معوقات الزواج: العنوسة -2

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. أسباب ظهور العنوسة .
  2. مخاطر تأخر سن الزواج والعزوف عنه .
  3. العلاج الإسلامي للعنوسة. .

اقتباس

وَمَا بُيُوتُ الدَّعَارَةِ الْمَفْتُوحَةُ فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ، وَمَا حَالَاتُ الزِّنَا الَّتِي تُضْبَطُ كُلَّ يَوْمٍ، وَمَا ظُهُورُ اللِّوَاطِ وَالِاغْتِصَابِ وَفَتَيَاتِ اللَّيْلِ، وَمَا الْفُسُوقُ وَالْفُجُورُ وَالْخَنَا الَّذِي نَرَى، مَا كَلُّ ذَلِكَ إِلَّا نَتِيجَةً مُبَاشِرَةً لِلْعُنُوسَةِ وَتَعَسُّرِ الزَّوَاجِ وَتَأَخُّرِهِ حِينَ يُصَاحِبُهُ الْجَهْلُ بِالدِّينِ وَضَعْفُ الْإِيمَانِ!...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ جَعَلَ الْمَرْأَةَ سَكَنًا لِلرَّجُلِ، وَالرَّجُلَ سَكَنًا لِلْمَرْأَةِ؛ فَلَا يَجِدُ أَحَدُهُمَا الطُّمَأْنِينَةَ وَالرَّاحَةَ وَالسَّعَادَةَ إِلَّا مَعَ الْآخَرِ، فَهِيَ فِطْرَةٌ فِي قَلْبَيْهِمَا أَنْ يَمِيلَ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَى الْآخَرِ، فَإِذَا حُرِمَ أَحَدُهُمَا مِنَ الِاسْتِكَانَةِ إِلَى الثَّانِي فَقَدْ حُرِمَ مِنْ رَاحَةِ نَفْسِهِ، وَمِنْ قُرَّةِ عَيْنِهِ، وَمِنْ طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ، وَهَذَا بَعْضُ مَا يُعَانِي أَوْ تُعَانِي مِنْهُ مَنْ حُرِمَتْ مِنْ شَرِيكِهَا وَنِصْفِهَا الْآخَرِ، فَلَمْ يَطْرُقْ بَابَهَا الزَّوْجُ الصَّالِحُ، أَوْ طَرَقَهُ وَرَدَّهُ الْوَلِيُّ حَتَّى أَصْبَحَتْ: "عَانِسًا".

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِظَاهِرَةِ الْعُنُوسَةِ أَسْبَابًا لَا بُدَّ أَنْ نَعْرِفَهَا لِنَتَجَنَّبَهَا وَنَلْفِظَهَا، وَمِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ:

تَعْقِيدُ أَمْرِ التَّزْوِيجِ؛ فَيَشْتَرِطُ أَهْلُ الْفَتَاةِ عَلَى الْخَاطِبِ شُرُوطًا مُتَعَنِّتَةً؛ كَأَنْ يَسْكُنَ فِي بَلَدِهِمْ وَيَدَعَ بَلَدَهُ، أَوْ أَنْ يَكْتُبَ لَهَا مِنْ أَمْلَاكِهِ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ بِزَعْمِ "تَأْمِينِ مُسْتَقْبَلِهَا"، أَوْ أَلَّا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا أُخْرَى أَبَدًا، أَوْ أَنْ يُعْطِيَهَا حَقَّ تَطْلِيقِ نَفْسِهَا وَقْتَمَا أَرَادَتْ، وَكَأَنْ يَشْتَرِطُوا فِي الْخَاطِبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُسْتَوًى تَعْلِيمِيٍّ أَوِ اجْتِمَاعِيٍّ مُعَيَّنٍ، أَوْ أَنْ يَكُونَ بِوَظِيفَةٍ مَرْمُوقَةٍ مُعَيَّنَةٍ... فَكُلُّ هَذَا مِنَ التَّعَنُّتِ الَّذِي لَا مُسَوِّغَ لَهُ!

 

وَمِنَ الْأَسْبَابِ الرَّئِيسَةِ لِلْعُنُوسَةِ: الْمُغَالَاةُ فِي الْمُهُورِ؛ وَلَعَلَّ هَذَا أَخْطَرَ أَسْبَابِ الْعُنُوسَةِ وَأَكْثَرَهَا انْتِشَارًا، فَيُبَالِغُونَ فِي مُتَطَلَّبَاتِ الزَّوَاجِ حَتَّى يَعْجِزَ الْخَاطِبُ عَنْ تَلْبِيَتِهَا، فَيُعْرِضُ عَنِ الزَّوَاجِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ نَصَحَنَا الْفَارُوقُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِعَكْسِ ذَلِكَ، فَعَنْ أَبِي الْعَجْفَاءِ السُّلَمِيِّ قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: "أَلَا لَا تُغْلُوا صُدُقَ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا، وَتَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ، كَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، مَا زَوَّجَ أَحَدًا مِنْ بَنَاتِهِ وَلَا تَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)، فَالْمُغَالَاةُ فِي الْمُهُورِ خِلَافُ هَدْيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

 

وَمِنْهَا: رَفْضُ ذِي الدِّينِ وَالْخُلُقِ لِفَقْرِهِ؛ مَعَ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَمَرَ قَائِلًا: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[النُّورِ: 32]، وَكَمْ مِنْ فَقِيرٍ زَوَّجُوهُ فَفَتَحَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ مِنْ فَضْلِهِ وَأَغْنَاهُ.

 

وَهُوَ كَذَلِكَ عِصْيَانٌ لِمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ: "إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)؛ فَلَمْ يَقُلْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ تَرْضَوْنَ غِنَاهُ أَوْ رَاتِبَهُ أَوْ وَظِيفَتَهُ أَوْ ثَرْوَتَهُ!

 

وَمِنْهَا: تَقْدِيمُ تَرَقِّي الْفَتَاةِ فِي مَرَاحِلِ التَّعْلِيمِ وَإِتْمَامِ دِرَاسَتِهَا عَلَى زَوَاجِهَا؛ وَلَا نَدْرِي مَتَى وُجِدَ التَّعَارُضُ بَيْنَ التَّعَلُّمِ وَبَيْنَ الزَّوَاجِ؟! لَكِنَّهَا لَوْثَةُ الْغَرْبِ وَالشَّرْقِ، وَاتِّبَاعِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ خَطَأً! وَصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)!

 

إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ جَعَلَ التَّعَلُّمَ فَرِيضَةً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، فَقَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)، وَمَا مِنْ تَعَارُضٍ بَيْنَ التَّعَلُّمِ وَالزَّوَاجِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الزَّوَاجُ عَوْنًا عَلَيْهِ، وَإِنْ تَعَارَضَا -جَدَلًا- فَإِنَّ الْعَاقِلَ يُقَدِّمُ الزَّوَاجَ عَلَى الدِّرَاسَةِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ عِفَّةٍ وَصِيَانَةٍ.

 

وَمِنْهَا: تَبَرُّجُ الْمَرْأَةِ وَسُفُورُهَا وَ"تَحَرُّرُهَا" بِالْمَعْنَى الْغَرْبِيِّ؛ فَمَنْ يَرَاهَا مِنَ الرِّجَالِ يَرْغَبُ بِهَا خَلِيلَةً وَعَشِيقَةً، وَلَيْسَ زَوْجَةً أَبَدِيَّةً وَلَا أُمًّا لِأَوْلَادِهِ؛ فَلِمَ يَتَعَنَّى وَيَتَحَمَّلُ نَفَقَاتِ الزَّوَاجِ وَتَبِعَاتِهِ وَهِيَ مُتَاحَةٌ لَهُ بِلَا زَوَاجٍ؟! فَسُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي مَا حَرَّمَ شَيْئًا إِلَّا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ؛ فَقَدْ حَرَّمَ -عَزَّ وَجَلَّ- التَّبَرُّجَ قَائِلًا: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)[الْأَحْزَابِ: 33]، وَسُبْحَانَ مَنْ أَمَرَ الْمَرْأَةَ بِالصِّيَانَةِ وَالتَّسَتُّرِ فَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ)[الْأَحْزَابِ: 59]، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِصَالِحِهِنَّ قَبْلَ غَيْرِهِنَّ.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَا تَقْتَصِرُ مَخَاطِرُ تَأَخُّرِ سِنِّ الزَّوَاجِ عَلَى الْتِصَاقِ لَفْظِ "عَانِسٍ" بِمَنْ فَاتَهَا قِطَارُ الزَّوَاجِ، بَلْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ وَيَتَخَطَّاهُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:

شُيُوعُ الْفَوَاحِشِ وَالْفُجُورِ؛ فَإِنَّ فِي الْإِنْسَانِ شَهْوَةً قَدْ رُكِّبَتْ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهَا فِي الْحَلَالِ إِشْبَاعًا تَعَدَّى ضَعِيفُ الْإِيمَانِ إِلَى إِشْبَاعِهَا فِي الْحَرَامِ، وَهَذِهِ وُجْهَةُ نَظَرِ الْفَارُوقِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الَّتِي نَقَلَهَا طَاوُوسٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ الَّذِي يَحْكِي قَائِلًا: قَالَ لِي طَاوُسٌ: لَتَنْكِحَنَّ أَوْ لَأَقُولَنَّ لَكَ مَا قَالَ عُمَرُ لِأَبِي الزَّوَائِدِ؛ "مَا يَمْنَعُكَ عَنِ النِّكَاحِ إِلَّا عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ"(سُنَنُ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ)، فَكَأَنَّ الْحِرْمَانَ مِنَ الْحَلَالِ يَدْفَعُ إِلَى الْحَرَامِ لَا مَحَالَةَ.

 

وَمَا بُيُوتُ الدَّعَارَةِ الْمَفْتُوحَةُ فِي بَعْضِ الْأَقْطَارِ، وَمَا حَالَاتُ الزِّنَا الَّتِي تُضْبَطُ كُلَّ يَوْمٍ، وَمَا ظُهُورُ اللِّوَاطِ وَالِاغْتِصَابِ وَفَتَيَاتِ اللَّيْلِ، وَمَا الْفُسُوقُ وَالْفُجُورُ وَالْخَنَا الَّذِي نَرَى، مَا كَلُّ ذَلِكَ إِلَّا نَتِيجَةً مُبَاشِرَةً لِلْعُنُوسَةِ وَتَعَسُّرِ الزَّوَاجِ وَتَأَخُّرِهِ حِينَ يُصَاحِبُهُ الْجَهْلُ بِالدِّينِ وَضَعْفُ الْإِيمَانِ!

 

وَمِنْهَا: عَدَمُ قُدْرَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى الْإِنْجَابِ لِتَقَدُّمِ سِنِّهَا، وَزِيَادَةِ مَخَاطِرِ وِلَادَتِهَا؛ فَإِنَّهَا إِنْ تَزَوَّجَتْ فِي سِنٍّ كَبِيرَةٍ، حَمَلَتْ وَأَنْجَبَتْ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ أَوْ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأَطِبَّاءُ لِلْإِنْجَابِ فِي تِلْكَ السِّنِّ الْمُتَأَخِّرَةِ مَخَاطِرَ وَآفَاتٍ صِحِّيَّةً عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ، ثُمَّ هِيَ إِنْ نَجَتْ مِنَ الْوِلَادَةِ رُبَّمَا لَمْ تَعُدْ قَادِرَةً عَلَى السَّهَرِ وَحُسْنِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ.

 

وَمِنْهَا: الْآلَامُ وَالْأَمْرَاضُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي تُصِيبُ الْفَتَاةَ الْعَانِسَ؛ وَكَمْ سَمِعْنَا مِنْ زَفَرَاتٍ وَشَكَاوَى وَتَأَوُّهَاتٍ حَارَّةً، تَخْرُجُ مِنْ جَوْفِ هَؤُلَاءِ الْفَتَيَاتِ، تَلْتَهِبُ بِمَرَارَةِ الْأَلَمِ وَالْحَسْرَةِ، مِنْهَا تِلْكَ الزَّفْرَةُ الَّتِي نُظِمَتْ عَلَى لِسَانِ إِحْدَاهُنَّ:

طَالَ الْبُكَاءُ لِوَحْدَتِي وَبَلَائِي*** لَا الذَّنْبُ ذَنْبِي مَعْشَرَ الْآبَاءِ

لَا ذَنْبَ لِي فَعَلَامَ أُدْفَنُ فِي الثَّرَى *** وَأَعِيشُ عَيْشَ تَذَلُّلٍ وَشَقَاءِ

مَلَّ الْوِسَادُ دُمُوعَ عَيْنِي كُلَّمَا *** هَاجَتْ عَلَيَّ بِجَفْنِهَا الْمِعْطَاءِ

وَبِمَضْجَعِي وَخْزٌ كَأَنَّ دَبِيبَهُ *** السُّمُّ يَسْرِي فِي حِمَى الْأَحْشَاءِ

قَدْ كِدْتُ أَقْضِي حَسْرَةً وَتَأَسُّفًا *** لَوْلَا الرِّضَا وَتَجَلُّدِي وَعَزَائِي

فَالْوَرْدَةُ الْبَيْضَاءُ فِي رَيْعَانِهَا *** صَارَتْ كَمِثْلِ الصَّخْرَةِ السَّوْدَاءِ

ذَبُلَتْ عَلَى طُولِ السِّنِينَ فَأَخْفَقَتْ *** مِنْ طُولِهِنَّ مَحَاسِنِي وَصَفَائِي

قَدْ كُنْتُ أَحْلُمُ أَنْ أَكُونَ عَرُوسَةً *** يُهْدَى لَهَا بِرَوَائِحٍ وَغِنَاءِ

وَتُزَفُّ مِنْ بَيْتِ الْأُبُوَّةِ لِلَّذِي *** هُوَ كُفْؤُهَا فِي الدِّينِ وَالْعَلْيَاءِ

وَحَلُمْتُ بِالطِّفْلِ الَّذِي هُوَ مُنْيَتِي *** كَيْمَا أُسَرُّ بِوَجْهِهِ الْوَضَّاءِ

أَهْفُو إِلَيْهِ وَأَسْتَشِفُّ نَسِيمَهُ *** وَأَضُمُّ مِنْهُ الصَّدْرَ فِي سَرَّاءِ

رَبَّاهُ قَدْ أَعْيَا الْبُكَاءُ قُلُوبَنَا *** فَإِلَيْكَ أَشْكُو حُرْقَتِي وَشَقَائِي

رَبَّاهُ فَرِّجْ مَا لَقِيتُ مِنَ الْأَسَى *** يَا وَاسِعَ الْإِكْرَامِ وَالْإِعْطَاءِ

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ؛ أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: لَقَدْ فَتَحَ لَنَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَابَ الْأَمَلِ قَائِلًا: "لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ، فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَلِدَاءِ الْعُنُوسَةِ -بِفَضْلِ اللَّهِ- الْعَدِيدُ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْعِلَاجَاتُ النَّاجِحَةُ، وَمِنْهَا:

التَّيْسِيرُ فِي أَمْرِ الزَّوَاجِ؛ وَالتَّيْسِيرُ دَيْدَنُ الْإِسْلَامِ وَمَنْهَجُهُ وَخَصِيصَتُهُ، يَقُولُ نَبِيُّ الْإِسْلَامِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، بَلْ يُعَلِّمُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْأُمَّةَ كُلَّهَا مُهِمَّتَهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ كُلِّهَا قَائِلًا: "فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَإِنْ كَانَ التَّيْسِيرُ مَطْلُوبًا فِي كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّهُ فِي أَمْرِ الزَّوَاجِ أَشَدُّ طَلَبًا وَإِلْحَاحًا؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى).

 

وَيَنْقُلُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْهَا أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَتَيَسَّرَ خِطْبَتُهَا، وَأَنْ يَتَيَسَّرَ صَدَاقُهَا، وَأَنْ يَتَيَسَّرَ رَحِمُهَا"، قَالَ عُرْوَةُ: "يَعْنِي يَتَيَسَّرُ رَحِمُهَا لِلْوِلَادَةِ"، قَالَ عُرْوَةُ: "وَأَنَا أَقُولُ مِنْ عِنْدِي: مِنْ أَوَّلِ شُؤْمِهَا أَنْ يَكْثُرَ صَدَاقُهَا"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ).

 

وَهَذَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَسْأَلُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قَائِلًا: كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَتْ: "كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا"، قَالَتْ: "أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ "قَالَ: قُلْتُ: لَا، قَالَتْ: "نِصْفُ أُوقِيَّةٍ، فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَزْوَاجِهِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَمِنْهَا: عَرْضُ الْبَنَاتِ عَلَى الصَّالِحِينَ؛ وَلَيْسَ فِي هَذَا مِنْ غَضَاضَةٍ، مَا دَامَ الْمَعْرُوضُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَتْقِيَاءِ الْعَاقِلِينَ أَصْحَابِ الْخُلُقِ الرَّفِيعِ، بَلْ لَقَدْ فَعَلَهُ مَنْ نَزَلَ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ مُوَافِقًا لِرَأْيِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ؛ ذَاكَ هُوَ الْفَارُوقُ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الَّذِي يَرْوِي فَيَقُولُ: تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ، أَوْ حُذَيْفَةَ -شَكَّ عَبْدُ الرَّزَّاقِ-، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: فَلَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ، قَالَ: سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَلَقِيَنِي، فَقَالَ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا، قَالَ عُمَرُ: فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَنْكَحْتُكَ حَفْصَةَ ابْنَةَ عُمَرَ، فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، فَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ، فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ، فَخَطَبَهَا إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ شَيْئًا حِينَ عَرَضْتَهَا عَلَيَّ إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُهَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَوْ تَرَكَهَا نَكَحْتُهَا". (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ).

 

وَمِنْهَا: مُسَاعَدَةُ الْأَغْنِيَاءِ لِلشَّبَابِ عَلَى أَمْرِ الزَّوَاجِ، وَلَوْ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، وَلَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ كَثِيرٍ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ وَتَطَوُّعَاتِهَا.

 

وَمِنْهَا: اغْتِنَامُ عَوْنِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِحُسْنِ النِّيَّةِ فِي الزَّوَاجِ؛ أَقْصِدُ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، فَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ مِنَ الزَّوَاجِ التَّعَفُّفَ فَقَدْ أَوْجَبَ الْجَلِيلُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُعِينَهُ وَيُوَفِّقَهُ.

 

وَمِنْهَا: تَشْجِيعُ الرِّجَالِ عَلَى التَّعَدُّدِ؛ وَذَلِكَ إِنْ تَوَافَرَتْ شُرُوطُهُ، الَّتِي أَوَّلُهَا الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- قَائِلًا: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)[النِّسَاءِ: 3]، وَقَدْ يَتَحَتَّمُ هَذَا فِي الْبِلَادِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا أَعْدَادُ النِّسَاءِ أَضْعَافَ أَعْدَادِ الرِّجَالِ.

 

فَاللَّهُمَّ أَغْنِ شَبَابَنَا وَأَعِفَّ بَنَاتِنَا، وَيَسِّرْ لَهُمُ الزَّوَاجَ، اللَّهُمَّ وَأَنْزِلْ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ نُورًا وَهَدًى وَفِقْهًا مِنْ عِنْدَكَ، فَلَا يُغَالُونَ فِي مُهُورِ فَتَيَاتِهَا، وَرُدَّنَا اللَّهُمَّ إِلَى دِينِنَا رَدًّا جَمِيلًا.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي