فقه البر فيكون في أمورٍ لطيفةٍ يسيرة, للطفِها قد تغيب عن بعضنا بحكم الاعتياد على خلافها, فمن فقه البر: إحسان ندائِهما, فليس من البر مناداة الوالدين باسمهما المجرد أو بأبي فلان, أو الحديث عنه ووصفه بالشايب أو العجوز، ومن أجمل ما ينادى به...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أيها الإخوة: لقد أمَرَ اللهُ -تَعَالَى- عباده وأوصاهم ببر الوالدين؛ فَقَالَ: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء:23- 24], وقَالَ -تَعَالَى-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان:14].
وبر الوالدين من أحبِ الأعمال إلى الله وأفضلِها؛ فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ!, أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟, وفي رواية: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟, قَالَ: "الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟, قَالَ: "ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ"، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟, قَالَ: "الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ", فَسَكَتُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي"(واه البخاري ومسلم).
وبر الوالدين سببٌ في مدِ العُمر وزيادةُ الرزقِ؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ؛ فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"(رواه أحمد وصححه شعيب الأرنؤوط).
وَرِضَا الوَالِدِ من أسبابِ رضا الرب -سبحانه-، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ"(رواه الترمذي وابن حبان وحسنه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-).
أيها الإخوة: بعد سماعكم هذا الفضل, لو سُئلتم: هل أنتم حريصون على برِ والديكم؟, ستقولون بلا شكٍ نعم, لكنَّ واقعَ كثيرٍ منا يقول: لا!؛ فبعض الأبناء والبنات ربما لا يعلمون معنى برِ الوالدين، ويفتقدون فقهه؛ فيقعون في العقوق، وبر الوالدين هو: التَّوسع في الإحسان إليهما، بالقلب والقول والفعل, والرِّفقُ بهما طاعة لله واعترافاً بفضلهما, فيدخل في البرّ جميعُ ما يجبُ على الأبناء فعله تجاه الوالدين من الرّعايةِ والعناية، وبذلِ أحسن المشاعر وأحسن الكلام وأحسن الأفعال، وحُسنَ الطاعة, وخفضَ الجناح, وبذلَ المال لهما، وحُسنَ التّأدّبِ معهما، وطلاقةَ الوجه وحُسنَ المعاشرة، وامتثالَ أمرهما في طاعة الله، ولا يمشي أمامهما، ولا يرفع صوته فوق صوتهما، ويحرص على طلب مرضاتهما ولا يمنُّ عليهما ببرّه، ولا بالقيام بأمرهما، ولا ينظرُ إليهما غاضبًا، ولا يقطّبُ وجهه في وجههما, هذا بعض بر الوالدين.
أحبتي: أما فقه البر فيكون في أمورٍ لطيفةٍ يسيرة, للطفِها قد تغيب عن بعضنا بحكم الاعتياد على خلافها, فمن فقه البر: إحسان ندائِهما, فليس من البر مناداة الوالدين باسمهما المجرد أو بأبي فلان, أو الحديث عنه ووصفه بالشايب أو العجوز، ومن أجمل ما ينادى به الوالدان يا أبي يا أمي يا والدي، أو نحوها وكل حسب لهجته.
ومن فقه البر: عدم مجادلة الأب ومغالبته بالحجة, وقد أكد سلف الأمة على النهي عنه، قال ابن الجوزي قال يزيد بن أبي حبيب: "إيجاب الحجة على الوالدين عقوق", يعني الانتصار عليهما في الكلام, وكذلك السعي لغلبة حجة الولد على حجة الوالدين بالجدال, كما يفعله بعض الناس ممن غاب عنه فقه البر.
ومن فقه البر: طاعتهما ولو أمرا بترك نفل, فقد سُئِلَ الْحَسَنُ فِي الرَّجُلِ تَقُولُ لَهُ أُمَّهُ: أَفْطِرْ قَالَ: "لِيُفْطِرْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَلَهُ أَجْرُ الصَّوْمِ وَالْبِرِّ، وَإِذَا قَالَتْ: لَا تَخْرُجْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَيْسَ لَهَا فِي هَذَا طَاعَةٌ هَذِهِ فَرِيضَةٌ".
ومن فقه البر: فهم حاجة الوالدين والمبادرة بها قبل طلبها؛ وهذا أبلغ وقْعاً في نفوسهما، وفيه حماية لهما من ذل الطلب والمنة، كالمبادرة بإهداء ما يحتاجان, أو هبتهما أجر صدقة أو وقف أو غيره.
ومن فقه البر: الجلوس معهما وتناول بعض الوجبات معهما، وإن كان لك بيت مستقل أو لك أصدقاء أو استراحة، واجعل بعض لياليك لوالديك وكل معهما الغداء أو العشاء، وبادر بخدمتهما واختر لهما أطايب الطعام, وجميلٌ دعوتهما لعشاءٍ في بيتك أو البَرِ أو في مطعمٍ إن كانا يرغبان, قال الحسن البصري لرجل: "تعشَّ العشاء مع أمك؛ تؤانسها, وتجالسها, وتقرُّ بك عينُها، أحبُّ إليّ من حجة تطوُّعاً".
ومن فقه البر: كظم الغيظ إن بدر منهما ما يجرحك أو يزعجك.
ومن فقه البر: أن تظهر لهما حُسن علاقتك بإخوتِك وأخواتِك، والسكوت عما يصيبك من أخطائهم، والتماس المعاذير لهم أمام والديك، وإبداء محاسنهم، وإخفاء مساوئهم؛ فإن ذلك يسُرهما، ولا تحتد في نقاش مع إخوتك، ولا ترتفع أصواتكم في حضرتهما؛ ففيه كسر لقلبيهما، وعدم احترام لمقامهما.
ولا تشعر والديك بأنّ إخوتك لا يهتمون بهما, وأنك البار الوحيد, ولو قصر أحدهم فالتمس له العذر أمام والديك؛ فإن ذلك يسرهما.
ومن فقه البر: ملازمة الوالدين في حال حاجتهما للمساعدة فمن المؤلم أن ترى الرجل الذي له عددٌ من الأبناء الكبار العقلاء، ثم لا تراهم معه في حاجته، إذا احتاج مستشفى أو غيره وتجده بصحبة صديق أو عامل!، وكذلك لا تجدهم معه في المناسبات, واعلم أن صحبتك لوالدك سرور تدخله على قلبه، ويرتفع فيه شأنك وفيه جزيل الأجر لك.
أسأل الله أن يوفقنا لبر والدينا ويرزقنا فقهه, قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه غفور رحيم.
الحمد لله, والصلاة والسلام على رسوله الأمين, وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الإخوة: ومن فقه البر: حسن منعهما مما يضرهما, فمن الآباء والأمهات من يكون مريضاً بسكر أو ضغط أو غيره ويمنع من بعض الطعام, فتجد بعض الأبناء يمنعه بعنف ويحرمه بفضاضة, وهذا من قلة التوفيق, فحري بالولد أن يفعل ذلك بكل لطف وحسن تعامل.
ومن فقه البر: أن لا تفصلك أجهزة التواصل الاجتماعي عن الوالدين، وأن لا تشغلك في مجلسهم عن الحديث معهم؛ ففي هذا استهانة بهما، واعمروا مجالسكم مع والديكم بالأحاديث الجميلة, والأخبار السارة، والهجوا بالدعاء والثناء عليهم وذكر محاسنهم وبذلهم وإحسانهم, وحدثوهما بما يريدان لا بما تريدون، وأشعروهما بأنكم تحبون وتسعدون بخدمتهما؛ فالعامل النفسي من أوسع مجالات البر إذا أحسنت استخدامه, واعلم أن الوالدين قد تضيق نفوسهما وتكثر مطالبهما ويقل صبرهما.
عَنْ أَبِي غَسَّانَ الضَّبِّيِّ: "أَنَّهُ خَرَجَ يَمْشِي بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، وَأَبُوهُ خَلْفَهُ، فَلَحِقَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَمْشِي خَلْفَكَ؟, قَالَ: أَبِي، قَالَ: أَخْطَأْتَ الْحَقَّ وَلَمْ تُوَافِقِ السُّنَّةَ، لَا تَمْشِ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيكَ، وَلَكِنِ امْشِ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ خَلْفَهُ، وَلَا تَدَعْ أَحَدًا يَقْطَعُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَلَا تَأْخُذْ عَرْقًا نَظَرَ إِلَيْهِ أَبُوكَ؛ فَلَعَلَّهُ قَدِ اشْتَهَاهُ، وَلَا تَنْظُرْ إِلَى أَبِيكَ شَزَرًا، وَلَا تَقْعُدْ حَتَّى يَقْعُدَ، وَلَا تَنَمْ حَتَّى يَنَامَ".
ومن فقه البر: أن تعلم أن الإلحاح على الله بالدعاء على برهما يعينك ويوفقك لبر والديك.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم إنَّ الحَقَّ لهما أعظم مما نُقدم، اللهم اغفر لنا تقصيرنا في حقهما, وأعنا على برهما على خير وجه يرضيك عنا, اللهم اغفر لنا ولوالدي، وارحمهما كما ربونا صغاراً.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي