طلب الرزق ... آداب وأحكام

د عبدالحميد بن سعد السعودي
عناصر الخطبة
  1. السعي لطلب الرزق فطرة في النفوس .
  2. طلب الكسب الحلال شرف وعز للمسلم .
  3. مواقف من سِيَر الصالحين في تحري الكسب الطيب .
  4. شؤم المكسب الحرام .
  5. منزلة الورع من أفضل المنازل .

اقتباس

ومن مأثور حِكَم لقمانَ: "يا بُنَيَّ، استغنِ بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحد قط، إلا أصابه ثلاث خصال: رِقَّةٌ في دِينِه، وضَعْف في عقله، وذَهاب مروءته"...

من اختيارات الشيخ رحمه الله

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أيها الإخوة في الله: كسبُ الرزقِ، وطلبُ العيش شيء مأمور به شرعًا، مندفِعة إليه النفوس طبعًا، فالله قد جعَل النهارَ معاشًا، وجعَل للناس فيه سَبْحًا طويلًا، أمَرَهم بالمشي في مناكب الأرض؛ ليأكلوا من رزقه، وقرَن في كتابه بين المجاهِدين في سبيله، وبين الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ)[المزمل: 20].

 

وأخبَر عليه الصلاة والسلام أنه: "ما أكَل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده"، ولقد قال بعض السلف: "إنَّ مِنَ الذنوب ذنوبًا لا يكفِّرها إلا الهمُّ في طلب العيش".

 

والاستغناء عن الناس بالكسب الحلال شرفٌ عالٍ، وعزٌّ منيفٌ، روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إليَّ من موطن أتسوق في لأهلي، أبيع وأشتري".

 

ومن مأثور حكم لقمان: "يا بُنَيَّ، استغنِ بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحد قط، إلا أصابه ثلاث خصال: رِقَّةٌ في دِينِه، وضَعْف في عقله، وذهاب مروءته".

 

إن في طيب المكاسب وصلاح الأموال، فيها سلامة الدين، وصون العرض، وجمال الوجه، ومقام العز.

 

ومن المعلوم أن المقصود من كل ذلك: الكسب الطيب؛ فالله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وقد أمَر الله بذلك المؤمنين، كما أمَر به المرسلين، فقال مخاطبًا الرسل: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)[المؤمنون: 51]، وقال مخاطِبًا المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[البقرة: 172].

 

ومن أعظم ثمار الإيمان: طِيب القلب، ونزاهة اليد، وسلامة اللسان، ومن أسمى غايات رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه يُحِلُّ الطيباتِ ويحرِّم الخبائثَ.

 

وفي حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أكَل طيِّبًا، وعَمِلَ في سُنَّةٍ، وأَمِنَ الناسُ بوائِقَه، دخَل الجنةَ".

 

وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حِفْظُ أمانةٍ، وصدقُ حديثٍ، وحُسْنُ خليقةٍ، وعفَّةٌ في طُعمةٍ".

 

أيها الإخوة في الله: إن طلب الحلال وتحرِّيه أمر واجب، وحتم لازم، فلن تزول قدمَا عبد يوم القيامة، حتى يُسألَ عن ماله من أين اكتسبه وفِيمَ أنفَقَه"، إن حقًّا على كل مسلم أن يتحرَّى الطيِّب من الكسب، والنزيه من العمل؛ ليأكل حلالًا، وليطعم حلالًا، ولينفق حلالًا.

 

انظروا -رحمكم الله- إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- يجيئه غلامه بشيء فيأكله، فيقول له الغلام: "أتدري ما هو؟ تكهنتُ في الجاهلية لإنسان، وما أُحْسِنُ الكهانةَ! ولكنِّي خدعتُه، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ. فأدخَلَ أبو بكر يدَه في فمه فقاء كلَّ شيء في بطنه، وفي رواية أنه قال: لو لم تخرج إلا مع روحي لأخرجتُها، اللهم إني أعتذر إليك ممَّا حملَتِ العروقُ، وخالط الدماءَ".

 

وعمر -رضي الله عنه- شرب لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه من أين لك هذا؟ قال: مررتُ بإبل الصدقة، وهم على ماء، فأخذتُ من ألبانها، فأدخَلَ عمرُ يدَه فقاء ما في بطنه.

 

واسمعوا إلى هذه الزوجة الصالحة، وهي توصي زوجها فتقول: "يا هذا، اتقِ اللهَ في رزقنا، فإننا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار".

 

أولئك هم الصالحون، يُخرِجون الحرام والمشتبَه من أجوافهم، وقد دخَل عليهم من غير علمهم، وخلفَتْ من بعدهم خلوفٌ يعمدون إلى الحرام؛ ليملؤوا بطونَهم وبطونَ أهليهم.

 

أيها الإخوة في الله: أرأيتُم الرجلَ الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ يُطِيل السفرَ، أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك.

 

لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة، ما يدعو إلى رثاء حاله، ويؤكد شدة افتقاره، تقطعت به السبل، وطال عليه المسير، وتغربت به الديار، وتَرِبَتْ يداه، واشعثَّ رأسه، واغبرَّت قدماه، ولكنه قطع صلته بربه، وحرَم نفسه من مدد مولاه، فحيل بين دعائه والقبول، أكل من حرام، واكتسى من حرام، ونبَت لحمُه في حرام، فرُدَّتْ يداه خائبتينِ.

 

فماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه؟ وحجب دعاؤه وحيل بينه وبين الرحمة؟!

 

أيها الإخوة في الله: إن أكل الحرام يُعمي البصيرةَ، ويُوهِن الدينَ، ويقسِّي القلبَ، ويُقعِد الجوارحَ عن الطاعات، ويُوقِع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويحجب الدعاءَ، ولا يتقبل الله إلا من المتقين.

 

إن للمكاسب السيئة آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع: تَنزِع البركات، وتُكثِر العاهاتِ، وتُحِلُّ الكوارثَ، أزمات مالية مستحكَمة، وبطالة متفشية، وتظالم وشحناء.

 

فويل للذين يتغذون بالحرام، ويربون أولادهم وأهليهم على الحرام، ويل لهم ثم ويل لهم، إنهم كشارب ماء البحر، كلما ازدادوا شربًا ازدادوا عطشًا، شاربون شربَ الهيم، لا يقنعون بقليل، ولا يُغنيهم كثير، يستمرِئون الحرام، ويسلكون المسالك المعوجَّة، رِبًا وقمار، وغصب وسرقة، أكل لأموال اليتامى والقاصرين، تطفيف في الكيل والوزن والزرع، كتمٌ للعيوب، سحرٌ وتنجيمٌ وشعوذةٌ، أكلٌ لأموال الناس بالباطل، أَيمان فاجرة، مكر وخديعة، زور وخيانة، لهوٌ وملاهٍ، مسالكُ معوجَّةٌ، وطُرُقٌ مظلِمةٌ، كأنهم في الزمان الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرء من أين أصاب المال، من حلال أو حرام".

 

اللهم أَغْنِنا بحلالِكَ عن حرامِكَ، وبطاعتِكَ عن معصيتك، وبفضلك عمَّن سواكَ، اللهم لا تجعل الدنيا أكبرَ همِّنا، ولا مبلغَ عِلْمِنا، ولا إلى النار مصيرَنا، اللهم بارِكْ لنا فيما رَزَقْتَنا، وَقِنَا عذابَ النار، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، مَنِ اعتَصَم بحبله وفَّقَه وهداه، ومن اعتمد عليه حَفِظَه ووقاه، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى أصحابه والتابعينَ ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

أيها الإخوة في الله: أيها الموظَّفون والعمَّال، أيها التُّجَّار والصُّنَّاع، أيها السماسرة والمقاوِلون، حقٌّ على كل واحد منا تحرِّي الحلال، والبُعْد عن المشتبه، احفظوا حقوق الناس، أَنجِزُوا أعمالَهم، أَوفُوا بالعقود والعهود، اجتَنِبوا الغشَّ والتدليسَ، والمماطَلةَ والتأخيرَ، اتقوا اللهَ جميعًا، فالحلال هنيء مريء، يُنِير القلوبَ، وتَنشَطُ به الجوارحُ، وتصلح به الأحوال، وتصح به الأجسام، ويستجاب معه الدعاء.

 

أيها الإخوة في الله: خيرُ سبيلٍ للبُعد عن المحرَّمات؛ ترك المشتبِهات، وسلوك مسالك الورع عند التردُّد، ففي حديث النعمان -رضي الله عنه-: "فمَنِ اتَّقى الشبهاتِ استبرأ لدِينه وعِرْضه، ومَنْ وقَع في الشُّبُهات وقَع في الحرام".

 

ولقد قال الحسن البصري -رحمه الله-: "مازالت التقوى بالمتقين، حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام"، ويقول أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "تمام التقوى أن يتقي العبدُ ربَّه، حتى يتقيَه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعضَ ما يرى أنه حلالٌ؛ خشيةَ أن يكون حرامًا، حِجَابًا بينَه وبينَ الحرام".

 

ولْتَعْلَمُوا -رحمكم الله- أن المشتبِهات يحصل للقلوب عندها القلق والاضطراب الموجِب للشك، والوَرِعُ هو الوقَّاف عند المشتبِهات، يَدَعُ ما يُرِيبُه إلى ما لا يُرِيبُه.

 

فاتقوا الله -رحمكم الله- وأطيبوا مطاعمكم ومشاربكم، واتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، واتقوا نارًا وقودها الناس والحجارة (عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].

 

هذا واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي