حسبوا أن التباعد الجسديّ يعني التباعد القلبي فكثرت عزلتهم وقطعوا أرحامهم، حسبوا أن إغلاق المساجد مؤقتًا لدرء الوباء يعني ترك صلاة الجماعة أبدًا فهجروا المساجد ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، نساء لبست الكمامات درءًا للوباء لكنها جعلت منها وسيلة للتحلل من الغطاء وبداية مرحلة التخلي عن الحجاب.
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي العزة والكبرياء، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يبتلي بالخير والشر ويأخذ بالبأساء والضراء، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الخلق وصفوة الأنبياء، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة النجباء وسلم تسليمًا.
أما بعد: فاتقوا الله يا أمة محمد، واتقوا غضب الجبار فإن عقابه سريع، وأخذه أليم شديد،
إنها سنن الله ولن تجد لسُنة الله تبديلاً ولن تجد لسُنة الله تحويلاً.
سُنة الله أنه ما أصابكم -أيها الناس- من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى:30]، وأنه ما ظهر الفساد في البر والبحر والأجواء، إلا بما كسبت أيدي الناس من انحرافات وتجاوزات وتَعَدٍّ لحدود الله ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم:41]، ولو يؤاخذ الله الناس بكل ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يبلوهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون. (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا)[فاطر:45].
سنة الله أن جعل الْأَوْبِئَةُ والأمراض ابْتِلَاءٌ منه -تَعَالَى- أوَ عُقُوبَةٌ؛ فمن بغى وطغى واستكبر وظلم فهو عرضة لعقاب من الله يقدره بحكمته (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ)[الأعراف:133]، وإنْ أَصَابَتْ مُؤْمِنِينَ قَائِمِينَ بِأَمْرِ اللهِ -تَعَالَى- فَهُوَ ابْتِلَاءٌ، فَإِنْ صَبَرُوا وَاحْتَسَبُوا أُجِرُوا أَجْرًا عَظِيمًا، فَمَنْ مَاتَ فِي الْوَبَاءِ يرجى أن ينال أجر الشهادة.
عن عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الطَّاعُونِ، "فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ".
ليس لله حاجة في أن يُعذّب عباده و(مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا)[النساء:147]، وهو اللطيف بعباده، واللطيف لما يشاء وهو البر الرحيم (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)[الشورى:68].
إن الله بحكمته يجعل الوباء والبلاء في عباده المؤمنين لعلهم يضرعون لعلهم يرجعون لعلهم يتذكرون، لعلهم يتوبون.. (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الأنفال:33]، لكن واقعنا ينبئنا أن فئة من المسلمين ما زادتهم هذه الابتلاءات إلا نفورًا، فما استكانوا لربهم وما يتضرعون، (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الأنعام:43].
مرَّت عليهم فترة في ظل الوباء والبلاء رأوا فيها قدرة الله وعظمته وحكمته وتدبيره، أرسل أهون مخلوقاته وأضعف جنوده، جرثومة لا ترى بالعين المجردة إلى أقوى الدول بأسًا وأكثرهم عددًا وعدةً فأفزعتهم وجعلتهم حيارى يستجدون العالم للقضاء على هذا الوباء
مرَّ الوباء على الناس، ورأوا آثاره في أنفسهم ونفسياتهم واقتصادهم وأمور دينهم ودنياهم فما لجأوا إلى الله، وما أكسبهم ذلك تصحيحًا للمسار وأوبة إلى العزيز الغفار.
حسبوا أن التباعد الجسدي يعني التباعد القلبي فكثرت عزلتهم وقطعوا أرحامهم، حسبوا أن إغلاق المساجد مؤقتًا لدرء الوباء يعني ترك صلاة الجماعة أبدًا فهجروا المساجد ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، نساء لبست الكمامات درءًا للوباء لكنها جعلت منها وسيلة للتحلل من الغطاء وبداية مرحلة التخلي عن الحجاب.
أفهكذا تستفيد الأمة من أوجاعها ومصائبها؟!، أوليس الأحق هو أن تعود الأمة إلى ربها وتعلنها توبة وأوبة صادقة لله، فإذا علم -سبحانه- صدقهم ورأى خضوعهم له وتذللهم بين يديهم رفع عنهم البأساء والضراء (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأعراف:96].
إنه ليس لها من دون الله كاشفة، ولا ملجأ من الله إلا إليه؛ فالملك ملكه، والخلق خلقه، وكل شيء بيده، فواجهوا البلاء والوباء والغلاء بدعاء رب الأرض والسماء وكثرة الاستغفار، والتغيير لا يتم إلا بالتغيير (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد:11]، ولنحذر أن نكون من القاسية قلوبهم الذي تمر عليهم آيات الله في السماء والأرض فيمرون عليها وهم عنها معرضون.
إن الواجب على كل مسلم أن يكون في أحواله كلها معْتصمًا بربِّه -جلّ وعلا- متوكِّلاً عليه، معتقدًا أنّ الأمور كلّها بيده (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)[التغابن:11]، فالأمور كلُّها بيد الله وطوْع تدبيره وتسخيره؛ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)[الأحزاب: 17].
المسلم الحق يفوّض أمره إلى الله راجيًا طامعًا معتمدًا متوكِّلاً، لا يرجو العافية والشفاء والسلامة من كل وباء وداء إلَّا من ربِّه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فلا تزيدُه الأحداثُ ولا يزيدُه حلول المصاب إلا التجاءً واعتصامًا بالله (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[آل عمران: 101].
أقول هذا القول...
الخطبة الثانية:
أما بعد: ومع الوباء والأدواء تظهر واقعية الإسلام وتوازنه، فمن قال: "لا عدوى ولا طِيَرة"، هو القائل: "لا يُورد ممرض على مُصِح"، والقائل: "إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها".
إنه دين ينهى العباد عن اعتقاد أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْأَوْبِئَةَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا وقوتها، وَالواقع أَنهَا إِنمَا تُعْدِي بِقَدَرِ اللهِ -تَعَالَى-، ويأمر بفعل الأسباب من وقاية وعلاج، وتحصّن بالأذكار ومحافظة على الصلاة واجتناب لأسباب الوباء من فواحش ومنكرات، وتعوذ بالله من زوال نعمته وفجاءة نقمته وتحول عافيته وجميع سخطه، مع الأخذ بكل سبب نافع مباح وفي الحديث "تداووا يا عباد الله ولا تداووا بحرام".
إنَّ تصريحات المسؤولين عن عودة الوباء وكثرة ضحاياه تجعل من الحتم على كل مسلم عاقل أن يتقيه بفعل الأسباب، وتمام التوكل هو فعل الأسباب مع الاعتصام بمسببها وموجدها -جل جلاله-.
وحتى لا نعود إلى مربع الأحزان؛ حيث الحَجْر في البيوت وإغلاق المساجد وتكدّر الحياة وانقطاع التزاور ووحشة القلوب وتنافر الأبدان، فإن عليها أن نتسلح بالوعي، وأن نقرن توكلنا واعتمادنا على الله بالالتزام بكل إجراء احترازيّ مباح يكفل لنا -بإذن الله- السلامة من الوباء وغوائله، وحتى يرتفع الوباء ويعود إلى الحياة الجمال والصفاء فلنتق كل وباء فكري يجلب لنا أوبئة الأبدان والبلدان.
يا ليتنا ندرك أن أعظم المصائب مصاب الإنسان في دينه، وأعظم الخسران خسارته لمبادئه وقيمه (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[الزمر:15].
يا ليتنا نتقي وباء التغريب، وداء التبعية والانهزامية وضياع الهوية، ويا ليتنا نحافظ على ديننا الذي هو عصمة أمرنا، كما نحافظ على دنيانا التي فيها معاشنا، يا ليتنا ندرك أن كل فاحشة ومنكر هي الرياح التي تنقل كل داء ووباء، يا ليت نساءنا يرتدين لباس الحياء كما يتدرعن بكمامات عن الوباء، يا ليتهن يدركن أن التبرج والسفور والخضوع في القول والتساهل في مخالطة الرجال وسماع الغناء كلها مستنقعات آسنة تنبعث منها أوبئة الضياع والانحلال ويتبعها أمراض الأجساد وأدواؤها جزاءً وفاقًا ولا يظلم ربك أحدًا.
اللهم صَلِّ وسَلِّم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي