وقد يكونُ المُدعي صاحبَ ذكاءٍ وجِدالٍ، أو قد يكونُ أتى بالمُحامينَ الأبطالِ، فكسَبَ القضيةَ بَغيًّا وعُدوانًا، وأَخذَ حقَّ أخيه ظُلمًا وطُغيانًا، فخرجَ المُدَّعى عليهِ مَظلومًا مَقهورًا، وخرجَ المُدعي ظَالمًا مَغرورًا. لكن هل انتهتْ القضيةُ حَقًَّّا، وقد ظُلِمَ فيها خَلْقٌ؟، والجوابُ: لا، وألفُ لا. أما في الدُّنيا...
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70- 71].
أَمَّا بَعْدُ: انتهتْ الجلسةُ، وحَكمَ القاضي، وصدرَ صَكُّ الحُكمِ، وخرجَ أطرافُ القضيةِ من المحكمةِ، وانصرفَ الشُّهودُ، وأُغلقَ ملفُ القضيةِ.
أما القاضي فقد حكمَ بما ظهرَ إليه، وأدَّى ما أوجبَ اللهُ عليهِ، فَقَدْ سَمِعَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ، فَخَرَجَ عليهم فَقالَ: "إنَّما أنَا بَشَرٌ، وإنَّه يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أنْ يَكونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ أقْضِي له بذلكَ، وأَحْسِبُ أنَّه صَادِقٌ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا"، وأما تفاصيلُ القضيةِ الخفيَّةِ، فاللهُ تعالى وحدَه أعلمُ بها.
ولقد صدرَ الحكمُ على ما كانَ في القضيةِ من قرينةٍ ودليلٍ، وعلى ما فيها من شُهودٍ وتفصيلَ، وقد يكونُ المُدعي صاحبَ ذكاءٍ وجِدالٍ، أو قد يكونُ أتى بالمُحامينَ الأبطالِ، فكسَبَ القضيةَ بَغيًّا وعُدوانًا، وأَخذَ حقَّ أخيه ظُلمًا وطُغيانًا، فخرجَ المُدَّعى عليهِ مَظلومًا مَقهورًا، وخرجَ المُدعي ظَالمًا مَغرورًا.
لكن هل انتهتْ القضيةُ حَقًَّّا، وقد ظُلِمَ فيها خَلْقٌ؟، والجوابُ: لا، وألفُ لا. أما في الدُّنيا، فقد جاءَ في الحديثِ: "وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ".
وصدقَ القائلُ:
لا تظلِمنَّ إذا ما كنتَ مُقتدرًا *** فالظلمُ ترجِعُ عُقباهُ إلى النَّدَمِ
تنامُ عَينُكَ والمظلومُ مُنتبِهٌ *** يدعُو عليكَ وعينُ اللهِ لم تنَمِ
كانَ يزيدُ بنُ حكيمٍ يقولُ: "ما هبتُ أحدًا قط هيبتي رجلاً ظلمتُه وأنا أعلمُ أنه لا ناصرَ له إلا اللهُ، يقولُ لي: حسبي اللهُ، اللهُ بيني وبينكَ"، لا إلهَ إلا اللهِ، واللهِ إنَّها لكلمةٌ تقشَّعرُ منها الأبدانُ.
واسمعوا إلى هذهِ القِصَّةِ العجيبةِ، ذكرَ الهيتَميُّ في كتابِه الزواجرُ عن اقترافِ الكبائرِ: "قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ رَجُلاً مَقْطُوعَ الْيَدِ مِنَ الْكَتِفِ وَهُوَ يُنَادِي: مَنْ رَآنِي فَلَا يَظْلِمَنَّ أَحَدًا، فَتَقَدَّمْت إلَيْهِ وَقُلْت لَهُ: يَا أَخِي مَا قِصَّتُك؟، فَقَالَ: يَا أَخِي قِصَّتِي عَجِيبَةٌ، وذكرَ لهُ قصتَه وهي أنَّهُ أخذَ سمكةً من مِسكينٍ كانتْ هي قوتُ عيالِه قَهرًا، فلما رجعَ إلى بيتِهِ ضَرَبتْ عليهِ إبهامُه وآلمتْه ألمًا شديدًا.
فأتى الطبيبَ فقالَ له: هذه بدايةُ أَكَلةٍ، اقطعها وإلا تَلفتْ يدُكَ كلُها، ثُمَّ انتشرَ الألمُ إلى الكفِ فقطَعها، ثمَّ انتشرَ إلى السَّاعدِ فقطَعها من المرفقِ، ثمَّ انتشرَ إلى العضدِ فقطعَها من الكتفِ، فَقَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ: مَا سَبَبُ أَلَمِكَ فَذَكَرْتُ لَهُ قِصَّةَ السَّمَكَةِ، فَقَالَ لِي: لَوْ كُنْتَ رَجَعْتَ مِنْ أَوَّلِ مَا أَصَابَك الْأَلَمُ إلَى صَاحِبِ السَّمَكَةِ فَاسْتَحْلَلْتَ مِنْهُ وَاسْتَرْضَيْتَه وَلَا قَطَعْتَ يَدَك، فَاذْهَبْ إلَيْهِ وَاطْلُبْ رِضَاهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْأَلَمُ إلَى بَدَنِك.
قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَطْلُبُهُ فِي الْبَلَدِ حَتَّى وَجَدْتُه فَوَقَعْتُ عَلَى رِجْلَيْهِ أُقَبِّلُهُمَا وَأَبْكِي، وَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي سَأَلْتُك بِاَللَّهِ إلَّا مَا عَفَوْتَ عَنِّي، فَقَالَ لِي: وَمَنْ أَنْتَ؟، فَقُلْت أَنَا الَّذِي أَخَذْتُ مِنْك السَّمَكَةَ غَصْبًا، وَذَكَرْتُ لَهُ مَا جَرَى وَأَرَيْتَه يَدِي فَبَكَى حِينَ رَآهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا أَخِي قَدْ حَالَلْتُكَ مِنْهَا لِمَا قَدْ رَأَيْتُ بِك مِنْ هَذَا الْبَلَاءِ، فَقُلْتُ لَهُ: بِاَللَّهِ يَا سَيِّدِي هَلْ كُنْتَ دَعَوْتَ عَلَيَّ لَمَّا أَخَذْتُهَا مِنْك؟، قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: اللَّهُمَّ هَذَا تَقَوَّى عَلَيَّ بِقُوَّتِهِ عَلَى ضَعْفِي وَأَخَذَ مِنِّي مَا رَزَقْتَنِي ظُلْمًا، فَأَرِنِي فِيهِ قُدْرَتَك، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَيِّدِي قَدْ أَرَاك اللَّهُ قُدْرَتَهُ فِي، وَأَنَا تَائِبٌ إلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ"، فسبحانَ الذي لا يغفلُ عن الظَّالمينَ.
وذكرَ ابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنهايةِ أنَّ يحيى بنَ خالدٍ البرمكيَّ -أَحدَ وزراءِ بني العَباسِ-، قَالَ له أَحدُ بَنيهِ -وهما في السجنِ والقيودِ-: يا أبتَ، بعدَ الأمرِ والنَّهي والنعمةِ، صِرنا إلى هذا الحالِ؟، فقَالَ: "يا بُنيَّ، دَعوةُ مَظلومٍ سَرتْ بليلٍ ونحنُ عنها غَافلونَ، ولم يَغفل اللهُ عَنها، ثمَّ أَنشأَ يَقولُ:
ربَّ قومٍ قد غدوا في نعمةٍ *** زَمنًا والدَّهرُ ريَّانٌ غَدِقْ
سَكتَ الدَّهرُ زَمانًا عَنهمُ *** ثُمَّ أَبكاهُم دَمًا حِينَ نَطَقْ
أقولُ ما تَسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ، إنَّه هو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلينَ وعلى آلهِ وأصحابهِ والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، أما بعد:
وأما يومَ القيامةِ، فرَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَمَ- شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ لأَبِى ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِى فِيمَ تَنْتَطِحَانِ؟"، قَالَ: لاَ، قَالَ: "لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا يومَ القيامةِ"، فإذا كانَ هذا القضاءُ في البهائمِ والدَّوابِ، فكيفَ بالعبادِ أصحابِ العقولِ والألبابِ؟!
ففي ذلكَ اليوم، هناكَ جلسةُ استئنافٍ لبعضِ القَضايا، سَتُفتحُ فيها الملفاتُ والخَفايا، في محكمةِ العدلِ التي لا ظُلمَ فيها: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء:47]، وسيؤتى فيها بصحيفةِ الدَّعوى الحقيقيةِ، التي لا كذبَ فيها ولا تزويرَ، وتُعطى للمدَّعي ليقرأَها على رؤوس الأشهادِ: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)[الإسراء:13- 14]، والشُّهودُ يومئذٍ هم أعضاءُه الذينَ لم يفارقوه طرفةَ عينٍ: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النور: 24]، وهناكَ سيصدرُ الحكمُ العادلُ النِّهائيُّ في القضيةِ.
أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ الظُّلْمَ لُؤْمٌ *** وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي *** وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
سَتَعْلَمُ فِي الْحِسَابِ إِذَا الْتَقَيْنَا *** غَدًا عِنْدَ الإِلَهِ مَنِ الْمَلُومُ
واسمعوا للشَّفيقِ بأمتِّه -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- وهو يقولُ لكم: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لأَخِيه، مِنْ عِرضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قبْلَ أنْ لاَ يَكُونَ دِينَار وَلاَ دِرْهَمٌ؛ إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلمَتِهِ، وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيهِ"، فالخلاصَ اليومَ من المَظلماتِ، قبلَ أن تذهبَ غَدًَّا الحسناتُ.
اللهمَّ إنَّا نعوذُ بكَ من الظُّلمِ، اللهمَّ لا تجعلنا مع القومِ الظَّالمينَ، اللهمَّ ارفع الظُّلمَ عن المظلومينَ، اللهمَّ انصر كُلَّ مَظلومٍ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ أصلحْ أحوالَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، اللهمَّ اجمع قلوبَهم على الكتابِ والسنةِ يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ انشر الأمنَ والاستقرارَ في بُلدانِ المسلمينَ، اللهمَّ طَهرْ قلوبَنا من النفاقِ، وأعمالَنا من الرياءِ، وألسنتَنا من الكذبِ، واعصمنا من الظلمِ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ من أرادَ بلادَنا وبلادَ المسلمينَ بسوءٍ، فأشغله بنفسِه، واجعل كيدَه في نحرِه.
اللهم احفظ جنودَنا المرابطينَ على الحدودِ، سددْ أقوالهَم وأعمالَهم، وبارك في جهودِهم يا حيُّ يا قيومُ، اللهمَّ وفق ولاةَ أمرِنا، وسدد أقوالَهم وأعمالَهم، ولا تكلهم إلى أنفسِهم ولا إلى أحدٍ من خلقِك طَرفةَ عَينٍ يا ربَّ العالمينَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي