إن هذه الأيام والليالي مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة؛ حتى نصل إلى آخر مرحلة في هذا السفر، وكل يوم يمر فإنه يبعدنا من الدنيا ويقربنا من الآخرة، فليحاسِبِ العاقلُ نفسَه، ولينظُرْ في أمره...
من اختيارات الشيخ رحمه الله
أيها الإخوة في الله: بعد يومين نودِّع عامًا هجريًّا، ونستقبل عامًا هجريًّا آخَرَ، نودِّع عامًا ملأنا شهورَه وأيامه ولياليه ودقائقه وثوانيه بأنواع من العمل شتى، حتى مرَّ علينا ولم نشعر بسرعة مرور أيامه ولياليه، فطوبى لعبد اغتنم عامَه بما يقرِّبه إلى مولاه، وطوبى لعبد شغَل عامَه بالطاعات، واجتنَب المعاصيَ والسيئاتِ، طوبى لعبد اتَّعظ بما في عامه من تقلُّبات الأمور والأحوال، طوبى لعبد استدلَّ بهذه التقلُّبات على ما لله فيها من الحِكَم البالغة والأسرار (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النور: 44].
إن هذه الأعوام تتجدد عامًا بعد عام، فإذا دخل العام الجديد نظَر الإنسان إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمر به الأيام سراعًا فينصرم العام كلمح البصر، فإذا هو في آخِر العام، وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد فإذا به قد هجم عليه الموت (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق: 19].
يؤمِّل الإنسان بطول العمر، ويتسلَّى بالأمانيِّ، فإذا بحبل الأمل قد انصرم، وبناء الأمانيِّ قد انهدم.
أيها الإخوة المؤمنون: لقد دلَّت الأحاديثُ الصحيحةُ على أن عُمر المؤمن كلما طال، ازداد بذلك ما له عند الله من الخير، ومَنْ كان كذلك فالحياة خيرٌ له من الموت، وفي دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم اجعل الحياةَ زيادةً لي في كل خير، والموتَ راحةً لي من كل شرٍّ"(مسلم).
ولما سئل عليه الصلاة والسلام: أيُّ الناسِ خيرٌ؟ قال: "مَنْ طال عمرُه وحَسُنَ عملُه"، فقيل: أي الناس شر؟ قال: "من طال عمره وساء عمله".
قيل لبعض السلف: "طاب الموتُ، قال: لا تفعل، لَساعةٌ تعيش فيها تستغفر الله خيرٌ لكَ من موتِ الدهرِ"، وقيل لشيخ منهم: "تحب الموتَ؟ قال: لا، قيل: ولمَ؟ قال: ذهَب الشبابُ وشرُّه، وجاء الكِبَرُ وخيرُه".
ولهذا كان السلف الصالح يتأسفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم الصالحة عنهم بالموت. بكى معاذ -رضي الله عنه- عند موته، وقال: "إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَق الذِّكْر"، وقال أحد الصالحين عند موته: "إنما أبكي على أن يصوم الصائمون لله ولستُ فيهم، ويصلي المصلون ولستُ فيهم، ويذكر الذاكرون ولستُ فيهم".
روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "ما من ميت مات إلا وندم، إن كان محسنًا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم ألا يكون استعتب".
قال أحد الصالحين: "كان الصِّدِّيقون يستَحُونَ من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس"؛ يشير إلى أنهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير.
أيها الإخوة في الله: إن هذه الأيام والليالي مراحل نقطعها إلى الدار الآخرة؛ حتى نصل إلى آخر مرحلة في هذا السفر، وكل يوم يمر فإنه يبعدنا من الدنيا ويقربنا من الآخرة، فليحاسِبِ العاقلُ نفسَه، ولينظُرْ في أمره، فإن كان قد فرَّط في شيء من الواجبات فليتُبْ إلى الله، وليتدارَكْ ما فات، وإن كان ظالمًا لنفسه بفعل المعاصي والمحرمات، فليُقلِعْ عنها قبلَ حلول الأَجَل والفوات، وإن كان ممن منَّ الله عليه بالاستقامة فليحمد الله على ذلك، وليسأله الثبات عليها إلى الممات.
وعَظ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- رجلًا، فقال له: "اغتنم خمسًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".
ففي الشباب قوة وعزيمة، فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة وفترت العزيمة، وفي الصحة نشاط وانبساط فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه وضاقت نفسه، وثقلت عليه الأعمال، وفي الغنى راحة وفراغ فإذا افتقر الإنسان اشتغل الإنسان بطلب العيش الكريم له ولعياله، وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال، فإذا مات العبد انقطع عنه الاستزادةُ من تلك الأعمال، إلا صدقة جارية، أو ولدًا صالحًا يدعو له، أو علمًا يُنتَفَع به.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والحمد لله الذي أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، من اعتصم به حماه ووقاه، ومَنْ أعرَض عنه وعصاه أهلكه وأرداه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصَح الأمةَ، وكشَف اللهُ به الغمةَ، وجاهَد في الله حقَّ جهاده، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الإخوة في الله: إن في تأمل ما قصَّه الله -جلا وعلا- في كتابه المبين عن أنبيائه والمرسَلين، وما حصَل لهم من النصر والتمكين، وكذا ما قصَّه عن أعدائه الكافرين، وما حل بهم من العقوبات والخسران المبين، إن في تأمل ذلك لَعبرة للمعتبرين، يعتبر بها الذين يؤمنون بالله ورسله، فتبعث في قلوبهم الثباتَ أمام عدوهم، والصبرَ عند لقائه، واليقينَ بموعود الله لهم بالنصر والتمكين، والغلبة على أعدائهم الكافرين.
لقد قال فرعون مكابرًا: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)[الشعراء: 23] أنكَر الرب العظيم الذي قامت بأمره السماء والأرض، الذي له في كل شيء آية تدل على وجوده وربوبيته وعلمه وقدرته وحكمته، وأنه الرب الواحد الذي يجب إفراده بالعبادة كما هو منفرد بالخلق والتدبير.
فأجابه موسى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)[الشعراء: 24]، فرد فرعون ساخرًا بموسى، ومستهزئًا به، ومحتقرًا له قائلًا لمن حوله: (أَلَا تَسْتَمِعُونَ)[الشعراء: 25]، فأجاب موسى مذكرًا لهم أصلهم، وأنهم مخلوقون مربوبون، وكما خلقوا فهم صائرون إلى العدم، طريقة آبائهم الأولين، فقال: (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)[الشعراء: 26]، وحينئذ بهت فرعون، فطعن بالرسول واتهمه، فأجاب موسى مبينًا من الأحق بوصف الجنون، أهو المؤمن بالله خالق السماوات والأرض، ومالك المشرق والمغرب، أم المنكر لذلك، فقال: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)[الشعراء: 28]، فلما عجز فرعون عن مقاومة الحق، وأفحمه موسى بالحق والبرهان؛ لجأ إلى ما يلجأ إليه العاجزون المتكبرون من الإرهاب والوعيد، فتوعد موسى بالاعتقال والسجن، فقال: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)[الشعراء: 29].
وما زال فرعون ينابذ دعوة موسى -عليه الصلاة والسلام- حتى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)[الزخرف: 54]، قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ)[الزخرف: 55، 56].
أيها الإخوة في الله: إن قصة إغراق فرعون وجنوده ونجاة نبي الله موسى -عليه الصلاة والسلام- معروفة مشهورة، فقد أوحى الله إلى موسى أن يسري بقومه ليلًا من مصر، فاهتم لذلك فرعون اهتمامًا عظيمًا، فأرسل في جميع مدائن مصر أن يحشر الناس للوصول إليه، -لأمر يريده الله- فجمع فرعون قومه، وخرج في إثر موسى متجهينَ إلى جهة البحر الأحمر.
فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 61]، البحر من أمامنا، فإن خضناه غرقنا، وفرعون وقومه خلفنا، فإن وقفنا أُدركنا، فقال موسى: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء: 62].
فلما بلغ موسى البحر؛ أمر الله موسى أن يضربه بعصاه، فضربه فانفلق البحر اثني عشر طريقًا، وصار الماء السيال بين هذه الطرق كأطواد الجبال، فلما تكامل موسى وقومه خارجين، وتكامل فرعون بجنوده داخلين، أمر الله البحر أن يعود إلى حاله، فانطبق على فرعون وجنوده فكانوا من المغرقين، فلما أدرك فرعون الغرق، (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[يونس: 90]، ولكن لم ينفعه الإيمان حينئذ، فقيل له توبيخًا: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)[يونس: 91-92].
هذا وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي