هو خير كله

أحمد بن عبد العزيز الشاوي
عناصر الخطبة
  1. تأملات في أمثلة نموذجية ومثالية في الحياء .
  2. فضائل الحياء وأهميته .
  3. خطورة نزع الحياء من المجتمع .
  4. أقسام الحياء وأفضله .
  5. الحياء المحمود والمذموم .
  6. تربية الأبناء على الحياء. .

اقتباس

خُلُقٌ تآمَر الأعداء على هَدْمه بمعاولهم؛ لأنهم يدركون أنه يوم أن يتهاوى من مجتمع ستتهاوى من بعده الأخلاق والقيم.. خُلُق أصبح اليوم ضحية الانفتاح، والخُلُق المفقود في المسلسلات والأفلام، خُلُق يُرَاد نَزْعه من شبابنا وفتياتنا لكي يفعلوا ما شاءوا بلا وازعٍ...

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

قفوا قليلاً -أيها المسلمون- وعيشوا مع النموذجية والمثالية، وتفيؤوا ظلال شجرة الخلق الرفيع: مر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ليلاً فسمع امرأة تقول:  

تطاول هذا الليل واخضل جانبه *** وأرّقني أن لا خليل ألاعبه

فوالله لولا الله لا رب غيره *** لحرّك من هذا السرير جوانبه

مخافة ربي والحياء يصونني *** وإكرام بعلي أن تُنال مراكبه

وهذا مثالٌ وأنموذج آخر للمرأة العفيفة، إنها ابنة الرجل الصالح تنحدر من بيت كريم ينضح بالعفاف والطهر والصيانة وحسن التربية (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ)[القصص: 25]، قال عمر -رضي الله عنه-: "ليست بسلفع من النساء خرَّاجة ولَّاجة، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كُمّ درعها على وجهها استحياء".

(تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة حين تلقى الرجال، على استحياء في غير ما تبذُّل ولا تبرُّج ولا تبجُّح ولا إغواء، جاءته لتنهي إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره وأدله (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)[القصص: 25].

وهذا مثال من بيت النبوة، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كنت أدخل البيت الذي دُفِنَ فيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي -رضي الله عنه- واضعة ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر -رضي الله عنه- فوالله ما دخلته إلا مشدودة عليَّ ثيابي؛ حياءً من عمر -رضي الله عنه-"؛ فلله درّك يا أم المؤمنين، حياءً حتى من الأموات.

تلك نماذج تُعبّر عن خُلُق من أخلاق الإسلام، هو قرين الإيمان، وأمارة صادقة على طبيعة الإنسان، يكشف عن قيمة إيمانه ومقدار أدبه. هو خير كله، وكله خير، ولا يأتي إلا بخير.

خُلُق تآمر الأعداء على هدمه بمعاولهم؛ لأنهم يدركون أنه يوم أن يتهاوى من مجتمع ستتهاوى من بعده الأخلاق والقيم.. خُلُق أصبح اليوم ضحية الانفتاح، والخُلُق المفقود في المسلسلات والأفلام، خُلُق يُرَاد نَزْعه من شبابنا وفتياتنا لكي يفعلوا ما شاءوا بلا وازعٍ ولا رادعٍ، وينشأ مجتمع منحلّ لا يعرف معروفًا ولا يُنكر منكرًا.

إنه الحياء ما كان في شيء إلا زانه، وما نُزِعَ من شيء إلا شانه، ولو تجسَّم الحياء لكان رمزًا للصلاح والإصلاح. إنه الحياء من الله والناس والنفس والذي تسلطت عليه سهام من يريدون أن تميلوا ميلاً عظيمًا؛ فظهرت آثار ذهابه في مشاهد تشمئز منها نفوس العقلاء والفضلاء، يعقبها التهوين والتبرير والتماس الأعذار وتجلّى في قلة من النساء وطئن الحياء بعباءات متبرجة وألبسة في الأعراس عارية وضحكات عالية ومحادثات مع الرجال جريئة ومكاء وتصدية.

إنه الحياء الذي داسه نَزْر من شبابنا في الحدائق والأسواق والطرقات ومجامع النساء بتحرُّش ومضايقات، وألبسة مزرية وقصّات مضحكة، ورفع لأصوات المعازف، وجرأة على محارم الله.

إنه الحياء الذي يُوأَد بقَلْب الحقائق، ولَبْس الحق بالباطل، وتضليل الناس؛ فالتدين تشدُّد، والتمسُّك بالآداب تطرُّف وتزمُّت، والاستمساك بعُرَى الفضيلة تأخُّر ورجعيَّةٌ وكَبْتٌ للحرية.

إنه الحياء الذي يُولَد مع الفطرة والأبوان يبقيانه أو ينزعانه، وبداية نزعه يوم أن نتساهل في حجاب بناتنا الصغيرات بذريعة صغرهن.. ويوم أن ندع صغارنا ضحايا للمسلسلات والألعاب وبرامج التواصل.

إنه عندما ترى المرء يتحرج من فعل ما لا ينبغي، أو ترى حُمرة  الخجل تصبغ وجهه إذا بدَر منه ما لا يليق؛ فاعلم أنه حيّ الضمير نقيّ المعدن زكيّ العنصر.. والحياء والإيمان قرناء جميعًا؛ فإذا رُفِعَ أحدهما رُفِعَ الآخر، وحينما يَفْقِد المرء حياءه يتدرج من سيئ إلى أسوأ، ويهبط من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل.

إنَّ أعظم الحياء هو الحياء من الله الخالق الرازق الذي نتدثّر بنعمه، ونتقلب بآلائه؛ فلنستح من الله أن يرانا حيث نهانا أو يفتقدنا حيث أمرنا، ولنستح من الله، ونحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولنذكر الموت والبلى، ولنستح من الله على قَدْر قُرْبه منا واطلاعه علينا.

إن من الحياء ما كان في الكلام، وهو يتطلب من المسلم أن يُطهّر لسانه من الفحش ويتنزه عن العيب، وأن يخجل من ذِكْر العورات، وإنَّ مِن سُوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها.

وإنَّ مِن الحياء أن يخجل الإنسان من أن يُؤْثَر عنه سوء؛ وأن يحرص على بقاء سمعته نقية من الشوائب، بعيدة عن الإشاعات السيئة. ومن حياء الإنسان مع الناس أن يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم، وأن يُؤْتِي كلَّ ذِي فضل فضله؛ فللغلام مع من يكبرونه وللتلميذ مع من يعلمونه مسلك يقوم على التأدب والتقدير، فلا يسوغ أن يرفع فوقهم صوته، ولا أن يجعل أمامهم خَطْوه.

والحياء المحمود يحجز النفس عن كثير من خوارم المروءة وقوادح الدين، وينأى عن الرذائل ويحجز عن السقوط في سفاسف الأخلاق وحمأة الذنوب. وإذا كان الحياء محمودًا فثمة حياء لا يرضاه الله، وهو الحياء من حق يقوله أو أمر ديني يفعله (وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ)[الأحزاب: 53].

فإن مَن فرط عليه الحياء حتى منعه من الحق؛ فقد ترك الحياء من الخالق، واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا حرم منافع الحياء واتصف بالنفاق والرياء (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ)[النساء: 108]، والذي يتهيّب تقريع المبطلين لا يُعتبر حييًّا، ففي موقف الاحتساب والانتصار للحق، وفضح العقائد الفاسدة والتهوين من شأن الباطل يعتبر الحياء فيها ضعفًا وخورًا ومهانة.

فلا ينبغي الحياء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا في المطالبة بالحقوق ولا في تعليم الجاهل ولا في السؤال عما لا نعلم، فلا يتعلم العلم مستحٍ ولا متكبّر، وقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: "نِعْمَ النساء نساءُ الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين".

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه...

الخطبة الثانية

أما بعد: إن من الواجب علينا أيها المسلمون أن نربّي أبناءنا وبناتنا منذ الصغر على هذا الخلق الأصيل؛ فإن الغصون إذا عدَّلتها اعتدلت، ولا تلين إذا كانت من الخشب. في مستهل حياة الطفل الصغير يبرز خلق الحياء ويأخذ طريقه إلى النمو، وهنا تظهر أهمية المربي في تنميته واستثماره.

قال الإمام الغزالي: "ومهما رأى المربي في الصغير مخايل التميز فينبغي أن يحسن مراقبته وأول ذلك ظهور أوائل الحياء؛ فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ويترك بعض الأفعال، فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه حتى يرى بعض الأشياء قبيحًا ومخالفًا للبعض، فصار يستحي من شيء دون شيء، وهذه هدية من الله -تعالى- إليه، وإشارة تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب وهو مبشّر بكمال العقل عند البلوغ، فالصبي المستحي لا ينبغي أن يُهمَل بل يُستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه".

اغرسوا الحياء في نفوس صغاركم بمراقبتهم عن مخالطة السفهاء أو سماع لغو الكلام ثم أخذهم بسير الصالحين ومجالستهم تثبيتا لدعائم هذه الفضيلة بحلول الصحبة المباركة.. وكم يخطئ الأب حين يدفع بولده باسم الحرية ليجالس مَن شاء، ويسمع مِن الأغاني الهابطة ما شاء، ويترك البنت تلبس ما تشاء اعتمادًا على قوة خُلُقهم وثقتهم بأنفسهم، وتمر الأيام وإذا بصور الخلاعة والمجون والتفسخ تترك آثارها في نفوسهم ليواجهوا الحياة بعد ذلك بإرادة خدَّرتها تلك الصور وهذه الأغاني وذاك اللباس.

اغرسوا الحياء في نسائكم بالنأي بهن عن مجامع الرجال؛ فإنه كلما زالت الحواجز بين الرجال والنساء كلما قويت معاول هدم الحياء.. وما شيء أهدم للحياء من المعازف والغناء؛ فصونوا أسماعكم عن مزامير الشيطان وصوته واغرسوا في قلوب من تحت أيديكم بُغْض تلك الأصوات المحرمة وكره مجالسها.

علِّموا نساءكم أن الحياة بالحياء، وأن كشف الوجوه وتمييع الحجاب هو هَدْم لحصن الحياء، فما كشفت امرأة وجهها إلا تجرَّأت على مخالطة الرجال وممازحتهم ومحادثتهم، ومن عندها يبدأ مسلسل الانحراف.. نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء. وإنما الصبر عند الصدمة الأولى؛ فإذا حققت الأسرة في هذا المضمار نجاحًا خفَّ حملها في المستقبل؛ لأنها قدمت من أمسها لغدها، ومن حاضرها لمستقبلها. وإنما الحياة بالحياء والتوفيق من رب الأرض والسماء.

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي