أيها المؤمنون: إن الله -جل وعلا- له الحكمة البالغة في خلقه وشرعه، والله -جل وعلا- يختص برحمته من يشاء فضلاً وشرفا سواء ذلك مما يتعلق بالأشخاص أو الأزمنة أو الأمكنة؛ كما قال الله -عز وجل-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)[القصص: 68]، ومما يدخل في ذلك ما خص الله -جل وعلا- به شهر شعبان شهرنا هذا؛ فكان نبينا -عليه الصلاة والسلام- يصوم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلِّغ الناس شرعه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله -تعالى- فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
ثم أيها المؤمنون: إن الله -جل وعلا- له الحكمة البالغة في خلقه وشرعه، والله -جل وعلا- يختص برحمته من يشاء فضلاً وشرفا سواء ذلك مما يتعلق بالأشخاص أو الأزمنة أو الأمكنة؛ كما قال الله -عز وجل-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)[القصص: 68]، ومما يدخل في ذلكم -أيها المؤمنون- ما خص الله -جل وعلا- به شهر شعبان شهرنا هذا؛ فكان نبينا -عليه الصلاة والسلام- يصوم أكثر شعبان، كما ثبت بذلكم الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، ويخبر صلوات الله وسلامه عليه عن غفلة كثير من الناس عنه، ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ".
وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ؟! قَالَ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ".
أيها المؤمنون: إن المسلم إذا سمع بهدي النبي -الكريم عليه الصلاة والسلام- وسنته الصحيحة المأثورة عنه يحرص على الإقبال عليها إدراكاً لأجرها وفوزاً بثوابها، ومن لم ينشط لذلك ولم يتحقق له فعل ذلك فإنه يفوته أجر تلك السنن المستحبات ولا إثم عليه.
أما -عباد الله- أن يتحول الحال في المسلم إلى رغبة عن السنة، وإعراض عنها، وإهمال للعمل بها، وتفريط فيها، وفي الوقت نفسه يشتد تمسكه وتعظم عنايته بأمور محدثات وأعمال مبتدعات لا أصل لها في شرع الله، ولا في هدي رسوله -الكريم عليه الصلاة والسلام-، فإن حال المرء حينئذ -عباد الله- حال تنذر بخطر لإعراضه عن السنة وعدم رغبته فيها مع إقبال شديد منه على أمور محدثات وأعمال لا أصل لها في شرع الله -تبارك وتعالى-.
أيها المؤمنون: ومن ذلكم حرص بعض الناس على أعمال وفعال يقومون بها ليلة النصف من شعبان ويومه كذلك متقربين بها إلى الله -عز وجل-، مع حرص وعناية شديدة بتلكم الأعمال، مع أنها لا تقوم على أصل، ولا يثبت بها دليل، وفي الوقت نفسه يعرضون عن الهدي الثابت والسنة الصحيحة عن رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-، وفي هذا المقام يقول الإمام العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- في رسالة له مختصرة أفردها فيما يتعلق بالبدع المحدثات في ليلة النصف من شعبان، يقول رحمه الله تعالى: "ومن البدع التي أحدثها بعض الناس: بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان، وتخصيص يومها بالصيام، وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد عليه، وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها، أما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع، كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم، وورد فيها أيضًا آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم. والذي أجمع عليه جمهور العلماء: أن الاحتفال بها بدعة، وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة وبعضها موضوع" ثم ساق رحمه الله -تعالى- نقولاً عديدة في ذلك، ثم قال: ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم يتضح لطالب الحق: أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله -عز وجل-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة: 3]، وما جاء في معناها من الآيات، وقول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ"، وما جاء في معناه من الأحاديث" انتهى المقصود نقله من كلامه رحمه الله -تعالى-.
أيها المؤمنون -عباد الله-: وعندما يتأمل المتأمل في واقع بعض الناس في تلك الليلة يرى أعمالاً متنوعات يحرص عليها، ويعتنى بالمحافظة عليها، ثم إذا فتش المفتش ونظر الناظر في الدليل على ذلك لا يجد عليها شيئاً ثابتاً في هدي نبينا -صلوات الله وسلامه عليه-.
وهذه -عباد الله- مصيبة عظمى عندما يُعرض المرء عن السنن الثابتات، وينخرط انخراطاً شديداً وراء أعمال محدثات، لا أصل لها في شرع الله، ولا دليل عليها في سنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-.
أيها المؤمنون: ومن ذلكم: اعتقاد بعض الناس أن ليلة النصف من شعبان هي المعنية بقول الله -تعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدخان: 3-4]، وأنها التي يُقدَّر فيها الآجال والأرزاق، وهذا خطأ بين كما نبه على ذلكم أهل العلم، ومن ذلكم قول الإمام ابن كثير -رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية: "من قال إنها ليلة النصف من شعبان فقد أبعد فإن نص القرآن أنها في رمضان أي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم".
ومن ذلكم -عباد الله-: تخصيص بعض الناس ليلة النصف من شعبان بالصلاة وقيام الليل دون سائر الأيام وإحياء تلك الليلة بالذكر والدعاء؛ فهذا -عباد الله- عمل محدث لم يفعله النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولا الصحابة الكرام، ولو فعلوا ذلك لنقل إلينا بالأسانيد الصحيحة، وهو مردود على عامله؛ لعموم قول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".
أما ما يروى في الترغيب بصيام يومها وقيام ليلها من حديث علي -رضي الله عنه- فهو حديث باطلٌ مكذوبٌ على رسول -الله صلوات الله وسلامه عليه-، فلا يحل العمل به، ولذلك قال زيد بن أسلم -رحمه الله تعالى-: "ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان ولا يرون لها فضلًا على ما سواها"، إلا أنه -عباد الله- يستثنى من ذلك من كان له صيام اعتاده كمن اعتاد صيام الخميس أو صيام البيض أو نحو ذلك فإنه يمضي على ما اعتاده من صيام.
عباد الله: ومن ذلكم صنع أطعمة مخصوصة في ليلة النصف من شعبان وتوزيعها بزعم أن لها مزية على غيرها أو أن في ذلك أجراً وثواباً أو نحو ذلك، فهذا مما لا أصل له في شرع الله.
وكذلكم -عباد الله-: الاحتفال في هذه الليلة بالتوسيع على الأهل والأولاد، ونحوهم من القرابات في المطعم والمشرب والملبس، ونحو ذلك، تحت مسميات متنوعات، وهو عمل لا أصل له في شرع الله المطهر، والقول بأنها من العادات أو التقاليد أو من إحياء التراث، وأنها لا دخل لها في الدين هذه -عباد الله- دعوى غير صحيحة، والواقع يكذبها؛ لأنها تعمل على وجه التدين، ويصنع فيها أعمالاً هي من أنواع القربات التي يتقرب بها إلى الله -عز وجل-.
أيها المؤمنون -عباد الله-: إن الواجب على كل مسلم أن يتقي الله -عز وجل- في أعماله وأقواله، وأن يحرص تمام الحرص على لزوم السنة، ومجانبة البدعة، وأن يتيقن أن خير الأمور السالفات على الهدى، وأن شرها المحدثات البدائع.
اللهم وفقنا أجمعين للزوم سنة نبيك الكريم -عليه الصلاة والسلام-، وأعذنا إلهنا وذرياتنا من المحدثات والأمور المبتدعات يا حي يا قيوم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله -تعالى-.
ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول -الله صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ".
لنتأمل هذا الحديث -عباد الله- متذكرين فضل يوم الجمعة وفضل ليلتها، ومع ذلكم قال نبينا -عليه الصلاة والسلام- ما قال من نهي عن تخصيص ليلتها بقيام وتخصيص يومها بصيام، ومن هذا -عباد الله- يستفاد أنه لو كان تخصيص شيء من الليالي بشيء من العبادات جائزاً لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها؛ لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله -صلى عليه وسلم-، فلما حذّر النبي -عليه الصلاة والسلام- من تخصيصها بقيام من بين الليالي دل ذلكم على أن غيرها من الليالي من باب أولى لا يجوز تخصيصها بشيء من العبادات إلا بدليل صحيح ثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدل على التخصيص.
عباد الله: إن الواجب على المسلم أن يتقي الله -جل وعلا-، وأن يحرص على سنة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأن يعرض عن البدع وإن زُيِّنت له فإن جميع البدع مردودة على أصحابها، كما قال نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب الناس يوم الجمعة، قال: "أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ".
ثم اعلموا -رعاكم الله- أن الكيس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمّد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم : "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد. وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعنا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى، اللهم وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفنا عين.
ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201].
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي