لقد خصّ الله هذا البيتَ بخصائص عظيمة، فأوّل خصيصة له أنّ الله جل وعلا افترض على كلّ مسلم قادر زيارته والطوافَ به، فليس على بقعة الأرض موضعٌ يُشرع أن يُطاف به إلا بيت الله الحرام، ولا موضعٌ يُشرع تقبيله أو استلامه وتُحَطُّ الخطايا والأوزار إلا الحجر الأسود والركن اليماني، فإن الحجر الأسود يُشرَع تقبيله مع الإمكان أو استلامه، والركن اليماني يُشرع استلامُه، وما سوى ذلك فلا يجوز ..
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله: يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرهِيمَ وَإِسْمَـاعِيلَ أَن طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَلْعَـاكِفِينَ وَلرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَدًا آمِنًا وَرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرتِ مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِللَّهِ وَلْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَـاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَـاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَلْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [البقرة:125-129].
معشرَ المسلمين: بيتُ الله الحرام أفضلُ بُقعةٍ على وجه الأرض، اختارها الله من بين سائر البقاع، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ) [القصص:68]. اختاره الله حرمًا لنبيّه وموضعًا لأداء نُسُكِه، وأوجب على المسلمين على كلّ مسلم قادر زيارةَ هذا البلد الأمين في عُمره مرّة، زيارتَه والطواف به، وألزم المسلمين احترامَه، فلا يدخلونه إلا خاضعين متذلِّلين متجرّدين من لباس الدنيا تعظيمًا لهذا البيت، فجعل أداءَ النسُك ركنًا من أركان الإسلام، فمن أتاه حاجًّا أو معتمرًا فلا يدخله إلا محرمًا من المواقيت التي حدّدها الشارع لذلك.
أيها المسلم: جعل الله هذا البيتَ مثابةً للناس، مثابةً لهم بمعنى: يثوبون إليه ويقصدونه ولا يقضون منه وطَرًا، كلما أتوه [تأكّد] تعلُّق قلوبهم به وازدادت محبتهم له، وجعله الله آمنًا، (مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْنًا)، جعله الله حرمًا آمنًا، وأوجب على كلّ مسلم احترامَ أمن هذا البلد، أوجب على كلّ مسلم أن يحترم أمن هذا البلد وأن يعرفَ لهذا البلد مكانه وفضله، فهو حرم الله، مهوى أفئدةِ المسلمين، فلا بدّ أن يكون حرمًا آمنًا، فأوجب الله احترام أمنه، وجعل ذلك دينًا يَدين العبد بذلك لربه، (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت:67]، (أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء) [القصص:57].
والخليل عليه السلام عندما فرغ من بناء البيت سأل الله لهم هذه النعمة فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَدًا آمِنًا وَرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرتِ) [البقرة:126]، فسأل الله لهم الأمنَ قبل أن يسأله لهم الرزقَ، ولهذا جاء أمنُه عامّا للإنسان والحيوان وحتى الطير، يقول صبيحة اليوم الثاني من أيام الفتح خاطبًا في الناس مبيِّنًا لهم فضلَ هذا البلد الأمين: "إن الله حرم هذا البلد يومَ خلق السموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحلَّ القتالُ فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شوكه، ولا ينفَّر صيده، ولا تُلتَقط لُقطته، ولا يُختلى خلاه"[1]، وفي لفظ قال: "وإن أحدٌ ترخّص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أحلَّها لنبيه ساعةً من نهار، ثم عادت حرمتُها كما كانت"[2].
هكذا الإسلام يُعظِّم أمنَ هذا البيت، ويوجب على المسلم احترام أمنه، ويخبرنا ربنا تعالى أن من همّ في هذا البيت بمعصية فإن الله يُعاجله بالعقوبة بمجرّد همّه وإن لم يفعل: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25]، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ فمجرّدُ إرادة الإلحاد فيه بالظلم والعدوان فيه فإنّ الله يذيقه العذابَ الأليم، ذلك أنّه أخلّ بأمن هذا البلدِ الأمين. وقد جعل الله أمنَ هذا البلدِ وقصدَه بالحجّ والعمرةِ سببًا لقيام الناس وأمنِهم من العذاب العظيم: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) [المائدة:97]، فما دام هذا البيت يُزار حجًّا وعمرة فالخلق في أمان من العذاب العظيم؛ لأنّ وجودَ هذا البيت في أمن واستقرار سببٌ لأمن العالم كلِّه.
أيّها المسلمون: لقد خصّ الله هذا البيتَ بخصائص عظيمة، فأوّل خصيصة له أنّ الله جل وعلا افترض على كلّ مسلم قادر زيارته والطوافَ به، فليس على بقعة الأرض موضعٌ يُشرع أن يُطاف به إلا بيت الله الحرام، ولا موضعٌ يُشرع تقبيله أو استلامه وتُحَطُّ الخطايا والأوزار إلا الحجر الأسود والركن اليماني، فإن الحجر الأسود يُشرَع تقبيله مع الإمكان أو استلامه، والركن اليماني يُشرع استلامُه، وما سوى ذلك فلا يجوز؛ إذ الطواف بقبورِ الأولياء والأنبياء ونحوهم شركٌ أكبر وذنب لا يُغفَر، لأنه طواف وعبادةٌ لغير الله، أما طواف المسلمين ببيت الله فهي عبادة لله، (فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ) [قريش:3، 4].
من خصائص هذا البلد الأمين أنه أول بيت وُضع في الأرض لعبادة الله، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لّلْعَـالَمِينَ * فِيهِ ءايَـاتٌ بَيّـنَـاتٌ مَّقَامُ إِبْرهِيمَ) [آل عمران:96، 97].
ومن خصائص هذا البلد الأمين أنه قبلةٌ للمسلمين في عموم الأرض، (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة:144]، فهو قِبلة المسلمين في أيّ بقعة من بقاع الأرض.
ومن خصائصه: أنّه خير أرض الله وأحبُّ أرض الله إلى الله، لما أراد النبيّ الهجرةَ من مكّة إلى المدينة وقف قليلاً عند الحزوَّرة وقال: "والله، إنّك لخير أرض الله، وإنّك أحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منك ما خرجت"[3]، وفي لفظ قال: "ما أطيبَك وما أحبَّك إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما سكنتُ بلدًا غيرك"[4] صلوات الله وسلامه عليه.
ومن خصائص هذا البلد الأمين: أن الصلاة فيه مضاعفةٌ بمائة ألف صلاة فيما سواه، يقول : "صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاةٌ في المسجد الحرام خير من صلاة في مسجدي بمائة مرة"[5].
أيها المسلمون: ومن خصائصه أنّ الله افترض زيارته على المسلم في عمره مرّة إن كان قادرًا، وما سواه فإنّ زيارته مستحبّة أو مباحة، أمّا البلد الأمين فمُختصّ بوجوب الزيارة في العمُر مرّة؛ لأن ذلك أحد أركان الإسلام.
أيها المسلمون: ومن خصائص هذا البلد الأمين أنّ العمرةَ أو الحجّ سبب لحطّ الخطايا ومحو السيئات ومضاعفة الأجور، يقول : "العمرة إلى العمرة مكفِّرات لما بينهنّ، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"[6]، وقال أيضًا: "تابعوا بين الحجّ والعمرة، فإنما ينفيان الفقر والذنوبَ كما ينفي الكير خبثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحج المبرور جزاء سوى الجنة"[7].
أيّها المسلم: إنّ هذه الخصائص لبيت الله الحرام خصائص شرعية، فهو بلد الله، أقسم الله به في كتابه العزيز: (لاَ أُقْسِمُ بِهَـاذَا الْبَلَدِ) [البلد:1]، (وَهَـاذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ) [التين:3]. هي أم القرى فلها على كلّ القرى تميُّز، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءانًا عَرَبِيًّا لّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) [الشورى:7].
أيّها المسلم: فاعرف لهذا البلد أمنَه، واعرف له فضله، واحترم أمنَه، وإياك والإلحادَ فيه، اقصده حاجًّا أو معتمرًا ابتغاء وجه الله، وتقرّب إلى الله فيه بصالح العمل، واعرف أن مكانه مكانٌ عظيم ذو فضل وشرف، فإياك والإخلالَ بذلك بمعاصي الله القوليّة أو الفعليّة، وأعظمها الشرك بالله ودعاء غيْر الله وقصد غير الله وتعلّق القلب بغير الله، فكلّ ذلك مما ينافي إسلامَك. إن هذا البيت أقيم على توحيد الله، وأُسِّس على عقيدة التوحيد الخالصة لله جل وعلا.
إنّ الله تعالى اختار هذا البلدَ الأمين ليكون منطلقًا لرسالة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، فهو وُلد بمكة، وبُعث بها، وأقام بها حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة، ومع هجرته إلى المدينة بقي لهذا البيت مكانتُه، وبقي له فضله، فعلى المسلم أن يحترمَ ذلك ويعلم أن أيّ سيئة في الحرم فهي مضاعفة في قدرها، فحسنة بالحرم لها فضلها، وسيئة بالحرم لها عقوبتُها تناسب حالها.
فعَلى المسلم تقوى الله، وعليه أن يتقي الله ويعلمَ لهذا البلد أمنَه وحرمتَه، ويقف عند حدّه، ولا يسمح لنفسه بسوء في ذلك البلد الأمين، فإن هذا لا يصدر إلا عمّن في قلبه مرض ونفاق، أما المؤمن الذي يخاف الله ويرجوه فيعرف لهذا البلد أمنَه واحترامه، ويعلم أنه من أشرف البقاع وأفضلها، لا يليق فيه الظلم والعدوان، ولا انتهاك حرمته ولا الإخلال بأمنه ولا ترويع حاجّه ومعتمره، بل يعلم أنّ هذا من الكبائر، من العظائم الدالّةِ على أنّ في قلبه مرضًا، (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) [الحج:25]، فكيف تعرِّض نفسَك لعذاب الله وأنت تدري وتعلم فضلَ هذا المكان؟! أسأل الله أن يوفّق الجميع لما يحبّه ويرضاه.
وإنّ من نِعم الله على المسلمين في هذه الأزمنة المتأخرة أن هيّأ لهذا البلد من يقوم بخدمته، ويحمي أمنَه، ويرعى شؤونه بأمرٍ ما سبق للعالم بعد العهود الأولى وبعد الخلفاء الراشدين، من هذه النعمة العظيمة، فالحرم ولله الحمد آمن مطمئنّ، رغدًا سخاءً، توفّرت فيه النعم والخيرات والأمنُ والاستقرار والقيام بالواجب، فوفّقَ الله القائمين عليه لكلّ خير، وأعانهم على كلّ خير، وأدام على هذا البلد أمنه واستقراره وطمأنينته.
فالمسلم هكذا يحترم أمنَ هذا البيت، منطلقاً من إيمانه بالله وإيمانه برسول الله وقبوله لشرع الله، فالأمن لهذا البلد الأمين واحترامه وتقديره أمر مطلوبٌ من المسلم، ولهذا روى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال: "لا يحلّ حمل السلاح بالحرم"[8]، فنهى النبيّ عن حمل الأسلحة في الحرم لأنّ حملها ربّما يُسبِّب شرًّا، فنهى عن ذلك لتبقى واحةَ أمان واطمئنان واستقرار كما أراده الله. فعظّموا ما عظّم الله لعلّكم تفلحون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله: إنّكم في هذه الأيامِ في أيام عشر ذي الحجّة، تلك الأيامُ المباركة، وتلك الأيام المفضّلة، وتلك الأيام التي فيها الخير الكثيرُ والعطاء الجزيل من ربّ العالمين، فعظّموا هذه الأيامَ رحمكم الله، عظموها كما عظَّمها ربكم، وكما عظَّمها نبيّكم، فالله يقول: (وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) [الحج:28]، والأيام المعلومات هي أيام عشر ذي الحجة.
هذه العشر تشتمل على يومين: يوم عرفة وهو ركن أساسيّ من أركان الحج، وتشتمل على يوم النحر وهو يوم عظيم من أيام الله.
يقول نبيّكم: "ما من أيّام العمل الصالح أحبّ إلى الله فيهنّ من هذه الأيام"، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء"[9].
فأكثروا -رحمكم الله- فيها من ذكر الله، من تسبيحه وتكبيره وتحميده والثناءِ عليه، وتقرّبوا إلى الله بما يرضيه من صالح العمل، فصيامها سنّة، والإكثارُ من طاعة الله في هذه الأيام من تلاوة القرآن من نوافل العبادة من بذل المعروف من تفريج كرب المكروبين والتيسير على المعسرين وإعانة المحتاجين والملهوفين، فإن ذلك عمل صالح لمن وفّقه الله.
واعلموا -رحمكم الله- أنّ من سنة نبيّكم أن المسلم إذا أراد أن يذبَح أضحيةً عن نفسه أو تبرّع بأن يذبحها عن مسلم من أقاربه أو غيره أن السنةَ له أن لا يأخذ من أظافره ولا من شعره شيئًا حتى يضحّي، تقول أم سلمة: إنّ النبيَّ قال: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره"[10]. قال بعض العلماء: "إنّ الأضحية فيها تكفيرٌ للذنوب، فلعلّ التكفير يعمّ جميع أجزاء البدن"، ومهما كان فالمهمّ أن نبيَّكم نهاكم عن ذلك، وهو خاصّ بمن يذبح الأضحيةَ عن نفسه، أو يذبحها تبرّعًا عن غيره، أما من يذبحها وكيلاً فلا يتعلّق به الحكم، وأما المضحَّى عنهم فلا يتعلّق بهم الحكم، إنما يتعلّق بالمضحِّي نفسه الذي ذبح أضحية أو تبرّع بها عن غيره.
وكما هو مستقرّ لدى المسلمين أن الأضحية عبادةٌ لله وشعيرة من شعائر الإسلام، دلّ على فضلها كتابُ الله وسنة نبيّه، يقول الله جل وعلا: (وَلِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنْعَـامِ) [الحج:34]، ونبيّنا حافظ على الأضحية مدّة بقائه في المدينة كما أخبر بذلك عبد الله بن عمر[11]، وهو كان يُعلن هذه السنةَ ويعلي شأنَها، فأخبرنا أنس رضي الله عنه أنه إذا صَلّى أُتي بكبشين أقرنين، فوضع رجله على صِفاحهما يسميّ ويكبّر ويذبحهما بنفسه [12]، إعلانًا لهذا الشعيرة ورفعًا من منزلتها.
أيّها المسلم: سنة محمّد في الأضاحي سنةٌ فيها الاعتدال والوسطية، يقول أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: "كان الرجل منا في عهد النبي يضحّي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون، ثم تباهى الناس فصاروا كما ترى"[13]. فسنة محمد أن تُعلَن هذه الشعيرة، فيضحّي الرجل عن نفسه وأهل بيته بشاة واحدة تكون مجزئة، ولا حاجة إلى تعدّدها عن فلان وفلان، أمّا وصايا الأموات السابقة فهذه تنفّذ لأن الأصلَ فيها الجواز، لكن الابتداء السنةُ صاحبُ البيت وراعي البيت يذبح أضحيةً واحدة، يقول: اللهم تقبّلها منّي ومن آبائي وأمهاتي وأولادي وبناتي ومَن في بيتي، فتكفيهم شاةٌ واحدة عن الجميع، ليس الهدف كثرة لحمها، ولكن الهدف التقرّب إلى الله، (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) [الحج:37].
ولا تؤَدَّى السنّة بالتصدّق بقيمتها؛ لأن إراقة دمها أمرٌ مقصود للشارع، فإخراج قيمتها لا أصلَ له.
وهناك أمر مهمٌّ آخر هو أن بعض المسلمين في قلبه عاطفة خير وحبّ للخير ولمنفعة المسلمين، فربّما أرسل بأضاحيه وبقيمتها إلى غير بلده لتُراق هناك، يقول: "هم أحقِّ منا وأحوج"، نعم، عاطفةٌ طيّبة، لكن -يا أخي- هذه عبادة خاصّة، ينبغي أن تشرِف عليها وأن تتأكّد من ذبحها، وإذا أردتَ التبرّع بالخير فباب الخير مفتوح لك، لكن الأضحية شعيرة من شعائر الإسلام، يجب المحافظةُ عليها، وأن يشعُر الأجيال بها، وأن ينقلها خلفُنا عن سلفنا، حتى تُحيَى هذه السنة، وتُحيَى هذه العبادة، فنبيّكم حافظ عليها، يضحّي بكبشين: أحدهما عن محمد وآل محمد، والثاني عمّن لم يضحِّ من أمّة محمد، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين. يحيي هذه السنة، ويذبحها في المصلَّى، رفعًا لشعيرتها وإشعارًا للناس بأهمّيّتها، فلا تغفلوا عنها رحمكم الله، والأمر يسير شاةٌ واحدة عن الرجل وأهل بيته كثروا أم قلّوا.
إخواني: كلَّ عام تعلن حملات الحجّ برامجَها وأحوالها وماذا ستقدّمه للحجاج معها، ولكن للأسف الشديد بعد انقضاء الموسم كلٌّ يذكر عن حملته ما فيها من نقصٍ وما فيها من قصور وما فيها من إخلال بما التزموه للحجيج، وليعلم هؤلاء أن هذه أمانة اؤتُمنوا عليها فليتقوا الله فيها، ولا يقولوا للناس شيئًا ويخالفوه، (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِلْعُقُودِ) [المائدة:1]، فالعقد واجبٌ الوفاء به، فمتى نشرتَ برنامجَك وحالتك وماذا ستقدّم للحجيج فالتزم بما قلتَ نصًّا، وأما أن تعطِيَ الناس كلامًا ثم تخالفه في الواقع من غير خجلٍ ولا حياء فلا يجوز لك، إمّا تخصم من هذه التكلفة قدرَ ما أخللتَ به وقدر ما تساهلتَ به، وإلا فالواجب الالتزام.
وليحذر المسلمون الكذب والخيانةَ والخديعة، تخدع الناس وتنشر لهم شيئًا، فإذا انتهى الموسم كلٌّ يذكر عن هذه الحملة وما أخلّت به وما قصّرت فيه، ويعتذرون أحيانًا بأن يحمّلوا هذه لغيرهم ويقولوا كذا وكذا إلى آخره، والله يعلم أن كثيرًا منهم غير صادق فيما يقول، فليتقوا الله، وليحرصوا على إكمال نُسُكهم معهم، ولا يحملنّهم الطمع أن يخلّوا بمناسكهم أو يخِلّوا بما التزموا به من الشروط، فالمؤمنون صادقون فيما يقولون، (يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّـادِقِينَ) [التوبة:119].
فليحذر أربابُ الحملات ما كانوا عليه في كثير من الأعوام من الإخلال بما التزموا به والتقصير فيما قطعوه على أنفسهم، ليتقوا الله وليؤدّوا الواجب، وإذا قصّروا وأخلّوا فليدفعوا لمن معهم مقابلَ ما أخلّوا به، وأما أن يتساهلوا بذلك ويحمّلوا أخطاءهم غيرَهم وكأنهم خارجون من كلّ المسؤولية هذا أمر لا يليق بالمسلمين.
أسأل الله أن يوفّقني وإياكم لصالح القول والعمل، وأن يوفّقنا لما يحبّه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا -رحمكم الله- أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد، وشرّ الأمور محدثاتُها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا -رحمكم الله- على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
______________
[1] أخرجه البخاري في الحج (1834)، ومسلم في الحج (1353) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في الحج (1832)، ومسلم في الحج (1354) عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (4/305)، والترمذي في المناقب (3925)، وابن ماجه في المناسك (3108) عن عبد الله بن عدي رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب صحيح"، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (3/68)، وابن حبان (3708)، والحاكم (4270)، وابن حجر (3/67)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3082).
[4] أخرجه الترمذي في المناقب (3926)، والطبراني في الكبير (10/267، 270)، والبيهقي في الشعب (3/443، 444) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (3709)، والحاكم (1787)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3083).
[5] أخرجه أحمد (4/5)، وعبد بن حميد (521)، والبزار (425 ـ الزوائد ـ)، والبيهقي في الكبرى (5/246) عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، واختلف في رفعه ووقفه، وصححه ابن حبان (1620)، وقال ابن عبد البر في التمهيد (6/26): "هو حديث ثابت لا مطعن فيه لأحد"، وقال (6/23): "من رفعه أحفظ وأثبت من جهة النقل، وهو أيضا صحيح في النظر لأن مثله لا يدرك بالرأي، ولا بد فيه من التوقيف، فلهذا قلنا: إن من رفعه أولى"، وحسنه النووي في شرح صحيح مسلم (9/164)، وصححه القرطبي في تفسيره (9/372، 19/21)، والمنذري في الترغيب (2/139)، وقال الهيثمي في المجمع (4/4-5): "رواه أحمد والبزار والطبراني، ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح". وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر وجبير بن مطعم وعائشة وميمونة رضي الله عنهم.
[6] أخرجه البخاري في العمرة (1773)، ومسلم في الحج (1349) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (1/387)، والترمذي في كتاب الحج، باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة (810)، والنسائي في كتاب الحج، باب: فضل المتابعة بين الحج والعمرة (2631) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه ابن خزيمة (2512)، وابن حبان (3693)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1200). وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم.
[8] صحيح مسلم: كتاب الحج (1356) نحوه.
[9] أخرجه البخاري في كتاب العيدين (969) عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[10] أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي (1977).
[11] أخرج أحمد (2/38)، والترمذي في الأضاحي (1507) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقام رسول الله بالمدينة عشر سنين يضحي، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وفي إسناده الحجاج بن أرطاة مدلس وقد عنعن، ولذا أورده الألباني في ضعيف سنن الترمذي (261).
[12] أخرجه البخاري في الأضاحي (5554، 5564، 5565)، ومسلم في الأضاحي (1966) بنحوه.
[13] أخرجه مالك (1050)، والترمذي في الأضاحي (1505)، وابن ماجه في الأضاحي (3147)، والطبراني في الكبير (4/137)، والبيهقي (9/268)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في الإرواء (1142).
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي