وقد تعرَّض أنبياءُ الله وأُمَناءُ الوحي لعدد من المُتعَنِّتين على مر العصور, إلاَّ أنَّ بعضهم وصَلَ به الأمر أن ادَّعَى أنه ربُّ العالمين, فأيَّدَ اللهُ -تعالى- أولياءه بِحُجَجٍ قاهرة, ودلائِلَ باهرة, وأدلَّةٍ قاصِمَة, وصواعِقَ مُرسَلَة تُدَمِّر أباطيلَهم, وتنسف افتراءاتهم...
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أمَّا بعد: وُجودُ اللهِ -تعالى- أمْرٌ ثابِتٌ في الأنفُس, مُتَمَكِّنٌ في الفِطَر, مَغْروس في الأفئدة, لا يحتاج إلى دليل, ولا يتطلَّب إثباتًا؛ ولكن بعض ذوي الفِطَر المنكوسة, والعقليات المُتَعنِّتة قد يُجادِلون في ذلك؛ مع أنه مَغْروس في ضمائرهم: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)[النمل: 14].
وقد ينخدع بأضاليلهم بعضُ عَدِيمي الفهم, وقليلي العلم, فجاء القرآنُ العظيم مزدهراً بآياتٍ تَنْطِق بالعظمة, وتَشْهد بالربوبية, وتَدْحَض مزاعِمَ المارِقين: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ)[الطور: 35].
وقد تعرَّض أنبياءُ الله وأُمَناءُ الوحي لعدد من المُتعَنِّتين على مر العصور, إلاَّ أنَّ بعضهم وصَلَ به الأمر أن ادَّعَى أنه ربُّ العالمين, فأيَّدَ اللهُ -تعالى- أولياءه بِحُجَجٍ قاهرة, ودلائِلَ باهرة, وأدلَّةٍ قاصِمَة, وصواعِقَ مُرسَلَة تُدَمِّر أباطيلَهم, وتنسف افتراءاتهم, وتُزلْزِل كياناتهم, وتُظهِرُ سُخْفَ عقولهم, وقِلَّةِ فَهْمِهم.
قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[البقرة: 258]. والحديث هنا؛ عن مَلِكِ بابِلَ "نُمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ" الذي أنعَمَ اللهُ عليه بِمَمْلَكةٍ كبيرة, يُقال: إنها استمرت أربعمائة سنة, فلم يشكر النِّعمة, ولم يُقَدِّر المَلِكَ الحقَّ, والخالِقَ الأجلَّ -سبحانه وتعالى-؛ بل طَغَى وتجبَّر, وعتا وتكبَّر, وكان مَغْروراً بِأُبَّهةِ المُلْك, ومخدوعاً بزينة الدنيا, ومحفوفاً بِعَمالِقَة العَسْكَر؛ فادَّعى الرُّبوبيةَ من دون الله -تعالى-.
أقبَلَ هذا المَغْرورُ الجاهِلُ المُعانِدُ إلى إبراهيمَ -عليه السلام- لِيُحاجَّه في ربه, ويُعانِدُه في دعوته, ويُرِيد هزيمتَه أمام الملأ؛ حينها أدلى إبراهيمُ -عليه السلام- بالدليل الأوَّل على وجود الله -تعالى- وربوبيته فقال: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)؛ أي: هو المُنفرِدُ بأنواع التَّصرُّف، وخَصَّ منه الإِحياءَ والإماتةَ؛ لكونهما أعظم أنواع التدابير، ولأنَّ الإحياءَ مبدأ الحياة الدنيا, والإماتةَ مبدأ ما يكون في الآخرة.
فقال النُّمْرُودُ: و(أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)! ولم يقلْ "أنا الذي أُحيي وأُميت"؛ لأنه لم يَدَّعِ الاستقلالَ بالتَّصرُّف، وإنما زَعَمَ أنه يفعل كَفِعْلِ الله, ويصنع صُنْعَه، فزعم أنه يقتل شخصاً فيكون قد أماتَه، ويستبقي شخصاً فيكون قد أحْيَاه!! وهذه حُجَّةٌ واهِية, ورَدٌّ سَخِيف.
فلما رآه إبراهيمُ -عليه السلام- يُغالِطُ في مُجادلته, ويتكلَّم بشيءٍ لا يصلح أنْ يكون شُبهةً فضلاً عن كونه حُجَّة، اطَّرَدَ معه في الدليل, وتدرَّجَ معه في المُحاجَّة, فأتاه بالضَّربةِ القاضية, والحُجَّةِ الدَّامغة فقال: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ)؛ أي: هذه الشمس مُسَخَّرة كلَّ يوم تطلع من المشرق, كما سَخَّرَها خالِقُها ومُسيِّرها وقاهِرُها, وهو الله الذي لا إله هو خالِقُ كلِّ شيء.
فإنْ كنتَ كما زعمتَ أنك تُحيي وتُميت؛ فأْتِ بهذه الشمس من المغرب, فإنَّ الذي يُحيي ويُميت هو الذي يفعل ما يشاء, ولا يُمانَع ولا يُغالَب؛ بل قد قَهَرَ كلَّ شيء, ودان له كلُّ شيء, فإنْ كنتَ كما تزعم فافْعَلْ هذا, فإنْ لم تَفْعَلْه فلَسْتَ كما زعمتَ, وأنتَ تعلم أنكَ لا تقدر على شيءٍ من هذا, بل أنتَ أعجَزُ وأقَلُّ وأذَلُّ من أنْ تَخْلُقَ بعوضةً, أو تتصرَّف فيها.
فبيَّنَ ضلالَه وجهلَه وكذِبَه فيما ادَّعاه, وبُطلانَ ما سلكه وتبجَّح به عند جَهَلَةِ قومِه, ولم يبقَ له كلامٌ يُجِيب الخليلَ به, بل انقطعَ وسكتَ؛ ولهذا قال -تعالى-: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)؛ أي: تَحَيَّرَ فلم يرجِعْ إليه جواباً, وانقطعتْ حُجَّتُه, وسقطتْ شُبهتُه؛ لأنه قال له أمراً لا قوةَ له في شُبهةٍ تُشوِّشُ دليلَه، وهذه حالةُ المُبْطِلِ المُعانِدِ الذي يُريد أنْ يُقاوِمَ الحقَّ ويُغالِبَه، فإنه مغلوب مقهور، فلذلك قال -تعالى-: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، بل يُبْقِيهم على كُفرِهم وضَلالهم، وهم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك، وإلاَّ فلو كان قَصْدُهم الحقَّ والهدايةَ لهداهم إليه, ويَسَّرَ لهم أسبابَ الوصولِ إليه.
ففي هذه الآية برهانٌ قاطِعٌ على تفرُّدِ الربِّ بالخَلْقِ والتَّدبير، ويلزم من ذلك أنْ يُفردَ بالعِبادةِ, والإنابةِ, والتوكُّلِ عليه في جميع الأحوال.
الحمد لله..
أيها المسلمون: وكما حاوَرَ إبراهيمُ النمرودَ, حاور موسى فرعونَ؛ فقد حدَثَ معه المَوقِفُ نفسُه, والقضيةُ ذاتُها؛ إذْ وقَفَ في وجهه فرعونُ الذي كان يقول: (أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى)[النازعات: 24]، ويقول: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[القصص: 38].
وتأمَّلوا معي؛ كيف وقف فرعونُ في وجه موسى -عليه السلام- مُناظِراً ومعانداً: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)[الشعراء: 23-28].
فتدرَّجَ معه موسى -عليه السلام- في المُحاجَّة والمُناظرة, وهو لا يرعوي ولا يرتدع, فوجَّه له سهماً قاتِلاً كالسَّهم الذي وجَّهَهُ الخليلُ -عليه السلام- للنُّمْرُود, فقال: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)؛ أي: هو الذي جعل المَشْرِقَ مَشْرِقاً تطلع منه الكواكب, والمغربَ مَغْرِباً تغرب فيه الكواكب, وهو الله لا إله إلاَّ هو, خالِقُ الظَّلامِ والضِّياء, ربُّ السماءِ والأرض, ربُّ الأوَّلَين والآخِرِين, خالِقُ الشمسِ والقمر, والكواكِبِ السَّائِرَةِ والثَّوابِتِ الحائِرَة, خالِقُ الليلِ بظلامِه, والنهارِ بضيائه, والكلُّ تحت قهرِه وتسخيرِه وتَسْييره سائرون, وكلٌّ في فَلَكٍ يسبحون, يتعاقبون في سائر الأوقات ويَدُورون.
عباد الله: ولمَّا قامَتْ الحُجَجُ على فِرعونَ, وذَهَبَتْ شُبَهُه وغُلِبَتْ, وانقطعَتْ حُجَّتُه, ولم يبقَ له قَولٌ سِوَى العِناد؛ عَدَلَ إلى استعمال جاهِهِ وقُوَّتِه, وسُلطانِه وسَطْوَتِه, واعتقَدَ أنَّ ذلك نافِعٌ له, ونافِذٌ في موسى -عليه السلام- فقال: (لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ)[الشعراء: 29]، إلى آخِرِ ما قَصَّ اللهُ -عز وجل- عنه, حتى قَصَمَه اللهُ سبحانه قاصِمُ الجبابِرَة, وأخَذَهُ أخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِر.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي