أَمَّا مَنْ يَجِبُ أَخْذُ رِضَاهَا مِنَ النِّسَاءِ عِنْدَ إِرَادَةِ تَزْوِيجِهَا فَهِيَ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّهَا قَدْ أَصْبَحَتْ مُدْرِكَةً، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ، وَلِأَنَّهَا قَدْ غَدَتْ تَعْرِفُ مَصْلَحَتَهَا وَمَضَرَّتَهَا، وَصَارَتْ تُدْرِكُ مِنْ صِفَاتِ الرَّجُلِ مَا يُرَغِّبُهَا فِيهِ وَمَا يُنَفِّرُهَا مِنْهُ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ بُنِيَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ بِنَاءً مُحْكَمًا، رُوعِيَ فِيهَا جَلْبُ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعُ الْمَفْسَدَةِ، وَاسْتُشْرِفَتْ فِيهَا الْمَآلَاتُ، فَوُضِعَ لَهَا مَا يُنَاسِبُ مِنَ التَّشْرِيعَاتِ الْمُبْرَمَةِ، وَقُرِّرَتْ تِلْكَ الْمَسَائِلُ الْحُكْمِيَّةُ تَقْرِيرًا لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَلَا مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَلَا مُجْتَمَعٍ دُونَ آخَرَ، بَلْ كَانَ الدَّوَامُ وَالْعُمُومُ هُوَ السِّمَةَ الْبَارِزَةَ لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ الْإِسْلَامِيَّةِ، الَّتِي جَاءَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَفِي سُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي يَعْتَرِيهَا الْقُصُورُ وَالتَّغْيِيرُ، وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ؛ وَصَدَقَ اللَّهُ إِذْ يَقُولُ: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النِّسَاءِ: 82]، وَقَالَ: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فُصِّلَتْ: 42].
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ أَحْكَامَ النِّكَاحِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِرِضَا الْمَرْأَةِ -إِيجَابًا وَإِسْقَاطًا- عِنْدَ تَزْوِيجِهَا؛ فَلَيْسَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ يَجِبُ رِضَاهَا، وَلَا كُلُّ امْرَأَةٍ لَا يَتَعَيَّنُ رِضَاهَا وَمُوَافَقَتُهَا. بَلْ هُنَاكَ نِسَاءٌ لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُنَّ، وَنِسَاءٌ أُخَرُ يُشْتَرَطُ رِضَاهُنَّ.
فَأَمَّا النِّسَاءُ اللَّاتِي لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُنَّ فَهُنَّ: الصَّغِيرَةُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا رَآهَا وَلِيُّهَا صَالِحَةً لِلزَّوَاجِ، وَخَطَبَهَا كُفْءٌ فَإِنَّهُ يُزَوِّجُهَا بِدُونِ اسْتِئْذَانِهَا؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ مَصْلَحَتَهَا، وَبِعِنَايَةٍ يَخْتَارُ لَهَا مَا يُنَاسِبُهَا، وَأَمَّا هِيَ فَلِصِغَرِهَا وَقِلَّةِ خِبْرَتِهَا بِالْحَيَاةِ وَبِالرِّجَالِ فَإِنَّهَا لَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ.
وَهَذَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- زَوَّجَ عَائِشَةَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ بِرَسُولِ اللَّه -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ رِضَاهَا. فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِسِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِي وَأَنَا بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ، قَالَتْ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَوُعِكْتُ شَهْرًا فَوَفَى شَعْرِي جُمَيْمَةً، فَأَتَتْنِي أُمُّ رُومَانَ، وَأَنَا عَلَى أُرْجُوحَةٍ، وَمَعِي صَوَاحِبِي، فَصَرَخَتْ بِي فَأَتَيْتُهَا، وَمَا أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي فَأَخَذَتْ بِيَدِي، فَأَوْقَفَتْنِي عَلَى الْبَابِ، فَقُلْتُ: هَهْ هَهْ، حَتَّى ذَهَبَ نَفَسِي، فَأَدْخَلَتْنِي بَيْتًا، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ، فَغَسَلْنَ رَأْسِي وَأَصْلَحْنَنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى، فَأَسْلَمْنَنِي إِلَيْهِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَمِمَّنْ لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهَا مِنَ النِّسَاءِ عِنْدَ تَزْوِيجِهَا: الْمَجْنُونَةُ وَالْمَعْتُوهَةُ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ إِذَا رَأَى أَنَّ تَزْوِيجَهُمَا فِي مَصْلَحَتِهِمَا؛ كَصِيَانَتِهِمَا عَنِ الْفُجُورِ، أَوْ رَأَى طَبِيبٌ ثِقَةٌ أَنَّ تَزْوِيجَهُمَا يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مِنْ دَاءَيْهِمَا أَوْ يَشْفِيهِمَا مِنْهُمَا، فَعَلَى وَلِيِّهِمَا تَزْوِيجُهُمَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمَا؛ لِكَوْنِهِمَا لَيْسَا مِمَّنْ يُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: أَمَّا مَنْ يَجِبُ أَخْذُ رِضَاهَا مِنَ النِّسَاءِ عِنْدَ إِرَادَةِ تَزْوِيجِهَا فَهِيَ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؛ لِأَنَّهَا قَدْ أَصْبَحَتْ مُدْرِكَةً، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ، وَلِأَنَّهَا قَدْ غَدَتْ تَعْرِفُ مَصْلَحَتَهَا وَمَضَرَّتَهَا، وَصَارَتْ تُدْرِكُ مِنْ صِفَاتِ الرَّجُلِ مَا يُرَغِّبُهَا فِيهِ وَمَا يُنَفِّرُهَا مِنْهُ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ رِضَا الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، وَعَدَمِ جَوَازِ إِكْرَاهِهَا عَلَى الزَّوَاجِ بِمَنْ لَا تَرْضَاهُ، وَأَنَّ الْمُكْرَهَةَ لَهَا حَقُّ الْفَسْخِ:
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا"، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ: "لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ".
فَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي هَذَا الْحَدِيثِ الثَّيِّبَ وَالْبِكْرَ فِي اعْتِبَارِ حَقِّهِمَا فِي الرِّضَا، فَذَكَرَ أَنَّ الثَّيِّبَ يُطْلَبُ أَمْرُهَا، وَالْبِكْرَ يُطْلَبُ إِذْنُهَا.
وَعَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ فَتَاةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ بِي خَسِيسَتَهُ، وَأَنَا كَارِهَةٌ، قَالَتِ: اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَتْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِيهَا فَدَعَاهُ، فَجَعَلَ الْأَمْرَ إِلَيْهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تَعْلَمَ النِّسَاءُ أَنْ لَيْسَ إِلَى الْآبَاءِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ)، فَقَوْلُهَا: "أَنْ تَعْلَمَ النِّسَاءُ" لَفْظٌ عَامٌّ يَشْمَلُ الثَّيِّبَ وَالْبِكْرَ.
وَعَنْ خَنْسَاءَ بِنْتِ خِذَامٍ الْأَنْصَارِيَّةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ فَكَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَدَّ نِكَاحَهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ). وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنْ خِذَامًا أَبَا وَدِيعَةَ أَنْكَحَ ابْنَتَهُ رَجُلًا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُكْرِهُوهُنَّ، فَنَكَحَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَا لُبَابَةَ، وَكَانَتْ ثَيِّبًا".
عِبَادَ اللَّهِ: وَكَمَا لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ الْبَالِغَةِ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا إِلَّا بِرِضَاهَا؛ فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ إِجْبَارُهَا عَلَى الْبَقَاءِ لَدَى زَوْجٍ لَا تَرْغَبُ فِيهِ؛ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ -مَعْشَرَ الْفُضَلَاءِ- وَاقِعَ الْعَلَاقَةِ الَّتِي بُنِيَتْ بِدُونِ رَغْبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ أَوْ كِلَيْهِمَا؛ فَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- حَلًّا لِلزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ، وَحَلًّا لِلْمَرْأَةِ بِالْخُلْعِ.
فَفِي الْخُلْعِ جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟". قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ، وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: هُنَاكَ عَلَامَاتٌ يُعْرَفُ بِهَا رِضَا الْمَرْأَةِ بِالزَّوَاجِ، وَيُعْرَفُ بِهَا كُرْهُهَا، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْضَ تِلْكَ الْعَلَامَاتِ:
فَالثَّيِّبُ يُعْرَفُ رِضَاهَا بِأَمْرِهَا، وَتَصْرِيحِهَا بِالنُّطْقِ دُونَ السُّكُوتِ، فَلَا تُزَوَّجُ حَتَّى يُطْلَبَ أَمْرُهَا بِذَلِكَ، فَعَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).
وَأَمَّا الْبِكْرُ فَعَلَامَاتُ رِضَاهَا: سُكُوتُهَا عِنْدَمَا تُخْبَرُ عَنْ فُلَانٍ أَنَّهُ يُرِيدُ الزَّوَاجَ بِهَا، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صِمَاتُهَا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: "وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا".
وَالسَّبَبُ فِي هَذَا التَّفْرِيقِ بَيْنَ عَلَامَاتِ رِضَا الثَّيِّبِ وَرِضَا الْبِكْرِ: أَنَّ الثَّيِّبَ قَدْ عَاشَرَتِ الرَّجُلَ فَقَلَّ خَجَلُهَا، بِخِلَافِ الْبِكْرِ فَإِنَّ حَيَاءَهَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا فَيَمْنَعُهَا مِنَ التَّصْرِيحِ.
فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ". قُلْتُ: إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحْيِي؟ قَالَ: "إِذْنُهَا صُمَاتُهَا"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
وَهُنَاكَ عَلَامَاتٌ أُخْرَى لِلرِّضَا مِنْهَا: الْبُكَاءُ وَالضَّحِكُ؛ فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِنُزُولِ الدُّمُوعِ مِنْ غَيْرِ صُرَاخٍ فَهُوَ عَلَامَةُ رِضًا، وَإِنْ كَانَ بِرَفْعِ صَوْتٍ وَعَوِيلٍ فَهُوَ عَلَامَةُ رَفْضٍ.
وَأَمَّا الضَّحِكُ فَإِنْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ تَبَسُّمٍ وَاسْتِنَارَةِ وَجْهٍ فَهُوَ عَلَامَةُ رِضًا، وَإِنْ كَانَ ضَحِكَ اسْتِهْزَاءٍ وَاسْتِهْجَانٍ فَهُوَ عَلَامَةُ رَفْضٍ.
عِبَادَ اللَّهِ: فَإِذَا حَصَلَ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ زُوِّجَتْ بِغَيْرِ رِضَاهَا؛ فَإِنَّ الزَّوَاجَ يَصِحُّ، لَكِنْ لَهَا حَقُّ فَسْخِهِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا شَرْطُ لُزُومٍ وَلَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ كَمَا فِي حَدِيثِ الْفَتَاةِ الَّتِي زَوَّجَهَا أَبُوهَا ابْنَ أَخِيهِ، وَكَيْفَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ الْأَمْرَ إِلَيْهَا فِي إِمْضَاءِ الزَّوَاجِ أَوْ رَدِّهِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُرْشِدَ الْأَوْلِيَاءَ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ فِي تَزْوِيجِ بَنَاتِهِمْ وَأَخَوَاتِهِمْ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ بَعْضَ الْأَزْوَاجِ عَلَيْهِمْ سُلْطَةٌ أَبَوِيَّةٌ قَدْ يَفْرِضُ عَلَيْهِمْ بِرَّهَا أَوِ الْخَوْفَ مِنْ مُعَارَضَتِهَا الْقَبُولَ بِاخْتِيَارِ أُولَئِكَ الْآبَاءِ أَوِ الْأُمَّهَاتِ لَهُمْ مَعَ كُرْهِ الْأَبْنَاءِ لِذَلِكَ الِاخْتِيَارِ.
فَلِذَلِكَ نَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ يُجْبِرُوا أَبْنَاءَهُمُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الزَّوَاجِ بِنِسَاءٍ لَا يَرْضَوْنَهُنَّ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ الرِّضَا مِنْهُمْ لَهُ عَوَاقِبُ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ عَلَى حَيَاتِهِمُ الزَّوْجِيَّةِ، لَكِنْ هُنَاكَ أَبْنَاءٌ لَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُمْ وَيَقُومُ رِضَا آبَائِهِمْ مَقَامَ رِضَاهُمْ، وَهُمُ الْأَبْنَاءُ غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ؛ فَإِنْ رَأَى وَلِيُّ الصَّغِيرِ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلزَّوَاجِ زَوَّجَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ رَأَى أَنَّ ابْنَهُ الْمَجْنُونَ أَوِ الْمَعْتُوهَ سَيَنْفَعُهُ الزَّوَاجُ وَيُخَفِّفُ مِنْ دَائِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَارِعَ إِلَى تَزْوِيجِهِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ رِضَا الزَّوْجَيْنِ الْمُكَلَّفَيْنِ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى رِضَا كُلِّ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ سَيَعِيشَانِ هَذِهِ الْحَيَاةَ الزَّوْجِيَّةَ حُلْوَهَا وَمُرَّهَا، غَيْرَ أَنَّنَا نَقُولُ لِلْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ: يَنْبَغِي عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُغْفِلُوا رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَاخْتِيَارَهُمَا، فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ لَنْ يَخْتَارَا -فِي الْغَالِبِ- لِأَبْنَائِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ إِلَّا مَا يُنَاسِبُهُمْ؛ فَلَعَلَّ اخْتِيَارَ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ لِابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ اخْتِيَارِهِمَا، وَذَلِكَ حِينَمَا يَقُومُ اخْتِيَارُ الشَّبَابِ عَلَى الْمَظَاهِرِ دُونَ النَّظَرِ إِلَى الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ.
وَلَعَلَّ مُوَافَقَةَ الِابْنِ أَوِ الْبِنْتِ لِلْوَالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ نَظَرَا إِلَى السُّلُوكِ الْحَسَنِ لِلْمَخْطُوبَةِ أَوِ الْخَاطِبِ؛ يَكُونُ مِنَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)[الْإِسْرَاءِ: 23].
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسُخْطُ اللَّهِ فِي سُخْطِ الْوَالِدِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: الْحِرْصَ الْحِرْصَ عَلَى بِنَاءِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى الرِّضَا الْمُتَقَدِّمِ لِلزَّوَاجِ؛ فَإِنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى الْوِئَامِ وَاسْتِمْرَارِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ فَإِنَّهُ مِعْوَلٌ يَهْدِمُ الْحَيَاةَ الزَّوْجِيَّةَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي