أيها المؤمنون: إن لرمضان شأنًا خاصًا في موجبات دخول الجنة وموجبات النجاة من النار؛ لأن تفتيح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار في رمضان يشير إلى أن القلوب -قلوب أهل الإيمان- تنبعث في رمضان إلى الإقبال على الطاعات والخيرات والعبادات والقربات التي هي...
إن الحمد لله؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسله، وصفيُّه وخليلُه، وأمينُه على وحيه، ومبلِّغ الناس شرعَه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-، وراقبوه سبحانه في سرِّكم وجهركم وفي جميع شؤونكم؛ مراقبةَ من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه، واعلموا أن تقوى الله هي خير زادٍ يبلِّغ إلى رضوان الله.
أيها المؤمنون: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ"، وهذا من الخصوصيات التي خص الله -تبارك وتعالى- بها شهر رمضان المبارك، شهر الخيرات والبركات، والعطايا والهبات.
أيها المؤمنون: وقد أفاد هذا الحديث العظيم أن لرمضان شأنًا خاصًا في موجبات دخول الجنة وموجبات النجاة من النار؛ لأن تفتيح أبواب الجنة وإغلاق أبواب النار في رمضان يشير إلى أن القلوب -قلوب أهل الإيمان- تنبعث في رمضان إلى الإقبال على الطاعات والخيرات والعبادات والقربات التي هي موجباتٌ لدخول الجنة، وتنبعث كذلك إلى البُعد عن المناهي وتجنُّبها والحيطة من الوقوع فيها، والتي هي موجباتٌ لدخول النار، فرمضان -أيها المؤمنون- شهر يُظفر من خلاله بعليِّ الرتب، ورفيع الدرجات والمنازل، ويكون من خلاله نجاةٌ من النار وسخط الجبار، ويكفي علَمًا ودليلًا على ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر: "وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ" أي من ليالي رمضان.
أيها المؤمنون: والمؤمنون في رمضان ليسوا على رتبة واحدة في أعمالهم وقرباتهم وتعبُّداتهم لله -جل في علاه-، بل بينهم تفاوت عظيم، وبونٌ شاسع كبير؛ ولهذا فإن الأجور تتفاوت والثواب يتفاوت بحسب تفاوتهم في الأعمال: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يعْمَلُونَ)[آل عمران: 163]، والأجور -عباد الله- على قدر الأعمال، قال الله -تعالى-: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الأحقاف: 19]، وفي هذه الآية إيقاظٌ للقلوب، وعظةٌ للنفوس، وأن يتنبَّه العبد أن درجاته في الآخرة ومنازله فيها بحسب أعماله وقرباته: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49]، وإذا كانوا في تفاضلٍ عظيم وبونٍ شاسع في هذه الحياة الدنيا فإن الآخرة أكبرُ درجاتٍ وأكبرُ تفضيلا.
أيها المؤمنون: وهذا يدعو المرء الناصح لنفسه أن يتنبَّه في رمضان وفي غير رمضان إلى ما به يكون الصعود والعلو والرفعة في الدرجات، وإلى الحذر مما به النزول والسفول والانحطاط في الآثام والسيئات؛ لأن الطاعات -عباد الله- رفعةٌ وعلو، والمعاصي نزولٌ وسفول، وبحسب حظ العبد من الأعمال الصالحات تكون رفعة درجاته وعلو منازله ومراتبه في الدار الآخرة، وكذلك بحسب سيئاته وآثامه تكون دركاته وهلكاته في الدار الآخرة، والله -جل وعلا- يقول في شأن المطيعين: (نرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ)[يوسف: 76]، ويقول الله -جل وعلا-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة: 11]، فالناصح لنفسه -عباد الله- يجاهد نفسه جهادًا عظيما على تحقيق ما به علو درجاته، وعلى السلامة أيضا مما يكون به النزول والسفول والانحطاط.
عباد الله: ومسألة الصعود والنزول -أعني الصعود بالطاعة والنزول بالمعصية- مسألةٌ عظيمة للغاية، جديرٌ بكل مسلم أن يكون على بصيرة بها؛ لأن سعادته متوقفة على ذلك.
عباد الله: وشأن الصعود عجب؛ فقد يكون صعود المرء إلى درجات عالياتٍ رفيعات بأمرٍ من طاعة الله لا يُلقي له بالا ولا يظن أنه يصل به إلى تلك المنازل، وفضل الله واسع، وقد يكون النزول والسفول بكلمة واحدة أيضا لا يلقي لها بالا فيهوي بها هويًّا سحيقا؛ ففي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ"، وفي لفظ لمسلم "يَهْوِى بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ".
عباد الله: تأمل في هذا المقام قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، والحديث في صحيح البخاري: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْل الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"؛ صيام رمضان صعودٌ وعلوٌ ورفعة، لكن إذا اكتنف هذا الصيام قول زورٍ وجهلٍ وآثامٍ وأنواعٍ من الباطل كان الأمر بسبب ذلك فواتًا للأجر ونزولًا وهوًيا وانحطاطا. فيجب على المسلم أن يكون ناصحًا لنفسه، وأن يستفيد من هذه المدرسة مدرسة الصيام العظيمة ليتزود منها بزاد التقوى الذي به رفعته وعلو درجاته ومنازله عند الله وبه كذلك نجاته وسلامته ووقايته من سبل الانحطاط والسفول، يقول الله -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم.
الحمد لله كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المؤمنون -عباد الله-: وإذا كانت الشياطين تصفَّد في رمضان فإنها تُعدُّ فرصة عظيمة ومناسبة كريمة؛ لأن يتزود المسلم في هذا الشهر الذي فيه تصفد الشياطين ومردة الجن ليأخذ من أعمال رمضان وطاعاته وبركاته العظام ما يكون له سلاحًا واقيًا ومُنجيا من الشيطان الرجيم، ففي رمضان عفوٌ ومعافاة، وعطايا وهبات، وبركات متنوعات، ومن أدرك ليلة القدر وأكثر فيها من سؤال العفو متوسلًا إليه بعفوه جل في علاه نجا بإذن الله، ووُقي من الشرور ومن أعظمها شر الشيطان.
أعاذنا الله وذرياتنا وأهلينا والمسلمين من همزه ونفخه ونفثه، وهدانا إليه صراطا مستقيما، وأصلح لنا شأننا كله إنه سميع قريب.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم آمِن حدودنا، واحفظ جنودنا، وهيء لنا من أمرنا رشدا، وأصلح لنا شأننا كله يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، اللهم ووفقه وولي عهده لما فيه صلاح الإسلام وعز المسلمين يا رب العالمين.
اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا نسألك غيثًا مغيثا، هنيئًا مريئا، سحًّا طبقا، نافعًا غير ضار، عاجلًا غير آجل.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[البقرة: 201]..
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي