إن من الموجات التغريبية على المرأة المسلمة ما يَهدف لنزع حجابها، وكشفِ مفاتنها عند غير محارمها، وهذه الموجات التغريبية تزخرِفُ لهذا الأمر، عن طريق نقل الخلافيات، وتضخيم الأقوال الشاذة، وتحسين صورة التبرج وتقديم رائداته على أنهن القدوات...
الخطبة الأولى:
عباد الله: مِن أعظمِ مقاصد هذا الدين إقامةُ مجتمعٍ طاهر، الخُلقُ سياجُه، والعِفّةُ طابَعُه، والحِشمةُ شِعارُه، والوقارُ دثاره، مجتمعٌ لا تُهاج فيه الشهوات، ولا تُثَار فيه عوامل الفتنة، تضيق فيه فُرَصُ الغِواية، وتُقطَع فيه أسبابُ التهييج والإثارة.
ولقد خُصَّتِ المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة، ووصايا جليلة, فعِفَّةُ المؤمنةِ نابعةٌ مِن دينها، ظاهرةٌ في حيائها وسلوكها، وفي لباسها وحجابها.
وكان مما أمرَ الله به النساءَ المؤمناتِ التحلّي بالحجاب وتغطيةِ الوجه؛ ليتحقق لهنَّ الستر والاحتشام، ولقد كان أمرُ تغطية المرأةِ وجهَها حُكماً فقهياً واضحاً, وأمراً في الأذهان مستقراً, بيد أننا في السُنَيّات القريبة, ومع انفتاح المجال لكل ما يُطرَحُ ولو ما شذّ من الأقوال, اهتزّت هذه المُسلَّمة, تحت تقصير بعض النساء في حجابها, وتعالم فئامٍ يتكلمون بالهوى لا بعلم العلماء.
وليس بنا اليوم أن نحيط حديثاً بهذه القضية, إنما هو إشارةٌ لهذه القضية وأدلتها, التي صرتَ ترى الإخلال بها ظاهراً لدى البعض, ومرورٌ يسيرٌ ببعضِ الطرقات والمحلات يُجَلِّي لك ذلك.
عباد الله: أحكامُ الحجابِ في كتاب الله، وفي سُنَّةِ رسوله -صلى الله عليه وسلم- صريحةٌ في دعوتها، واضحةٌ في دلالتها، ليستْ مقصورةً على عصرٍ دون عصر، ولا مخصوصةً بفئة دون فئة.
قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الأحزاب:59]، تقول أم سلمة وعائشة -رضي الله عنهما-: "لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية".
والجلبابُ: كلُ ساترٍ مِن أعلى الرأس إلى أسفل القدم، من مُلاءَةٍ وعَباءةٍ، وكلِ ما تلتحف به المرأة فوق درعها وخمارها, وإدناء الجلباب يعني: سدله وإرخاؤه على جميع بدنها، بما في ذلك وجهَهَا.
قال ابن عباس: "أمر اللهُ نساءَ المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة".
قال ابن تيمية: "أمر -سبحانه- النساءَ بإرخاءِ الجلابيبِ لئلا يُعرفن ولا يُؤْذَين، وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره أن نساء المؤمنين كنَّ يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلا عيونهن لأجل رؤية الطريق، وثبت في الصحيح أن المرأة المُحْرِمَة تُنْهَى عن الانتقاب والقفازين، وهذا مما يدلُّ على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يُحْرِمن، وذلك يقتضي سترَ وجوههن وأيديهن"(مجموع الفتاوى: 15/371).
وماذا تفهم المرأةُ من قوله -تعالى-: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)[النور:31]، إلا أنها تستر وجهها, قالت عائشة -رضي الله عنها-: "يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) شققن مروطهن فاختمرن بها-أي غطين وجوههن"(رواه البخاري).
وقد ذكر الله في الآية زينتان؛ إحداهما لا يمكن إخفاؤها (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور:31]، وهي الثياب التي يتسترن بها؛ إذ كيف تخفيها عن الأنظار. وأما الزينةُ الثانيةُ في الآية فزينةٌ باطنةٌ, كالحُلِيّ والقِلادةِ, فيباح إظهارها لمن ذكرتهم الآية: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ)[النور:31].
وتأمل قوله -تعالى- في نفس الآية: (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) [النور:31]؛ وهو ما يُتحلى به في الأرجل من خلخال وغيره، فإذا كان صوتُ الخلخال بريداً إلى الفتنة، فكيف بالوجه الذي فيه الجمال والنضارة؟!
عباد الله: وإذا خطب الخاطبُ أُبيحَ له النظرُ لوجه المخطوبة, وهذا يدل على أنه قبل ذلك لا يقدر على رؤيتها ولا يجوز له, قال الصحابي: فجعلتُ أتخبَّأ لها -أي لمن خطبها- يريد أن يرى وجهها، ولو كانت هذه المرأةُ المقصودةُ للخطبةِ كاشفةً الوجه بحضرة الرجالِ الأجانب لما احتاج أن يتخبَّأ لينظر إليها.
وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة"؛ قالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ -أي: الأطراف السفلى من الجلباب والرداء- قال: "يرخين شبراً"، قالت: إذن تنكشف أقدامهن, قال: "فيرخينه ذراعاً، ولا يزدن عليه". فإذا كان هذا في القدم فالوجه أكثر فتنة، والحكمة والعقل تأبيان سترَ ما هو أقلَّ فتنة، والترخّصَ في كشف ما هو أعظم فتنة.
وقالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُحْرِمَات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه"(رواه أبو داود)، ولو كان كشف الوجه جائزاً لما احتجن لتغطيته وهن مُحْرِمَات.
وفي قصة الإفك تقول عائشة -رضي الله عنها-: "فخمّرتُ وجهي عن صفوان, وكان يعرفني قبل ينزل الحجاب"، وهذا يعني أنه رآها فجأة ثم بادرت إلى تغطية وجهها.
والنصوص الدالة على وجوب تغطية المرأة وجهها أكثر من هذا, لكنّ مَن له عقلٌ يردعه وفهمٌ يدلّه وقلبٌ للخير يرشده, يكفيه واحد منها.
اللهم ارزقنا ونساءنا العفة والطهر، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية:
إن من الموجات التغريبية على المرأة المسلمة ما يَهدف لنزع حجابها، وكشفِ مفاتنها عند غير محارمها، وهذه الموجات التغريبية تزخرِفُ لهذا الأمر، عن طريق نقل الخلافيات، وتضخيم الأقوال الشاذة، وتحسين صورة التبرج وتقديم رائداته على أنهن القدوات, وها هنا أقول:
أولاً: الادعاءُ بأن القول بعدم وجوبِ تغطية الوجه هو رأي الفقهاء الثلاثة ورواية عن أحمد غير صحيح علميّاً, وقد كان هذا يردده دعاة السفور أيام قاسم أمين وغيره, والحقُّ عكسُ ذلك تماماً، بل رأيُ الجماهير هو وجوب تغطية الوجه، وأما القول بالجواز فهو الرأي الشاذ تاريخياً عبر العصور، ولم تَقبل به المجتمعاتُ المسلمة إلا بعد دخول الاستعمار, ويكفيك أن تُطالع أي صورة صورت في القرن الماضي في بلدان العالم الإسلامي سترى فيها كيف تظهر المرأةُ محتشمةً مغطية وجهها وبدنها.
ولم تصح نسبةُ القول بجواز كشف وجه المرأة أمام الرجال الأجانب لأحدٍ من الأئمة الأربعة المتبوعين، وإنما وُجِدَ ذلك من بعض أتباعهم، والصحيح من أقوال محرري المذاهب أن على المرأة أن تستر وجهها.
فمن الشافعية قال الجُوَيْنيُّ: "اتَّفق المسلمونَ على منعِ النِّساءِ مِن الخروجِ سافراتِ الوجوهِ؛ لأنَّ النَّظَرَ مَظِنَّةُ الفِتنةِ".
وقال الغزالي: "لم يَزَلِ الرجالُ على مَمَرِّ الزمانِ مَكْشُوفي الوجوهِ، والنساءُ يَخْرُجْنَ مُنتَقِبَاتٍ".
وقال ابنُ حجَرٍ الهَيْتَمِيُّ: "ومَن تَحقَّقَتْ نظَرَ أجنبيٍّ لها، يلزَمُها سَتْرُ وجهِها عنه؛ وإلَّا كانَتْ مُعِينةً له على حرامٍ فتأثَمُ".
ومن الحنفية قال ابن عابدين: "المرأة منهية عن إظهار وجهها للأجانب بلا ضرورة، ومحل الاستحباب عند عدم الأجانب، وأما عند وجودهم فالإرخاء واجب عليها".
ومن المالكية قال ابن العربي: "والمرأة كلها عورة: بدنها، وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة، أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يَعِنّ ويعرض عندها".
وأما الحنابلة فذهبوا إلى أبعد من هذا, قال الإمام أحمد: "وظُفْرُ المرأةِ عورةٌ، وإذا خرجَتْ فلا يَبِينُ منها لا يَدُها ولا ظُفْرُها ولا خُفُّها؛ فإنَّ الخُفَّ يَصِفُ القَدَمَ".
وثانياً: يفرِّقُ الفقهاءُ بينَ العورةِ في الصلاة والعورة في النظر, فتجد الفقهاء يقررون أن كل المرأة عورة إلا وجهها.. وهم إنما يقصدون عورتها في الصلاة, فيخطئ البعض حين يظن ذلك الحكمَ في النظرِ أيضاً, وأن عورتها خارج الصلاة كعورتها في الصلاة, ونبّه ابن تيمية إلى هذا الخطأ وأنه لا تلازم, فقال: "وليستِ العورةُ في الصلاةِ مرتبطةً بعورةِ النظرِ".
وقال ابن القيم: "العورة عورتان؛ عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحُرّة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك".
وثالثاً: هذه الأحكام ليست خاصة بزوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-, بل لهن ولنساء المؤمنين, وإذا أُمرت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أمهات المؤمنين فغيرهنّ من باب الأولى, وإذا لم يكن تأسي نساء المؤمنين بأمهات المؤمنين فبمن يكون تأسيهن؟!
ورابعاً: كلُّ الفقهاء الذين قالوا بجواز كشف وجه المرأة يشترطون عدم وجود الفتنة فإذا وُجِدت الفتنة فجميع الفقهاء يتفقون على وجوب تغطية الوجه.
وبعد: فهذه إلماحةٌ حول موضوع بدأتَ ترى التساهل فيه من قِبَل بعض النساء, والخطابُ هنا موجَّه بالدرجة الأولى للأولياءِ أهلِ القوامة, المسؤولين عمن تحت أيديهم من بناتٍ وزوجات, فالمرأة حين تكشف وجهها أمام الرجال الأجانب وفي الأماكن العامة هي لا تخالف نظاماً, ولكنها تخالف حكماً شرعيّاً، وترتكب ذنباً تضافرت عليه الأدلة, وليعلم الولي أن الذرية أمانةٌ في العنق, واجب عليه أمرهم بالحجاب وأطْرهم على الستر, فإن قصّر وفرط فهو شريك في الإثم, وفي الصحيح "ما من عبدٍ يسترعيه يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة".
اللهم أصلح نساء المسلمين، وجملهن بالستر والحياء.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي