ترى الواحد منا إذا دخل المسجدَ بَدَأَتِ الوساوسُ، والأفكارُ، والانشغالُ بأمور الدنيا في ذِهْنِه، فما يَشعُر إلا وقد انتهى الإمامُ مِن صلاته، وحينئذٍ يَتحسَّر على صلاتِه التي لم يَخشَع فيها، ولم يَذُقْ حلاوتَها، وإنما كانت مجرَّدَ حركاتٍ وتمتمات؛ كجسد بلا روح...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الحَمْدَ للَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً، أَمَّا بَعْدُ:
فيا أيها الناس: في ظل أزمة كورونا, نعيش شيئا من الفقد, نعم؛ فقدنا أشياء كنا نستمتع بها ولا نشعر بفضلها, لم يكن يخطر ببالنا أننا سنفقدها يوما ما, ولكن الله ابتلانا بهذا الوباء؛ لنتعرف على النعم الخفية التي ألفناها, فلم نشكرها, ولم نقدرها حق قدرها, وبالتالي لم نشكر المولى عليها!.
كثيرة هي النعم التي فقدناها هذه الأيام, ولعلنا نحاول استحضار النعم الباقية فنشكرها قبل أن نسلبها, عياذا بالله من ذلك!.
سنتحدث -بإذن الله- في هذه الخطبة عن نعمة التراص في الصفوف, والتي كانت أكبر معين على الخشوع في الصلاة, حيث كان كل واحد منا يحمي صاحبه من الشيطان, عندما يقترب من أخيه ليسد الفرج؛ فيطرد الشيطان من دخول الصف, فلا يوسوس للمصلين, والآن ومع هذا التباعد قل الخشوع بل اندثر إلا من قلة من المجاهدين, الذين تذوقوا الخشوع من قبل التباعد, فشعروا بمرارة الفقد, فجاهدوا أنفسهم ليحافظوا عليه.
معاشر المسلمين: قال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون: 1، 2]، فلما ذَكَر بقيَّةَ صفاتهم، ذَكَر جزاءهم، فقال: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[المؤمنون: 10، 11]؛ قال الحَسَن البصريُّ -رَحِمَه اللهُ- في قوله -تعالى-: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)، قال: "كان خشوعُهم في قلوبهم، فغَضُّوا بذلك أبصارَهم، وخفضوا لذلك الجَناح", قال ابن القيم: "علَّق اللهُ فلاحَ المُصَلِّين بالخشوع في صلاتهم، فدلَّ على أنَّ مَن لم يَخْشَعْ فليس مِن أهل الفلَاح، ولو اعتدَّ له بها ثوابًا، لكان مِن المفلحين" .
والخشوع يأتي بِمَعْنَى لِينِ القلبِ، ورقَّتِه، وسُكونِه، فإذا خَشَعَ القَلبُ تَبِعَه خشوعُ الجوارح؛ لأنَّها تابعةٌ له, أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث النُّعمان بن بشير -رضِيَ الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا وإنَّ في الجسَد مُضْغةً، إذا صَلَحَتْ صَلَح الجسَدُ كلُّه، وإذا فسَدَتْ فسَدَ الجسَدُ كله، ألا وهي القلب"؛ ولذلك كان النبي -صلَّى الله عليه وسلم- في صلاته يقول: "خَشَعَ لكَ سمعي، وبصري، ومُخِّي، وعَظمي، وعصبي"(أخرجه مسلم في صحيحه).
وأخرج أحمد في مسنده من حديث عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذاتَ يوم، فَنَظَر في السماء، ثم قال: "هذا أوانُ العِلْم أن يُرْفَع"، فقال له رجلٌ مِن الأنصار، يُقال له: زياد بن لبيد: "أيُرْفَع العِلْمُ يا رسول الله!، وفينا كتابُ اللهِ، وقد عَلَّمْناه أبناءَنا ونساءَنا؟!"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنْ كنتُ لأظنُّك مِن أفقهِ أهلِ المدينة"، ثم ذَكر ضلالةَ أهلِ الكتابيْن وعندهما ما عندهما مِن كتاب الله -عز وجل-، فلقِيَ جُبيرُ بنُ نُفيرٍ شدَّادَ بْنَ أَوْسٍ بِالمُصَلَّى، فَحَدَّثَهُ هذا الحديثَ عن عوف بن مالك، قال: صَدَقَ عوفٌ، ثم قال: "فهل تدري ما رَفْعُ العِلْم؟"، قال: قلتُ: لا أدري، قال: ذَهاب أَوْعِيَتِهِ، قال: وهل تدري أيُّ العِلْم أوَّلُ أن يُرْفَع؟, قال : فقلتُ: لا أدري، قال: "الخشوع، حتى لا تكاد ترى خاشعًا".
لذا ترى الواحد منا إذا دخل المسجدَ بَدَأَتِ الوساوسُ، والأفكارُ، والانشغالُ بأمور الدنيا في ذِهْنِه، فما يَشعُر إلا وقد انتهى الإمامُ مِن صلاته، وحينئذٍ يَتحسَّر على صلاتِه التي لم يَخشَع فيها، ولم يَذُقْ حلاوتَها، وإنما كانت مجرَّدَ حركاتٍ وتمتمات؛ كجسد بلا روح!, قال ابن القيم -رحمه الله-: "صلاةٌ بلا خشوعٍ ولا حضورٍ؛ كبَدَنٍ ميِّتٍ لا رُوحَ فيهِ, فإنه ليس للعبد مِن صلاته إلا ما عقَلَ منها", أخرج أبو داود في سننه من حديث عمَّار بن ياسر -رَضِيَ الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وإنَّ الرجُل لَينصَرف وما كُتِبَ له إلا عُشْرُ صلاتِه، تُسعُها، ثُمنُها، سُبعُها، سُدسُها، خُمسُها، رُبعُها، ثُلثُها، نِصفُها".
والخشوعُ في الصلاة إنما يحصُل لِمَن فَرَّغَ قلبَه لها، واشتَغَل بها عمَّا عَدَاها، وآثرَها على غيرها، وحينئذٍ تكون له قُرَّةَ عيْن, أخرج النسائي في سننه من حديث أنس -رضي الله عنه- أنَّ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "حُبِّبَ إليَّ مِن الدُّنيا النساءُ والطِّيب، وجُعِلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلاة", بل إنه -عليه الصلاة والسلام- كان إذا حَزَبَهُ أمْرٌ صَلَّى، وكانَ يقولُ: "قُمْ يا بلال! فَأَرِحْنا بِالصلاة"(أخرجه أبو داود في سننه),
اللهم اجعلنا من الخاشعين في صلاتهم يا رب العالمين, أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فيا أيها الناس: إن الخشوع هو لب الصلاة, والتي ينبغي على العبد أن يحرص على تذوقه في الصلاة, فالخشوع لا يحصل للمسلم في صلاته إلا بمجاهدة ومثابرة, وهناك أمور تُعين على الخُشُوع في الصلاة, منها:
أولًا: أنْ يَسْتَحْضِرَ المُسْلِمُ عَظَمَةَ البارِي -سبحانه وتعالى-، وأنه واقفٌ بين يَدَيْ جبارِ السماوات والأرض، قال -تعالى-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزمر: 67].
ثانيا: تدبُّر القُرْآنِ الكريم والأذكار التي يقولها في صلاته, قال -تعالى-: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24], فإذا تدبَّر المسلمُ أذكارَ الركوعِ والسجود، وغيرَها منَ الأذكار، كان ذلك أوعَى للقلب، وأقربَ للخُشُوع.
ثالثا: أن يُهَيِّئ المصلِّي نفسَه، فلا يُصلِّي وهو حاقِنٌ، ولا بحضْرة طعامٍ، وليس قلبه متعلقا بشيء من أمور الدنيا, أخرج مسلم في صحيحه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا صلاةَ بحضْرَةِ الطَّعامِ، ولا وهو يُدافعُه الأَخْبَثَانِ", وأن يُزيل كلَّ ما يَشغله في صلاته منَ الزخارف والصوَر ونحوها؛ فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي في خَمِيصَةٍ ذاتِ أعلامٍ، فنظر إلى عَلَمِها، فلما قَضَى صلاته قال: "اذهَبوا بهذه الخميصة إلى أبي جَهْمِ بنِ حذيفةَ، وائتوني بأَنْبِجَانِيِّه؛ فإنها أَلْهَتْنِي آنفًا في صَلاتي".
رابعا: مُجَاهَدَة النفْس على الخُشُوع؛ فالخُشُوع ليس بالأمر السَّهْل، فلا بدَّ منَ الصبر والمجاهدة, قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69]، ومع الاستمرار والمجاهدة يَسْهُل الخُشُوعُ في الصلاة.
خامسا: استحضار الثوابِ المُتَرَتِّب على الخشوع, أخرج مسلم في صحيحه من حديث عثمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما مِن امرئٍ مسلم تَحْضُره صلاةٌ مكتوبة، فيُحسِن وضوءها، وخشوعَها، وركوعَها، إلا كانتْ كفَّارةً لما قبْلها منَ الذنوب، ما لم يُؤت كبيرة، وذلك الدهرَ كلَّه".
اللهم ارزقنا الخشوع في الصلاة على ما ورد في السنة, وأذقنا لذة مناجاتك يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي