فَأُمُّ سَلَمَةَ تَذْكُرُ انْكِشَافَ قَدَمَيِ الْمَرْأَةِ لَوْ رَفَعَتْ ثَوْبَهَا, فَأَمَرَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ تُرْخِيَهُ ذِرَاعًا سَتْرًا لَهُ, وَظُهُورُ الْقَدَمَيْنِ أَقَلُّ فِتْنَةً مِنْ كَشْفِ الْوَجْهِ؛ فَكَيْفَ تُجِيزُ الشَّرِيعَةُ كَشْفَ الْوَجْهِ مَوْضِعِ الْجَمَالِ وَالْفِتْنَةِ, وَتَأْمُرُ بِسَتْرِ الْقَدَمِ مِمَّا لَا فِتْنَةَ فِيهِ؟!...
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَا يَخْتَلِفُ عَاقِلَانِ أَنَّ فِتْنَةَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْفِتَنِ, قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً؛ أضَرَّ علَى الرِّجالِ مِنَ النِّساءِ"(متفق عليه)؛ وَلِذَلِكَ شَرَعَ اللهُ -تَعَالَى- الْحِجَابَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ؛ صِيَانَةً لَهَا وَلِلرِّجَالِ, وَحِفَاظًا عَلَى الْفَضِيلَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ.
وَالْمَرْأَةُ كُلُّهَا فِتْنَةٌ؛ صُورَتُهَا وَحَرَكَتُهَا وَصَوْتُهَا وَمِشْيَتُهَا, قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ؛ فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ"(رواه الترمذي), وَقَالَ: "إِنَّ الْمَرأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ, وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانِ"(رواه مسلم)؛ أَيْ: فِي فِتْنَتِهَا لِلرِّجَالِ حِينَ تُقْبِلُ, وَتُعَلِّقُ الْقُلُوبَ بِهَا حِينَ تُدْبِرُ!.
وَيَكَادُ يُجْمِعُ النَّاسُ أَنَّ جَمَالَ الْمَرْأَةِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي وَجْهِهَا؛ وَلِذَلِكَ كَانَ الشُّعَرَاءُ مُنْذُ الْقِدَمِ يَتَغَزَّلُونَ بِهِ؛ بَلْ وَبِكُلِّ مَا فِيهِ مِنْ أَعْضَاءٍ!, فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتُرَ مَا يَدْعُو لِلْفِتْنَةِ؛ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ الْحِجَابِ فِي الْإِسْلَامِ, قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ: "إِذَا وَجَبَ سَتْرُ النَّحْرِ وَالصَّدْرِ كَانَ وُجُوبُ سَتْرِ الْوَجْهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْجَمَالِ وَالْفِتْنَةِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ الَّذِينَ يَتَطَلَّبُونَ جَمَالَ الصُّورَةِ لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا عَنِ الْوَجْهِ"(رسالة الحجاب).
أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ: إِنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِ تَغْطِيَةِ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا وَاضِحَةٌ بَيِّنَةٌ, وَكَافِيَةٌ شَافِيَةٌ لِمَنْ أَرَادَ الْحَقَّ, مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْمُحْكَمَ وَيَذَرُ الْمُتَشَابِهَ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:
قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ)[الأحزاب: 59], وَهِيَ وَاضِحَةٌ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ جَمِيعِ الْجَسَدِ, عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَمَرَ اللهُ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا خَرَجْنَ مِنْ بُيُوتِهِنَّ فِي حَاجَةٍ أَنْ يُغَطِّينَ وُجُوهَهُنَّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِنَّ بِالْجَلَالِيبِ", وَقَالَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: "سَأَلْتُ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ عَنْ قَوْلِ اللهِ: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ)؛ فَغَطَّى وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ وَأَبْرَزَ عَيْنَهُ الْيُسْرَى".
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: حَدِيثُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ وَتَأَخُّرِهَا عَنْ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ, تَقُولُ: "وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ المُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ، ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ، قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَدَّلَجَ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي فَعَرَفَني حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيَّ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي؛ فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي..."(متفق عليه), وَفِي رِوَايَةٍ: "فَسَتَرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي"؛ فَمَا الَّذِي دَعَاهَا لِسُرْعَةِ سَتْرِ وَجْهِهَا؛ إِلَّا لِأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّهُ عَوْرَةٌ, وَلَا يَحِلُّ لَهَا كَشْفُهُ لِلْأَجَانِبِ؟!, قَالَ الشَّيْخُ السِّنْدِيُّ: "فِي هَذَا الحَدِيث شَاهِدٌ قَوِيٌّ، وَدَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ عَوْرَةٌ؛ وَلِذَا خَمَّرَتْ وَجْهَهَا الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ"(إتحاف الأحباب).
وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ عَوْرَةٌ, يَجِبُ سَتْرُهُ عَنْ نَظَرِ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ, مِنْهَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَت: "كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحْرِمَاتٌ، فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا؛ سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا ، فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ"(رواه أحمد وأبو داود).
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: قَوْلُهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "تَسْدُلُ الْمَرْأَةُ جِلْبَابَهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا"(سنن سعيد بن منصور).
وَمِنْهَا: حَدِيثُ أَسْمَاءَ -رَضِي اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كُنَّا نُغَطِّي وُجُوهَنَا مِنَ الرِّجَالِ"(رواه الحاكم).
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ امْرَأَةً، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِخِطْبَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْلَمُ"(رواه أحمد)؛ فَنَفْيُ الْجُنَاحِ وَهُوَ الْإِثْمُ عَنِ الْخَاطِبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْخَاطِبِ آثِمٌ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ, وَالْمَعْلُومُ أَنَّ نَظَرَ الْخَاطِبِ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا!.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ: لَمَّا ذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْإِزَارِ مَا ذَكَرَ –أَيْ: تَحْرِيمُ الْإِسْبَالِ-، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ بِالنِّسَاءِ؟ قَالَ: "يُرْخِينَ شِبْرًا", قَالَتْ: إِذًا تَبْدُوَ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ: "فَذِرَاعًا، لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ"(رواه أحمد والنسائي)؛ فَأُمُّ سَلَمَةَ تَذْكُرُ انْكِشَافَ قَدَمَيِ الْمَرْأَةِ لَوْ رَفَعَتْ ثَوْبَهَا, فَأَمَرَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنْ تُرْخِيَهُ ذِرَاعًا سَتْرًا لَهُ, وَظُهُورُ الْقَدَمَيْنِ أَقَلُّ فِتْنَةً مِنْ كَشْفِ الْوَجْهِ؛ فَكَيْفَ تُجِيزُ الشَّرِيعَةُ كَشْفَ الْوَجْهِ مَوْضِعِ الْجَمَالِ وَالْفِتْنَةِ, وَتَأْمُرُ بِسَتْرِ الْقَدَمِ مِمَّا لَا فِتْنَةَ فِيهِ؟!.
قَالَ الشَّيْخُ التِّويجْرِيُّ: "قَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- النِّسَاءَ عَلَى جَعْلِ الْقَدَمَيْنِ مِنَ الْعَوْرَةِ, وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا فِي الْقَدَمَيْنِ؛ فَكَيْفَ بِمَا فَوْقَهُمَا مِنْ سَائِرِ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ, وَلَا سِيَّمَا الْوَجْهُ الَّذِي هُوَ مَجْمَعُ مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ، وَأَعْظَمُ مَا يَفْتَتِنُ بِهِ الرِّجَالُ وَيَتَنَافَسُونَ فِي تَحْصِيلِهِ إِنْ كَانَ حَسَنًا؟! وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِشْقَ الَّذِي أَضْنَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، وَقَتَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ؛ إِنَّمَا كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوُجُوهِ الْحَسَنَةِ، لَا إِلَى الْأَقْدَامِ وَأَطْرَافِ الْأَيْدِي، وَلَا إِلَى الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، وَإِذَا كَانَ قَدَمُ الْمَرْأَةِ عَوْرَةً يَجِبُ سَتْرُهَا، فَوَجْهُهَا أَوْلَى أَنْ يُسْتَر".
عِبَادَ اللهِ: رَغْمَ كَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَوُضُوحِهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلِة إِلَّا أَنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ يَكْشِفْنَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ؛ مُتَذَرِّعَاتٍ بِوُجُودِ خِلَافٍ فِي الْمَسْأَلَةِ, وَإِجَازَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ!؛ مُسْتَدِلِّينَ بِبَعْضِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ, وَأَنَّهَا تَسْتَثْنِي الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ مِنْ حَدِّ الْعَوْرَةِ!, وَأَكْثَرُ النِّسَاءِ لَا يَبْحَثْنَ عَنِ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ وَلَا يُهِمُّهُنَّ الدَّلِيلُ؛ الْمُهِمُّ عِنْدَهُنَّ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ وَيُبِيحُهُ!, وَرُبَّمَا تَرَكْنَ مَذْهَبَهُنَّ الَّذِي نَشَأْنَ عَلَيْهِ إِلَى أَقْوَالٍ أُخْرَى مَرْجُوحَةٍ؛ تَسَاهُلًا وَتَتَبُّعًا لِلرُّخَصِ, وَهَذَا لَيْسَ بِمَسْلَكِ أَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يَبْحَثُونَ عَنْ حُكْمِ الشَّرْعِ لِيُطَبِّقُوهُ, وَلِسَانُ حَالِهِمْ: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)[النور: 51].
وَبَيَانًا لِمَسْلَكِ الْمُجِيزِينَ لِكَشْفِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، سَأَكْتَفِي بِإِيرَادِ أَقْوَى مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ؛ آيَةٍ وَحَدِيثٍ, ثُمَّ بَيَانُ الْحَقِّ فِيهِمَا؛ فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ -تَعَالَى-: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)[النور: 31]؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) قَالَ: "وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا", وَقَدْ مَرَّ مَعَنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ) بِتَغْطِيَةِ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا بِجِلْبَابِهَا!, وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ قَوْلُهُ: "وَالزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ: الْوَجْهُ، وَكُحْلُ الْعَيْنِ، وَخِضَابُ الْكَفِّ، وَالْخَاتَمُ؛ فَهَذِهِ تَظْهَرُ فِي بَيْتِهَا لِمَنْ دَخَلَ مِنَ النَّاسِ عَلَيْهَا"(تفسير الطبري), فَوَاضِحٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهَا مِنْ مَحَارِمِهَا غَيْرِ الزَّوْجِ, وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ قَوْلَهُ: "وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا".
وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ (مَا ظَهَرَ مِنْهَا)؛ هُوَ الزِّينَةُ الْخَارِجِيَّةُ, وَالثِّيَابُ الظَّاهِرَةُ؛ لِاسْتِحَالَةِ سَتْرِهَا, وَيُؤَيِّدُ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ أَنَّ لَفْظَ الزِّينَةِ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ الثِّيَابُ الْخَارِجِيَّةُ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31]؛ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: "وَالزِّينَةُ: اللِّبَاسُ".
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ: "أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِى بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ: "يَا أَسْمَاءُ! إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا" وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ"(رواه أَبُو دَاوُدَ وقَالَ: هَذَا مُرْسَلٌ).
وَيَكْفِي لِرَدِّ اسْتِدْلَالِهِمْ بِهِ تَضْعِيفُ أَبِي دَاوُدَ لَهُ, وَالْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ الضَّعِيفُ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ, فَضْلًا أَنْ يَثْبُتَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ, تُرَدُّ بِهِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الثَّابِتَةُ, قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِينَ: "فَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ لَا يُقَاوِمُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْحِجَابِ, وَأَيْضًا فَإِنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ لَهَا حِينَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً, فَهِيَ كَبِيرَةُ السِّنِّ؛ فَيَبْعُدُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ تَصِفُ مِنْهَا مَا سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ!"(رسالة الحجاب).
وَلَوْ سَلَّمْنَا جَدَلًا بِصِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ الصَّرِيحَةَ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ جَمِيعِ الْجَسَدِ بِمَا فِيهِ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ, وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى مَا قَبْلَ الْحِجَابِ, قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: "وَأَمَّا حَدِيثُ أَسْمَاءَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ؛ فَنَحْمِلُهُ عَلَيْهِ"(المغني), وَقَالَ الْقَارِي: "قَوْلُهَا: "وَعَلَيْهَا ثِيَابُ رِقَاقٍ" بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رَقِيقٍ؛ وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ الْحِجَابِ"(مرقاة المفاتيح).
وَمِنْ هُنَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ كُلَّ الْأَدِلَّةِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى جَوَازِ كَشْفِ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا لَا تَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ أَبَدًا؛ إِمَّا لِأَنَّهَا -عَلَى قِلَّتِهَا- أَدِلَّةٌ صَحِيحَةٌ غَيْرُ صَرِيحَةٍ, أَوْ صَرِيحَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ! فَهِيَ لَا تُنَاهِزُ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الْكَثِيرَةَ الْوَاضِحَةَ فِي وُجُوبِ سَتْرِ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا, وَأَنَّهُمَا عَوْرَةٌ كَسَائِرِ جَسَدِهَا.
أَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
إِخْوَةُ الْإِيمَانِ: قَدْ يُشْكِلُ عَلَى بَعْضِنَا تَصْرِيحُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ بِأَنَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنَ لَيْسَا بِعَوْرَةٍ, وَكَلَامُهُمْ هَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ, وَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ بِهِ -غَالِبًا- عَوْرَتَهَا فِي الصَّلَاةِ؛ وَلِذَا فَإِنَّهُمْ يَذْكُرُونَهُ فِي حَدِّ عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلَاةِ, قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي (بَابِ كَيْفِيَّةِ لُبْسِ الثِّيَابِ فِي الصَّلَاةِ): "وَكُلُّ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ، إِلَّا كَفَّيْهَا وَوَجْهَهَا"(الأم), قَالَ السُّبْكِيُّ: "الْأَقْرَبُ إِلَى صَنِيعِ الْأَصْحَابِ: أَنَّ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا عَوْرَةٌ فِي النَّظَرِ، لَا فِي الصَّلَاةِ"(مغني المحتاج), قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "فَلَيْسَتِ الْعَوْرَةُ فِي الصَّلَاةِ مُرْتَبِطَةً بِعَوْرَةِ النَّظَرِ لَا طَرْدًا وَلَا عَكْسًا"(مجموع الفتاوى).
فَالْوَجْهُ عَوْرَةٌ؛ بَلْ هُوَ مَجْمَعُ مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ, قَالَ الْجَصَّاصُ: "الْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ مَأْمُورَةٌ بسَتْرِ وَجْهِهَا مِنَ الْأَجْنَبِيِّ", وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: "وَالْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ؛ بَدَنُهَا وَصَوْتُهَا، فَلَا يَجُوزُ كَشْفُ ذَلِكَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ"، وَقَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: "وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ فِيهِ صُورَةٌ، وَأَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُلَثَّمًا، وَالْمَرْأَةُ مُنْتَقِبَةً، إِلَّا أَنْ تَكُونَ فِي مَكَانٍ وَهُنَاكَ أَجَانِبُ لَا يَحْتَرِزُونَ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَلَا يَجُوزُ لَهَا رَفْعُ النِّقَابِ", قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: "وَالْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ عَوْرَةٌ كُلُّهَا حَاشَا مَا لَا يَجُوزُ لَهَا سَتْرُهُ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ", وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: "وَفِيهِ تَغْطِيَةُ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا عَنْ نَظَرِ الْأَجْنَبِيِّ, سَوَاءً كَانَ صَالِحًا أَوْ غَيْرَهُ".
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْحِجَابَ فَرِيضَةٌ عَلَى الْمَرْأَةِ, وَلَا يَكُونُ كَامِلًا إِلَّا بِسَتْرِ جَمِيعِ جَسَدِهَا بِمَا فِيهِ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ, فَلْتَحْذَرْ نِسَاؤُنَا مِنْ أَنْ تُخْدَعَ أَوْ تَتَسَاهَلَ, وَلْتَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ دِينٌ شَرَعَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَى الْمُؤْمِنَاتِ؛ كَمَا شَرَعَ عَلَيْهِنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ, وَسَتُسْأَلُ كُلُّ مَؤْمِنَةٍ عَنْ حِجَابِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ الْتَزَمَتْ بِهِ أَمْ فَرَّطَتْ فِيهِ؟؛ فَالثَّبَاتَ الثَّبَاتَ.
وَلْتَعْلَمِ الْمُسْلِمَةُ أَنَّ بِدَايَةَ التَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ, وَكَشْفَ الشُعُورِ وَالصُّدُورِ؛ يَبْدَأُ بِكَشْفِ الْوَجْهِ أَوَّلًا, ثُمَّ لَا يَنْتَهِي إِلَّا بِإِغْرَاقِ الْمُجْتَمَعَاتِ فِي وَحْلِ الْفَسَادِ, وَحَسْبُكَ رِيبَةً فِي الْأَمْرِ أَنَّ مَنْ يَتَبَنَّى دَعْوَةَ النِّسَاءِ إِلَى كَشْفِ وُجُوهِهِنَّ هِيَ مَنَابِرُ النِّفَاقِ, وَحَمَّالُو رَايَاتِ الْإِفْسَادِ غَالِبًا, فَلْتَحْذَرْ بَنَاتُنَا أَنْ تَكُونَ أَحَدَ الْفَاتِحَاتِ لِهَذَا الْبَابِ؛ (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النساء: 27].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي