وَفِي الْإِعْلَانِ بِالنِّكَاحِ -أَيْضًا-: دَعْوَةٌ وَتَشْجِيعٌ لِلنَّاسِ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى الزَّوَاجِ الَّذِي يُبْعِدُ النَّاسَ عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَيُكْثِرُ عَدَدَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ حِينَمَا يَشْهَدُونَ الْأَعْرَاسَ يَتَشَجَّعُونَ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الزَّوَاجِ، خَاصَّةً الْعُزَّابَ مِنْهُمْ...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: حِينَمَا تَكُونُ الْعُقُودُ عَلَى أُمُورٍ عَظِيمَةٍ؛ فَإِنَّهُ يُتَوَثَّقُ لَهَا بِمَا لَا يُتَوَثَّقُ لِغَيْرِهَا، وَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا لَا يُشْتَرَطُ فِي سِوَاهَا؛ فَعَقْدُ النِّكَاحِ لَمَّا كَانَ عَقْدًا عَظِيمًا اشْتُرِطَ لَهُ شُرُوطٌ، مِنْهَا: الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ؛ وَذَلِكَ لِبَيَانِ عَظَمَةِ الزَّوَاجِ وَأَهَمِّيَّتِهِ، وَلِدَفْعِ التُّهْمَةِ بِالزِّنَا عَنِ الزَّوْجَيْنِ؛ فَإِنَّهَا لَا تَنْدَفِعُ إِلَّا بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَلِأَنَّ الْإِشْهَادَ فِيهِ حَقٌّ لِلْوَلَدِ؛ حَتَّى لَا يَتَّهِمَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِنَفْيِهِ مِنْهُ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى النِّكَاحِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ، وَأَيُّ نِكَاحٍ لَيْسَ عَلَيْهِ إِشْهَادٌ فَهُوَ نِكَاحٌ بَاطِلٌ، حَكَمَ بِهِ نَبِيُّكْم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ"(رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ).
وَعَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ –رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا- قَالَتْ: "لَا بُدَّ فِي النِّكَاحِ مِنْ أَرْبَعَةٍ: الْوَلِيِّ، وَالزَّوْجِ، وَالشَّاهِدَيْنِ"(رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ).
وَفِي قَوْلِهِ: (وَشَاهِدَيْنِ): فِيهِ إِشَارَةٌ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- إِلَى شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ؛ أَلَا وَهُوَ الْعَدَدُ فِي الشُّهُودِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ شُرُوطَ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى الزَّوَاجِ:
الْعَدَدُ، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ شَاهِدَانِ؛ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ"(رواه ابن حبان).
وَمِنْ شُرُوطِهِ: الْإِسْلَامُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدَانِ مُسْلِمَيْنِ، وَمَعَ الْإِسْلَامِ الْعَدَالَةُ؛ بِأَنْ يَكُونَا مُسْتَقِيمَيْنِ عَلَى تَعَالِيمِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ الْحَنِيفِ؛ لِقَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: "وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ".
لَكِنَّ الْعَدَالَةَ فِي الشُّهُودِ -يَا عِبَادَ اللهِ- لَا تَتَوَفَّرُ دَائِمًا فِي كُلِّ الْمُسْلِمِينَ؛ فَكَمْ مِنْ أَنْكِحَةٍ شَهِدَ عَلَيْهَا نَاسٌ مُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ، وَأُجِيزَتْ تِلْكَ الْعُقُودُ وَصَحَّتْ، وَلَوْ كَانَتِ الْعَدَالَةُ شَرْطًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْعُسْرِ؛ لِقِلَّةِ أَهْلِ الْعَدَالَةِ، خَاصَّةً فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي قَلَّ فِيهِ الصَّلَاحُ وَالْمُصْلِحُونَ، وَكَثُرَ فِيهِ سِوَاهُمْ؛ فَلِهَذَا لَمْ تَكُنِ الْعَدَالَةُ فِي الْوَلِيِّ وَالشَّاهِدَيْنِ شَرْطًا اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ.
وَمِنْ شُرُوطِ الشُّهُودِ عَلَى النِّكَاحِ: التَّكْلِيفُ؛ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدَانِ بَالِغَيْنِ عَاقِلَيْنِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَجْنُونٍ، وَلَا شَهَادَةُ صَبِيٍّ؛ لِقَوْلِ اللهِ –تَعَالَى-: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)[البقرة:282].
وَمِنْ شُرُوطِ الشُّهُودِ عَلَى النِّكَاحِ: الذُّكُورَةُ، "فَلَا يَصِحُّ الزَّوَاجُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ وَلَا بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ لِخُطُورَةِ الزَّوَاجِ وَأَهَمِّيَّتِهِ، بِخِلَافِ الإشهاد فِي الْأَمْوَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَلَّا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ، وَلَا فِي النِّكَاحِ، وَلَا فِي الطَّلَاقِ".
وَمِنْ شُرُوطِ الشُّهُودِ عَلَى النِّكَاحِ: سَمَاعُ الشُّهُودِ كَلَامَ الْعَاقِدَيْنِ وَفَهْمُ الْمُرَادِ مِنْهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَسْمَعَا أَوْ لَمْ يَفْهَمَا خِطَابَهُمَا فَلَا تَصِحُّ الإشهاد حِينَئِذٍ.
وَلَا بُدَّ -أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ الْكِرَامُ- أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى عَقْدِ الزَّوَاجِ مُصَاحِبَةً لِلْعَقْدِ، فَلَا تَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَلَا تَتَأَخَّرُ عَنْهُ؛ لِكَيْ يَسْمَعَ الشُّهُودُ كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ أَوْ وَكِيلِهِ).
وَمَتَى تَمَّ الْعَقْدُ بِدُونِ الإشهاد فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: يُسْتَحَبُّ فِي النِّكَاحِ الْإِعْلَانُ بِهِ، وَإِذَاعَتُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِظْهَارُهُ بَيْنَهُمْ؛ حَتَّى يَتَمَيَّزَ عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ، كَمَا أَنَّ فِيهِ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، كَمَا أَمَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضحى:11].
عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضحى:11]. قَالَ: "مَا عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ فَحَدِّثْ إِخْوَانَكَ"(تفسير ابن كثير).
وَفِي الْإِعْلَانِ بِالنِّكَاحِ -أَيْضًا-: إِظْهَارٌ لِلسُّرُورِ بِمَا أَحَلَّ اللهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالْبَهْجَةُ بِنِعْمَةِ الزَّوَاجِ عَلَى الزَّوْجَيْنِ وَأُسْرَتَيْهِمَا، وَالزَّوَاجُ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا)[يونس:58].
وَفِي الْإِعْلَانِ بِالنِّكَاحِ -أَيْضًا-: دَعْوَةٌ وَتَشْجِيعٌ لِلنَّاسِ عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى الزَّوَاجِ الَّذِي يُبْعِدُ النَّاسَ عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَيُكْثِرُ عَدَدَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ حِينَمَا يَشْهَدُونَ الْأَعْرَاسَ يَتَشَجَّعُونَ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الزَّوَاجِ، خَاصَّةً الْعُزَّابَ مِنْهُمْ.
وَفِي الْإِعْلَانِ بِالنِّكَاحِ -أَيْضًا-: يَلْتَقِي الْمُسْلِمُونَ؛ فَيَتَعَارَفُونَ، وَيَتَآلَفُونَ، وَيُجَدِّدُونَ عُهُودَ الْمَوَدَّةِ وَالْإِخَاءِ؛ فَقَدْ يَنْشَغِلُ الْمُسْلِمُ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، فَلَا يَجْمَعُهُ بِهِ إِلَّا لِقَاءُ الْأَعْرَاسِ.
وَفِي الْإِعْلَانِ بِالنِّكَاحِ -أَيْضًا-: فَرْقٌ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ فَإِنَّ الْحَلَالَ يُطْلَبُ فِيهِ الْإِظْهَارُ، وَأَمَّا الْحَرَامُ فَإِنَّ أَهْلَهُ يَطْلُبُونَ فِيهِ الْإِخْفَاءَ؛ نَظَرًا لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْفَاحِشَةِ مِنْ تَبِعَاتٍ مُؤْلِمَةٍ عَلَى أَصْحَابِهَا.
فَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاطِبٍ الْجُمَحِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ: الصَّوْتُ وَالدُّفُّ فِي النِّكَاحِ"(رواه أحمد والترمذي).
لِهَذَا كُلِّهِ جَاءَ فِي الْحَثِّ عَلَى إِعْلَانِ النِّكَاحِ: مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَعْلِنُوا النِّكَاحَ"(رواه ابن حبان).
وَقَدْ أَتَى فِي الدَّعْوَةِ إِلَى إِعْلَانِ النِّكَاحِ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، غَيْرَ أَنَّ غَالِبَهَا فِيهِ ضَعْفٌ، لَكِنْ مَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِعْلَانِ؛ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ وَاسِعَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَقَالٌ، إِلَّا أَنَّهَا يُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا".
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَيَكُونُ إِعْلَانُ النِّكَاحِ بِمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَةُ كُلِّ مُجْتَمَعٍ، بِشَرْطِ أَلَّا تَكُونَ تِلْكَ الْعَادَةُ مُخَالِفَةً لِشَرْعِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ كَالْمُوسِيقَى وَالِاخْتِلَاطِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالرَّقْصِ الْفَاضِحِ.
وَمِمَّا يُعْلَنُ بِهِ النِّكَاحُ: اجْتِمَاعُ النَّاسِ عِنْدَ الْعَرُوسَيْنِ مُهَنِّئِينَ وَمُبَارِكِينَ؛ فَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: جَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَعَلَتْ جُوَيْرَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ. فَقَالَ: "دَعِي هَذِهِ وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ"(رواه البخاري).
وَعَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: أَنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا عَائِشَةُ: مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ"(رواه البخاري).
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُرَادِ بِاللَّهْوِ: "الْإِنْشَادُ الَّذِي يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي الْعُرْسِ".
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ: "فَقَالَ: فَهَلْ بَعَثْتُمْ مَعَهَا جَارِيَةً تَضْرِبُ بِالدُّفِّ وَتُغَنِّي؟" قُلْتُ: مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: تَقُولُ:
أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ***فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ
وَلَوْلَا الذَّهَبُ الْأَحْـ** ـمَرُ مَا حَلَّتْ بِوَادِيكُمْ
وَلَوْلَا الْحِنْطَةُ السَّمْرَا***ءُ مَا سَمِنَتْ عَذَارِيكُمْ"(رواه الطبراني).
فَنَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُحَصِّنَ شَبَابَنَا وَفَتَيَاتِنَا بِالزَّوَاجِ الَّذِي يَرْضَاهُ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الإشهاد عَلَى النِّكَاحِ، وَاسْتِحْبَابِ إِعْلَانِهِ؛ يُوجِبُ الْبُعْدَ عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ، فَمَا هُوَ نِكَاحُ السِّرِّ؟
يَرَى جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نِكَاحَ السِّرِّ "هُوَ مَا تَوَافَرَ فِيهِ الْإِشْهَادُ مَعَ التَّوَاصِي عَلَى كِتْمَانِهِ".
وَقَدْ حَكَمَ الْعُلَمَاءُ بِكَرَاهَةِ هَذَا النِّكَاحِ؛ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِشْهَارَ بِالنِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ، وَهُنَاكَ صُورَةٌ أُخْرَى لِنِكَاحِ السِّرِّ، وَهِيَ: أَلَّا يَكُونَ فِيهِ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَاحِدٌ مِنَ الرِّجَالِ، وَشَاهِدَةٌ مِنَ النِّسَاءِ.
وَهَذَا النِّكَاحُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ بَاطِلًا، لَا مَكْرُوهًا كَالصُّورَةِ الْأُولَى.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ هَذَا النِّكَاحِ: مَا جَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ"(رواه الطبراني).
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ أُتِيَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ إِلَّا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ: "هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ وَلَا أُجِيزُهُ، وَلَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ فِيهِ لَرَجَمْتُ".
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: كَانَ أَبِي يَقُولُ: "لَا يَصْلُحُ نِكَاحُ السِّرِّ".
وَعَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ نِكَاحُ السِّرِّ".
فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ بِالشُّرُوطِ الَّتِي سَمِعْتُمُ الْحَدِيثَ عَنْهَا، وَأَنَّ إِعْلَانَ الزَّوَاجِ مِمَّا يُسْتَحَبُّ، وَأَنَّ نِكَاحَ السِّرِّ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَهُوَ نِكَاحٌ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ بِشُهُودٍ، وَلَكِنْ تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ؛ فَهُوَ مَكْرُوهٌ.
أَلَا فَلْيَحْرِصِ الْمُسْلِمُ عَلَى فِعْلِ مَا يُحبُّ اللهُ فِي النِّكَاحِ، وَلْيَبْتَعِدْ عَمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ فِيهِ.
نَسْأَلُ اللهَ –تَعَالَى- أَنْ يُوَفِّقَنَا لِفِعْلِ مَا يُرْضِيهِ فِي أَفْرَاحِنَا وَأَحْوَالِنَا كُلِّهَا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي