معاشر العباد: جاء في كتاب الله -عز وجل- في آيات جامعات عظيمات ذكر الله -جل وعلا- فيها أسباب التيسير وأسباب التعسير، والناصح لنفسه يجدر به أن يتأملها مليّا، وأن يجاهد نفسه على الأخذ بأسباب التيسير، والمباعدة عن أسباب التعسير ليكون من أهل اليسرى لا من ...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه، وتقوى الله هي خير زادٍ يبلِّغ إلى رضوان الله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[البقرة: 197].
أيها المؤمنون: التيسير والتعسير ضدان؛ أحدهما غايةٌ ومطلبٌ يُبتغى ويُرتجى، والثاني أمر يُحاذر ويُتقى، فإن كل امرئ يرجو أن تكون أموره كلها تيسيرٌ لا تعسير فيها، والأمر بيد الله -جل في علاه- وبقضائه وقدره سبحانه، ولا يُنال إلا بطاعته وبذل أسباب التيسير والبُعد عن أسباب التعسير.
معاشر العباد: قد جاء في كتاب الله -عز وجل- في آيات جامعات عظيمات ذكر الله -جل وعلا- فيها أسباب التيسير وأسباب التعسير، والناصح لنفسه يجدر به أن يتأملها مليّا، وأن يجاهد نفسه على الأخذ بأسباب التيسير، والمباعدة عن أسباب التعسير ليكون من أهل اليسرى لا من أهل العسرى.
أيها المؤمنون: يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)[الليل: 1-10].
أقسم الله -جل وعلا- بالليل والنهار وهما زمان السعي، وأقسم بالذكر والأنثى وهما الساعي؛ على أن الناس في سعيهم على تفاوتٍ عظيم، ودرجات متباينة (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) بين مشرِّق ومغرِّب ليسوا في سعيهم على درجة واحدة؛ منهم من يسعى لنجاة نفسه وفوزها، ومنهم -والعياذ بالله- من يسعى لهلاك نفسه ووبالها.
أيها المؤمنون: ثم ذكر الله -جل وعلا- أسباب التيسير التي من أخذ بها يسَّر الله أمره لكل خير وفضيلة وفلاح، ورفعة في الدنيا والآخرة، وهي ثلاثة أسباب عظيمات: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)[الليل: 5-6] هذه أسباب التيسير: الأول: الإعطاء؛ وحذف المتعلَّق ليعُم إعطاء العبد من نفسه كل خيرٍ؛ من طاعة وإيمان وصلاة وصدقة وبذل وإحسان، إلى غير ذلك، فإن الإعطاء بعمومه يتناول ذلك كله، بأن تكون نفس العبد نفسًا معطاءة سخية مقبِلة على الخير، على طاعة الله، على امتثال أوامره جل في علاه.
والأمر الثاني: التقوى (وَاتَّقَى) أي اتقى الذنوب، واتقى ما يسخط الله، وتجنَّب ما يغضبه جل في علاه، وهذا يتناول مجاهدة النفس على البُعد عن الآثام واتقائها، وأن بُعد العبد عنها محقِّقا تقوى الله من أعظم أسباب التيسير.
الأمر الثالث -عباد الله-: التصديق بالحسنى، وهو التصديق بشهادة أن لا إله إلا الله وبما أعده الله -جل وعلا- لأهلها من عظيم الثواب، وجميل المآب، وهذا فيه أن الاعتقاد الحق والإيمان الراسخ واليقين الصادق أعظم أسباب التيسير والتوفيق في الدنيا والآخرة.
وهذه الثلاث -الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى- عليها مدار دين الله كله؛ لأن الدين -عباد الله- يدور على أمور ثلاثة: فعل المأمور، وترك المحظور، وتصديق الخبر، دين الله -عز وجل- يدور على هذه الثلاث وهي المعنية بقوله: (أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)[الليل: 5-6] قال جل وعلا: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) أي من كان آخذًا بهذه الأسباب -أسباب التيسير- فإن الله عز وجل ييسر له كل خيرٍ وفضيلة وفلاح في الدنيا والآخرة .
ثم ذكر جل وعلا أسباب التعسير؛ وهي أضداد ذلك، قال: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) أي بنفسه عن أن تفعل ما أمرها الله به ودعاها إلى القيام به من أبواب الخير وسبل الطاعة، وأبواب العبادة، فبخل بنفسه أن تكون مطيعة ممتثلة، (وَاسْتَغْنَى)، واستغنى أي عن الله؛ بترك تقوى الله -عز وجل-، وترك اتقاء غضبه جل في علاه، (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) أي كذب بما أمره الله -عز وجل- بالإيمان به من التصديق بلا إله إلا الله، أو التصديق بالموعود الذي أعدَّه الله لأهلها من عظيم الثواب، فإن عاقبته كما ذكر الله -عز وجل-: (الْعُسْرَى).
وهذا التعسير ليس في الدنيا فقط! بل في الدنيا والآخرة، كما أن التيسير أيضا ليس في الدنيا فقط، بل في الدنيا والآخرة.
والعاقل -عباد الله- يكون ناصحًا لنفسه مجاهدًا لها على الأخذ بأسباب التيسير والمجانبة لأسباب التعسير، سائلا ربه -جل في علاه- أن ييسره لليسرى، وأن يجنِّبه العسرى؛ لأن الأمور بقضاء الله -تبارك وتعالى- وقدره، ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال كما في حديث علي -رضي الله عنه-: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ألا نتكل على الكتاب؟ فَقَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ"، ثُمَّ تلا: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)[الليل: 5-10].
أسأل الله -جل في علاه- بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وبأنه الله الذي لا إله إلا هو أن ييسرنا أجمعين لليسرى، وأن يجنِّبنا العسرى، وأن يعيننا أجمعين على الأخذ بأسباب التيسير والتوفيق، والبُعد عن أسباب التعسير والخذلان، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله -تعالى-.
عباد الله: شهرنا هذا شهر الله المحرم هو أحد الأشهر الحرم الأربعة التي ذكرها الله -سبحانه وتعالى- بقوله: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة: 36]، ولئن كان ظلم النفس منهي عنه في كل وقت وحين وفي كل زمان وأوان؛ إلا أن الأمر في هذه الأشهر الحرم أشد، لزيادة تحريمها وعظم شأنها.
أيها المؤمنون: وقد جاء عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة بيان عظيم فضل إكثار الصيام في هذا الشهر، قال صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ"، وفي هذا الشهر المبارك يوم عظيم من أيام الله المباركات صيامه يكفِّر سنة كاملة؛ وهو صيام يوم عاشوراء، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابي قتادة قال: "أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ"، وهذا اليوم هو اليوم الذي أغرق الله فيه فرعون ونجى فيه موسى؛ فصامه موسى شكرا لله -جل وعلا-، وصامه نبينا -عليه الصلاة والسلام- لذلك.
فلنحرص -رعاكم الله- على صيام يوم عاشوراء، ومن صامه وحده أجزأه، لكن الأفضل والأكمل أن يصوم معه يومًا إما قبله أو بعده، والأولى أن يكون قبله؛ لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ" قال ابن عباس: "أي مع العاشر" فيصوم التاسع والعاشر من هذا الشهر المبارك؛ تحريًا لهذا الموعود العظيم، وشكرًا لله -سبحانه وتعالى-.
ونسأل الله -جل في علاه- أن يغنِّمنا أجمعين أبواب الخيرات، وأن يجعلها لنا أجمعين مرتقى للفضائل والرفعة ونيل عظيم الثواب.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: ٥٦]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وإحسانك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان.
اللهم يا ربنا انصر إخواننا المرابطين على حدود البلاد وأيِّدهم بتأييدك يا حي يا قيوم، وانصرهم على القوم المعتدين الظالمين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال، اللهم وفِّقه وولي عهده يا حي يا قيوم لكل خير وفضيلة ورفعة للإسلام والمسلمين يا حي يا قيوم.
اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله دقه وجله، أوله وآخره، علانيته وسره، اللهم إنا نسألك يا حي يا قيوم أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم غيثًا مُغيثًا، هنيئًا مريئا، سحًا طبقا، نافعًا غير ضار، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي