حولِه، وإدراكه لأحوال مُخالِفيه، فمن أجل هذا فقد فصَّل القولَ في أنواع التوحيد، وبسَط الحديث عن ألوان الشرك، ورتَّب الحديث عن رؤوس الطواغيت، ومن نماذج ذلك رسالتاه اللطيفتان: "كشف الشبهات"، و"مسائل الجاهلية".

 

أيها الإخوة في الله: ولئن كان الشيخ شموليًّا في المنهج فلقد كان شموليًّا في طبقات المدعُوِّين؛ فاهتمَّ بالعامة كما اهتمَّ بالخاصة، اهتم بالعامة من الحاضرة والبادية، كما اهتم بالعلماء والعِلْيَة من القوم، فللعامة مؤلَّفات مبسَّطة ورسائل ميسَّرة، كالأصول الثلاثة والقواعد الأربع، ممَّا لا يُعذَر مسلمٌ بجهله.

 

لم تشغله فئة عن فئة؛ فوضع لكل فئة من المجتمع ما يناسبها، وحدَّث كلَّ طبقة بما يلائمها، فاستطاع بتوفيق من الله أن يُعلِّم الجاهلَ في الحواضر والبوادي، والأرياف والقرى، يعلمهم أصول الدين ومبادئه، فاجتمع للجميع حُسْن المعتقَد مع حُسْن العمل.

 

وليس من المبالَغة أن يقال: لقد كان لدى بعض هؤلاء العامة الدارسون لهذه الرسائل الصغيرة المبارَكة، ما لم يطَّلع عليه حملةُ شهاداتٍ علميةٍ معرفةً وسلوكًا، فأثمَر منهجه وانتشر المتعلمون في القرى والأرياف والحواضر والبوادي يعلِّمون العلمَ النبويَّ المورَّث، السهل الميسَّر، البعيد عن العموميات والغموض، إنها رسائل يسمعها الأمي فيفهمها ويستوعبها، ويقرؤها طالب العلم فينتفع بها، فهل يعي هذا القائمون على شؤون الدعوة والدعاة، والقائمون على شؤون التعليم، والذين يعلمون الناسَ الخيرَ؟!

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف: 108].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، مَنِ اعتَصَم بحبله وفَّقَه وهداه، ومن اعتمد عليه حَفِظَه ووقاه، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى أصحابه والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

أيها الإخوة في الله: وثمة قضية كبرى في مسيرة الشيخ ودعوته، ذلكم أن هذه الدعوة المباركة لا تُذكَر ولا تُذكَر انتصاراتُها ومسيرتُها وإنجازاتُها إلا وتُذكَر مقرونةً بإمام محمد آخَرَ؛ إنه الإمام محمد بن سعود -رحمه الله-، فلقد تعاقَد المحمدان وتعاهَد الإمامان على نصرة الإسلام وحفظ الشريعة، وبسط الحكم، ولقد شاء الله -سبحانه وتعالى- أن يُري عبديه ثمار غرسهما، ونتاج عملهما فكان توحيد الدين، وتوحيد الكيان وبَسْط الأمن والسَّيْر على نهج السلف الصالح، فأصبحت لأهل الحق أنموذجًا شاهدًا، لقد جدَّدت هذه الدعوة العهدَ بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؛ فقامت دولة أحيَتْ ما اندَثَرَ من علوم الكتاب ومأثور السُّنَّة، وصحَّحت في العقيدة المسارَ، وخلَّصَتْها من شوائب البدع.

 

وهذا النهج في هذه الدعوة مهم -أيها الإخوة-؛ لأن الدعوة بلا سلطان، والحق بلا دولة يفقدان الرعاية والحراسة والأمن، فإن الانفصال المروِّع بين الدعوة والسلطان والدِّين والحُكْم جرَّ ويجرُّ على المسلمين الضَّعْف والفُرْقة إلى الفُرْقة، وحين يستشري هذا الضَّعْف يضطرب الأساس ويتناقض الولاء، وترتفع نعمة الالتمام وبركة الاجتماع.

 

ولْيُعلَمْ أنه لا يستقيم الحالُ إلا بحُكم يحمي جناب التوحيد، ويطبِّق الشريعة، ويرعى الدِّينَ والعلماء، فرَحِمَ اللهُ الإمامينِ وبارَك في عقبهما، ملتزمينَ نهج الإسلام، معدينَ ما استطاعوا من قوة في بر وتقوى، وصلاح وإصلاح، وزاد الله ولاة أمرنا صلاحًا وإصلاحًا وإحسانًا وتوفيقًا.

 

هذا وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله...

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي