والعري والجوع أخوانِ، بل لقد يستر الفقيرُ جوعَه عن الناس، ولكنه لا يتمكَّن من ستر ثيابه البالية، وإن الشتاء قد مدَّ رواقه، والشتاء يُرهق الكاسِب، ويفتِن الكاسدَ، فالكاسب تتضاعف عليه النفقة في الشتاء، فكيف بالكاسد المعدَم؟!...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أيها الإخوة في الله: وأنتم ترون وتسمعون ما يصيب أموال بعض الناس من كوارث تؤدي إلى تلفها، من حريق وغرق، ونهب وسلب وخسارة وإفلاس، وما يصيب الثمار من الآفات التي تقضي عليها، أو تنقصها نقصًا ظاهرًا.
فاتقوا الله -عباد الله-، وأخرِجوا الزكاة طيبة بها نفوسكم، غير متمنين بها، ولا مستكثرين لها، ولا كارهين لإخراجها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[التوبة: 103، 104].
نجد في كتاب الله أن الإيمانَ مقرونٌ بالإنفاق في سبيل الله؛ مما يوحي بأهمية الإنفاق وعظيم أجر المنفقين، وأوضح -سبحانه وتعالى- أن صاحب المال ما هو إلا مستخلف فيما بين يديه (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ)[الحديد: 7].
ومَنْ مِنَ الناس لا تستشرف نفسُه لهذا الأجر الكبير؟
أيها الإخوة في الله: إنه -مع قرب دخول موسم الشتاء-؛ فإن حاجة الفقراء والمساكين والمحتاجين والضعفاء تزداد وتتضاعف، وإن البحث عن هؤلاء المحتاجين لإعطائهم ما يحتاجون من أفضل الأعمال عند الله.
فكم عارٍ لا يجد كساء، وكم من جائع لا يجد طعامًا، وكم من مريض لا يجد دواء، فعلينا أن نبحث عنهم، وأن نمد يد العون والمساعَدة لهم، وأن نخفِّف عنهم ما هم فيه، ويمكن ذلك عن طريق الجمعيات الموثوقة التي تتحرَّى وتبحث عن المحتاجين، وتفتح لهم ملفات، وتُجري لتلك الأسر معونات شهرية، تقيهم ذلَّ سؤال الناس.
وإن مما ينبغي التنبيه إليه -أيها الإخوة- مساعَدة إخواننا المسلمين المجاهِدين في شتى أصقاع الأرض، في كشمير والبوسنة والهرسك وفي الفلبين، وفي غيرها من البلاد، لا سيما أن الحاجة في مثل هذه الأوقات ملِحَّة، فقد اجتمعت فيهم أوصاف عدة، فهم مجاهدون وفقراء ومحتاجون، فيهم الأيتام والأرامل، وفيهم الأطفال والشيوخ، وفيهم المرضى والمقعَدون من جرَّاء الحروب.
فاتقوا الله -عباد الله-، فإن الإسلام قول يؤيده العمل، وابتغُوا ما عند الله من الأجر، ورفيع الدرجات بالإحسان إلى خلقه، فرب صدقة تقبلها الله فكانت سببًا في عفو الله وبلوغ رضوانه، جعلنا الله هداة مهتدين، إذا قالوا فعلوا، وإذا سمعوا استجابوا، أنه ولي ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، مَنِ اعتَصَم بحبله وفَّقَه وهداه، ومن اعتمد عليه حَفِظَه ووقاه، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى أصحابه والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الإخوة: بذلُ المنفقين، وإحسانُ المحسنين وسيلة من وسائل الرضوان لرب العالَمين، وعامِل لتحقيق وَعْد الرب الكريم، بالخلف على المنفقين، ومحبته للمحسنين، قال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 39]، وقال تعالى: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[البقرة: 195].
ولقد ذكر الله المتقين في القرآن العظيم بكريم صفاتهم، وجليل أفعالهم، وأوضح عظيم جزائهم، فقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ)[الذاريات: 15-16].
والعري والجوع أخوانِ، بل لقد يستر الفقيرُ جوعَه عن الناس، ولكنه لا يتمكَّن من ستر ثيابه البالية، وإن الشتاء قد مدَّ رواقه، والشتاء يُرهق الكاسِب، ويفتِن الكاسدَ، فالكاسب تتضاعف عليه النفقة في الشتاء، فكيف بالكاسد المعدَم؟! وكم من المعدَمين في ثياب المتعفِّفين.
فهذه أرملة تضم أيتامًا لا عائل لهم، ولا تستطيع الكسب فتنفق عليهم، وهذا شيخ كبير قد وهَن منه العظمُ، ليس لديه مال يستعين به في هرمه، ولا يستطيع حرفةً تدرُّ عليه ما يسد حاجتَه.
وهذا مريض أقعده عن الكسب مرضه، وهذا صاحب مورد قليل، لا يقوم مرتبه بسد نفقاته ونفقات من يعول من زوجة وأولاد، كل أولئك ومن على شاكلتهم في حاجة إلى التخفيف من متاعبهم، ومد يد العون إليهم على الدوام، وفي فصل الشتاء خاصة.
وهذه دعوة لإنفاق لا يرهقك ولا يثقل عليك، إنها دعوة لإحضار ما لديك من ملابس وثياب، وبطانيات وفُرُش، وأكوات ومشالح، من قديمِ ما لديكَ، ممَّا قد رغبتَ عن لُبسِه، وملأت به الأدراج والأرفف، يستفيد منه الفقير، ويلبسه العاري، ويسد حاجة أخيك المحتاج.
ولتعلموا أن الإنفاق في سبيل الله له مجالات واسعة، ودروب متعددة، ومسالك كثيرة، يأتي في مقدمتها: إعانة المجاهدين في سبيل الله، وكفالة الأيتام والأرامل، وإعانة المنكوبين والمشردين، وبذل المال للفقراء والمساكين، وسد حاجة المحتاجين، ومساعدة راغبي الزواج من المعسرين، والإنفاق على الأبوين والزوجات، والأولاد والبنات.
ويدخل في ذلك: عمارة بيوت الله وصيانتها، استكمال الناقص وإصلاح المتعطل، وتهيئة الجو المناسب لمرتاديها.
ويدخل في ذلك: المساهمة ودعم حلق تحفيظ القرآن الكريم؛ تشجيعًا للمعلمين، كي ينهضوا ويقوموا بهذه الرسالة خير قيام، وتشجيعًا للمتعلمين كي يجتهدوا في الطلب، فيتعلموا ويحفظوا.
وفَّق اللهُ الجميعَ لما يحبُّ ويرضى.
بارك الله لي ولكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي