دور الولي والأسرة في التعامل مع الخاطب

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
عناصر الخطبة
  1. اهتمام الإسلام بمرحلة الخطبة وعنايته بها .
  2. قوامة الرجل ومسؤوليته في زواج موليته .
  3. وجوب إذن الولي في زواج المرأة .
  4. الأسس الشرعية التي ينبغي مراعاتها عند اختيار الزوج .
  5. أسباب اختيار الزوج غير المناسب وآثاره .
  6. حق البنت في الموافقة على زوجها. .

اقتباس

هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ الْمُهِمَّةُ لَا يَنْفَعُ فِيهَا الْمُجَامَلَاتُ وَلَا التَّسَاهُلُ، وَلَا الْعَجَلَةُ، وَلَا تَحْكِيمُ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ، وَلَا الْمُوَافَقَةُ عَلَى الْخَاطِبِ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَظَاهِرِ الْخَادِعَةِ، أَوِ اسْتِنَادًا عَلَى سُمْعَةِ الْأُسْرَةِ؛ كَالْأَبِ وَالْأُمِّ وَمَعْرِفَتِهِمَا، دُونَ السُّؤَالِ عَنِ الْخَاطِبِ نَفْسِهِ، وَالتَّحَقُّقِ مِنْ دِينِهِ وَخُلُقِهِ...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الزَّوَاجَ مُسْتَقْبَلٌ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ؛ لِبِنَاءِ الْبَيْتِ وَالْأُسْرَةِ وَتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ، وَإِنَّ أُولَى خُطُوَاتِ الزَّوَاجِ هِيَ الْخِطْبَةُ، وَبِهَا يَتَحَدَّدُ مَصِيرُ الزَّوَاجِ مُسْتَقْبَلاً، بَلْ هِيَ أَهَمُّ مَرْحَلَةٍ مِنْ مَرَاحِلِ الزَّوَاجِ؛ لِأَنَّهَا تَرْسُمُ مَعَالِمَ الْأُسْرَةِ الْجَدِيدَةِ وَتُوَجِّهُهَا؛ فَإِنْ حَسُنَ الِاخْتِيَارُ لِلشَّرِيكَيْنِ؛ نَجَحَتِ الْعَلَاقَةُ الزَّوْجِيَّةُ، وَإِنْ أُسِيءَ الِاخْتِيَارُ؛ فَسَتَعْصِفُ بِالْعَلَاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ الْمُشْكِلَاتُ وَالْمَصَاعِبُ، وَرُبَّمَا كَانَتِ النِّهَايَةُ الْفِرَاقَ وَالطَّلَاقَ، وَرُبَّمَا الْخِصَامُ بَيْنَ الْأُسْرَتَيْنِ!.

 

وَلِذَلِكَ أَوْلَى الْإِسْلَامُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةَ عِنَايَةً بَالِغَةً، وَأَكَّدَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ؛ فَأَمَّا الرَّجُلُ فَهُوَ بِيَدِهِ اخْتِيَارُ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَرْغَبُ بِهَا، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَأَمْرُهَا بِيَدِ أَبِيهَا وَوَلِيِّ أَمْرِهَا؛ كَوْنُهَا أَمَانَةً عِنْدَهُمْ، حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَيَكُونَ الْقَائِمَ عَلَى أَمْرِهَا زَوْجُهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَةِ وَلِيِّ أَمْرِهَا فِي زَوَاجِهَا مَعَ اسْتِشَارَتِهَا وَالْأَخْذِ بِرَأْيِهَا، قَالَ -تَعَالَى-: (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ)[النساء: 25]، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ–: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ"(رواه الترمذي وأبو داود وصححه الألباني)، وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا؛ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ"(رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه وصححه الألباني).

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "ذِكْرُ الْوَلِيِّ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَهُوَ عَادَةُ الصَّحَابَةِ، إِنَّمَا كَانَ يُزَوِّجُ النِّسَاءَ الرِّجَالُ، لَا يُعْرَفُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، وَهَذَا مِمَّا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَمُتَّخِذَاتِ الْأَخْدَانِ".

 

أَيُّهَا الْآبَاءُ: إِنَّ اخْتِيَارَ الزَّوْجِ الْمُنَاسِبِ لِبَنَاتِكُمْ هُوَ الْخُطْوَةُ الْأُولَى لِبِنَاءِ الْأُسْرَةِ الصَّالِحَةِ؛ إِذْ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الزَّوَاجِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَرْحَلَةُ الْمُهِمَّةُ لَا يَنْفَعُ فِيهَا الْمُجَامَلَاتُ وَلَا التَّسَاهُلُ، وَلَا الْعَجَلَةُ، وَلَا تَحْكِيمُ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ، وَلَا الْمُوَافَقَةُ عَلَى الْخَاطِبِ اعْتِمَادًا عَلَى الْمَظَاهِرِ الْخَادِعَةِ، أَوِ اسْتِنَادًا عَلَى سُمْعَةِ الْأُسْرَةِ؛ كَالْأَبِ وَالْأُمِّ وَمَعْرِفَتِهِمَا، دُونَ السُّؤَالِ عَنِ الْخَاطِبِ نَفْسِهِ، وَالتَّحَقُّقِ مِنْ دِينِهِ وَخُلُقِهِ.

 

وَالسُّؤَالُ عَنِ الْخَاطِبِ؛ عَنْ دِينِهِ وَأَخْلَاقِهِ أَمَانَةٌ، يَنْبَغِي الْقِيَامُ بِهَا عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ؛ حَتَّى لَا تُغَشَّ الْمَرْأَةُ بِزَوْجٍ تَكْتَشِفُ مُسْتَقْبَلًا أَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ، أَوْ أَنَّهُ ذُو أَخْلَاقٍ سَيِّئَةٍ.

 

فَلْنَتَّقِ اللهَ -سُبْحَانَهُ- فِي بَنَاتِنَا؛ فَإِنَّهُنَّ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِنَا، فَلَا نَرْمِيهِنَّ لِلْمَجْهُولِ، فَاللهَ اللهَ فِي هَذِهِ الْأَمَانَةِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الأنفال: 27]، وَنَبِيُّكُمْ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يُوصِيكُمْ فِي النِّسَاءِ؛ لِمَا فِيهِنَّ مِنَ الضَّعْفِ، وَلِمَسْؤُولِيَّتِكُمْ عَلَيْهِنَّ، فَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالْمَرْأَةِ"(رواه أحمد وصححه الألباني)؛ أَيْ: أُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ فِي تَضْيِيعِ حَقِّهِمْ، وَأُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَأُحَذِّرُهُمْ مِنَ الْوُقُوعِ فِي ظُلْمِهِمْ، وَأَيُّ ظُلْمٍ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُزَوَّجَ رَجُلًا غَيْرَ صَالِحٍ، أَوْ فَاسِدَ الْأَخْلَاقِ يُؤْذِيهَا، وَلَا يَقُومُ بِحُقُوقِهَا، أَوْ يُهْمِلُ تَرْبِيَةَ أَبْنَائِهِ، وَيَرْضَى لَهُمْ بِالْفَسَادِ!.

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: كُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِاتِّبَاعِ هَدْيِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَالْتِزَامِ أَوَامِرِهِ، وَقَدْ أَرْشَدَ فِي الزَّوَاجِ لِاخْتِيَارِ الرَّجُلِ الْكُفْءِ الصَّالِحِ، ذِي الدِّينِ وَالْخُلُقِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ؛ فَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ"(رواه البيهقي وابن ماجه وصححه الألباني)، فَصِيغَةُ الْأَمْرِ تَدُلُّ عَلَى بَذْلِ الْجُهْدِ وَالتَّحَرِّي؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ هُنَا لَيْسَ مُجَرَّدَ اسْتِمْتَاعٍ وَقَضَاءِ شَهْوَةٍ، بَلْ قِيَامُ أُسْرَةٍ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَعْبَاءَ وَتَكَالِيفَ، قَالَ الْمُنَاوِيُّ: "تَكَلَّفُوا طَلَبَ مَا هُوَ خَيْرُ الْمَنَاكِحِ وَأَزْكَاهَا، وَأَبْعَدُهَا عَنِ الْخُبْثِ وَالْفُجُورِ".

 

وَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حَاثًّا أَوْلِيَاءَ الْأُمُورِ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ، وَالظَّفَرِ بِذِي الدِّينِ: "إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ؛ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"(رواه الترمذي وابن ماجه)، قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "إِنَّمَا النِّكَاحُ رِقٌّ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ أَيْنَ يُرِقُّ عَتِيقَتَهُ أَوْ كَرِيمَتَهُ؟"، قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالتَّشْدِيدِ فِي اخْتِيَارِ الزَّوْجِ لَهَا: "وَالِاحْتِيَاطُ فِي حَقِّهَا أَهَمُّ؛ لِأَنَّهَا رَقِيقَةٌ بِالنِّكَاحِ لَا مَخْلَصَ لَهَا، وَالزَّوْجُ قَادِرٌ عَلَى الطَّلَاقِ بِكُلِّ حَالٍ!، وَمَهْمَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ ظَالِمًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُبْتَدِعًا أَوْ شَارِبَ خَمْرٍ؛ فَقَدْ جَنَى عَلَى دِينِهِ، وَتَعَرَّضَ لِسَخَطِ اللهِ؛ لِمَا قَطَعَ مِنْ حَقِّ الرَّحِمِ، وَسُوءِ الِاخْتِيَارِ"(إحياء علوم الدين).

 

لَقَدْ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَقَالَ لَهُ: "إِنَّ عِنْدِي بِنْتًا مِمَّنْ تَرَى أُزَوِّجُهَا؟"، قَالَ: "زَوِّجْهَا مَنْ يَخَافُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّهُ إِنْ أَحَبَّهَا أَكْرَمَهَا، وَإِنْ أَبْغَضَهَا لَمْ يَظْلِمْهَا"، أَرَأَيْتُمْ -عِبَادَ اللهِ- صِدْقَ النُّصْحِ وَالْمَشُورَةِ حِينَ تَطْلُبُ مِنْ أَهْلِهَا!، وَمَاذَا يُرْجَى مِنْ فَاسِقٍٍ أَوْ عَاصٍ لَا يَقُومُ بِحُقُوقِ رَبِّهِ؛ أَفَتَرَاهُ سَيُرَاعِي حُقُوقَ ابْنَتِكَ إِذَا تَزَوَّجَهَا؟! وَمَنْ سَاءَتْ أَخْلَاقُهُ، وَاشْتَهَرَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ وَالْخُصُومَاتِ؛ كَانَ فُجُورُهُ وَسُوءُ خُلُقِهِ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ أَوْلَى!.

 

إِذَا الْإِيمَانُ ضَاعَ فَلاَ أَمَانٌ***وَلاَ دُنْيَا لِمَنْ لَمْ يُحْيِ دِينَا

 

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: كَثِيرٌ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ الْأُسَرِيَّةِ سَبَبُهَا سُوءُ الِاخْتِيَارِ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَا يَلِي:

طَمَعُ الْآبَاءِ فِي الْمَهْرِ، وَكَأَنَّ الْبِنْتَ عِنْدَهُمْ سِلْعَةٌ تُعْرَضُ، فَمَنْ يُقَدِّمُ فِيهَا أَكْثَرَ فَهِيَ لَهُ!.

 

وَمِنْهَا: الرَّغْبَةُ فِي صَاحِبِ الْوَظِيفَةِ أَوِ الْجَاهِ وَالْمَنْصِبِ وَالنَّسَبِ وَالْمَنْزِلَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ فَهَذَا مُقَدَّمٌ عِنْدَ كَثِيرِينَ عَلَى صَاحِبِ الْخُلُقِ وَالدِّينِ، فَالْمِعْيَارُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْعَادَاتُ لَا الدِّينُ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَمِنْهَا: خَشْيَةُ الْوَلِيِّ مِنَ الْإِحْرَاجِ؛ فَإِذَا خَطَبَ الْقَرِيبُ ابْنَتَهُ، وَافَقَ عَلَيْهِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي وَاجِبَاتِهِ الدِّينِيَّةِ، وَفِي أَخْلَاقِهِ شَوَائِبُ وَبَلَايَا، لَكِنَّ الْوَلِيَّ يُوَافِقُ عَلَيْهِ؛ حَتَّى لَا يُحْرَجَ مَعَ وَالِدَيْهِ!.

 

وَمِنْهَا: بَعْضُ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ السَّيِّئَةِ؛ كَحَجْرِ الْبِنْتِ لِلْوَلَدِ مُنْذُ الصِّغَرِ، وَلَا يُهِمُّ الْأَهْلَ إِنْ نَشَأَ مَنْ حُجِرَتْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ صَالِحًا أَمْ سَيِّئًا؟ وَلَكِنَّ الْبِنْتَ هِيَ مَنْ تَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَهَذَا تَعَدٍّ عَلَى حَقِّهَا فِي اخْتِيَارِ زَوْجِهَا، كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ شَرْعُنَا؛ فَيَا لَهَا مِنْ عَادَاتٍ قَبِيحَةٍ، كَيْفَ تُقِرُّهَا الْعُقُولُ وَالْأَعْرَافُ؟!

 

وَمِنْهَا: الْعَامِلُ النَّفْسِيُّ؛ فَالْمَرْأَةُ إِذَا تَأَخَّرَتْ فِي الزَّوَاجِ، وَخَشِيَتْ أَنْ يَفُوتَهَا قِطَارُهُ، قَبِلَتْ بِأَوَّلِ طَارِقٍ يَطْرُقُ بَابَهَا، وَرُبَّمَا اسْتَعْجَلَتْ فَأَسَاءَتِ الِاخْتِيَارَ، "وَالْعَجَلُ تَصْحَبُهُ النَّدَامَةُ، وَتُجَانِبُهُ السَّلَامَةُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُكَنِّي الْعَجَلَةَ أُمَّ النَّدَامَاتِ".

 

تَأَمَّلُوا -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- فِي بِنْتِ شُعَيْبٍ، مَا أَعْقَلَهَا وَأَفْطَنَهَا! حِينَ رَأَتْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْفَاضِلَةَ، وَالْأَخْلَاقَ الْجَمِيلَةَ فِي مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، قَالَتْ لِأَبِيهَا: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص: 26]، فَمَا كَانَ مِنَ الْأَبِ الصَّالِحِ إِلَّا أَنْ يَنْتَهِزَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ الْعَظِيمَةَ؛ لِكَيْ يَعْرِضَ إِحْدَى ابْنَتَيْهِ لِرَجُلٍ صَالِحٍ يَقُومُ بِحُقوقِهَا؛ فَيَطْمَئِنُّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ابْنَتِهِ وَأَنَّهُ أَدَّى الْأَمَانَةَ فِيهَا، وَسَلَّمَ الْمَسْؤُولِيَّةَ مَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّهُ الرَّجُلُ الْكُفْء لَهَا؛ (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ)[القصص: 27]؛ فَمَا سَأَلَ عَنْ نَسَبِهِ، وَلَا مَكَانَتِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَدِينُهُ وَخُلُقُهُ يُغْنِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيَشْفَعُ لَهُ فِي الزَّوَاجِ!.

 

أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَبَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مُجْتَمَعَاتُنَا الْيَوْمَ تَضِجُّ بِالْمُشْكِلَاتِ الْأُسَرِيَّةِ، وَأَكْثَرُ أَسْبَابِهَا عَدَمُ تَوَافُقِ الزَّوْجَيْنِ، بِسَبَبِ سُوءِ الِاخْتِيَارِ، وَمُعَدَّلَاتُ الطَّلَاقِ فِي تَزَايُدٍ مُسْتَمِرٍّ، وَكَانَ بِالْإِمْكَانِ تَلَافِي كَثِيرٍ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ وَالْمَشَاكِلِ الزَّوْجِيَّةِ بَدْءًا مِنْ مَرْحَلَةِ الْخِطْبَةِ؛ إِنْ أَحْسَنَ أَوْلِيَاءُ الْأُمُورِ اخْتِيَارَ الْأَزْوَاجِ لِبَنَاتِهِمْ، وَامْتَثَلُوا أَمْرَ نَبِيِّهِمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ذَلِكَ، وَكُلَّمَا ابْتَعَدْنَا عَنْ هَدْيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَعَقَّدَتْ أُمُورُنَا، وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُنَا؛ (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الحشر: 7]، أَمَا حَثَّنَا رَسُولُنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قَبُولِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ رَفْضَهُ مُؤْذِنٌ بِفَسَادٍ كَبِيرٍ!، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

 

فَلِمَاذَا نَرْغَبُ عَنْ هَدْيِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَنَطْمَعُ فِي صَاحِبِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْمَنْصِبِ وَالنَّسَبِ؟! ثُمَّ نَشْكُو بَعْدَ ذَلِكَ مُعَانَاةَ بَنَاتِنَا مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ!.

 

ثُمَّ اعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ لِلْبِنْتِ حَقًّا فِي اخْتِيَارِ الزَّوْجِ، فَلَا تُكْرَهُ عَلَى الزَّوَاجِ بِمَنْ لَا تَرْضَى بِهِ، فَيَنْبَغِي أَخْذُ إِذْنِهَا وَمُوَافَقَتِهَا؛ لِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا"(رواه مسلم)؛ وَالْأَيِّمُ: هِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي سَبَقَ أَنْ تَزَوَّجَتْ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لاَ تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلاَ تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: "أَنْ تَسْكُتَ"، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "فَالْوَلِيُّ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ الثَّيِّبِ وَمُسْتَأْذِنٌ لِلْبِكْرِ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَمَّا تَزْوِيجُهَا مَعَ كَرَاهَتِهَا لِلنِّكَاحِ؛ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالْعُقُولِ، وَاللَّهُ لَمْ يُسَوِّغْ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ إلَّا بِإِذْنِهَا، وَلَا عَلَى طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ لِبَاسٍ لَا تُرِيدُهُ، فَكَيْفَ يُكْرِهُهَا عَلَى مُبَاضَعَةِ وَمُعَاشَرَةِ مَنْ تَكْرَهُ مُعَاشَرَتَهُ؟! وَاللَّهُ قَدْ جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، فَإِذَا كَانَ لَا يَحْصُلُ إلَّا مَعَ بُغْضِهَا لَهُ وَنُفُورِهَا عَنْهُ؛ فَأَيُّ مَوَدَّةٍ وَرَحْمَةٍ فِي ذَلِكَ؟!".

 

فَلِمَاذَا يُصَادِرُ بَعْضُ الْآبَاءِ حَقَّ بَنَاتِهِمْ فِي الِاخْتِيَارِ؟! وَهُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ اللهُ -تَعَالَى- لَهُنَّ!، فَهَذَا شَرْعُنَا، وَهَذِهِ تَعْلِيمَاتُهُ وَإِرْشَادَاتُهُ؛ لِبِنَاءِ الْأُسْرَةِ الصَّالِحَةِ، وَلِتَحْقِيقِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ السَّعِيدَةِ، وَبِنَائِهَا عَلَى أُسُسٍ سَلِيمَةٍ، مِنْ أَوَّلِ مَرَاحِلِهَا.

 

أَلَا فَلْنَتَّقِ اللهَ -تَعَالَى- فِيمَنْ تَحْتَ أَيْدِينَا مِنَ الْبَنَاتِ؛ أَلَا فَـ"اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ"(رواه ابن ماجه). 

 

صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي